كانت ييرينا ترتدي ثيابًا سوداء، وتمشي بحذرٍ شديد، وكأنّ الخوف قد تملّكها، حتّى وهي متّكئة على المرأتين عن يمينها ويسارها.
ومع ذلك، لم تكن خطواتها مضطربة، ولا اختلّ توازنها.
كان فريدريك يسير خلفها مباشرة، يراقبها، فتذكّر ما قالته له المرأة التي عرّفت نفسها بأنّها مرضعة الأميرة.
‘لقد تلقّت سموّ الأميرة تعليمًا خاصًّا منذ صغرها، بأمرٍ من جلالة الملك الراحل.’
‘تعليم؟ أيّ نوعٍ من التعليم؟’
‘منذ أن كانت في الرابعة من عمرها…… دُرِّبت على أن تعيش حتّى ولو غُطّيت عيناها. تدريبًا مستمرًّا.’
‘ولِمَ؟’
‘لا نعلم السبب على وجه الدقّة. قيل لنا إنّه تقليدٌ قديم في العائلة المالكة…….’
‘وهل رأيتِ أميرةً أخرى خضعت لمثل هذا؟ من الجيل السابق مثلًا؟’
‘لا. أصلًا، نادرًا ما تُرزق عائلةُ سِيداس بأميرات.
سموّ الأميرة ييرينا وُلِدت بعد زمنٍ طويل، ولذلك كان فرحُ جلالة الملك بها فرح عظيمًا.’
لم يعرف فريدريك السبب، لكنّ ملكَ سِيداس الراحل أخضع ابنته لتعليمٍ غريب.
كأنّه كان يتوقّع يومًا ما أن تفقد بصرها.
‘ألَمْ تكن هي نفسها تعرف السبب؟’
تردّد فريدريك وهو ينظر إلى ظهر ييرينا المغطّى بوشاحٍ أسود، ثمّ هزّ رأسه نافيًا.
فحتّى لو سألها، لا ضمان أن تجيبه بصدق، وهي التي لا تُخفي عداءها له.
ثمّ إنّ هذا الأمر لا علاقة له بمهمّته أصلًا.
وفوق ذلك، لم يكن الوقت مناسبًا لمثل هذه الأفكار.
التفت قليلًا إلى الخلف، وزفر في سرّه.
فأن يكون حارسًا للأميرة كان مرهقًا بما فيه الكفاية، فكيف وقد أضيف إليه تصرّفُ سيّده غير المفهوم.
‘……ما الذي يفكّر فيه سموّه بحقّ؟’
خلف فريدريك، وعلى مسافةٍ قصيرة، كان روشان يسير.
لكنّه كان بارعًا في إخفاء وجوده، كما أنّ ييرينا، التي لا ترى، لم تشعر به إطلاقًا.
‘طلبتِ الأميرة السماح لها بزيارة المكان الذي وُضِعَ فيه أفراد العائلة المالكة الراحلون. ما رأيك؟’
‘اسمحوا لها. أرسِلوها.’
‘نعم. سنذهب حالًا.’
‘……انتظر.’
‘هل من أوامر أخرى؟’
كان روشان قد أوصى فريدريك مسبقًا بألّا تشعر الأميرة بوجوده.
‘سأذهب أنا أيضًا. لكن إيّاك أن تعلم الأميرة بوجودي.’
كان أمرًا من السيّد، فامتثل فريدريك دون اعتراض.
لكنّ شعورًا بالضيق تسلّل إلى صدره، كأنّه يخدع الأميرة خدعةً كبيرة.
‘أيّ خداع؟ لم نُخبرها فحسب. ثمّ وما شأن ذلك؟ إنّها مجرّد أسيرة. لا داعي للاهتمام.’
وبينما كان يتمتم بضيقٍ وينظر إلى ظهرها، تعثّرت ييرينا بحصاةٍ صغيرة.
“آه!”
كان واضحًا أنّ المرأتين ستُمسكان بها، لكنّ فريدريك تحرّك قبل أن يفكّر.
اندفع خطوةً إلى الأمام، وأمسك كتفها بقوّة.
“آه، يؤلمني!”
كان ألمُ كتفها أشدّ من التواء قدمها، فصرخت بنبرةٍ حادّة.
انتفض فريدريك، وسحب يده بسرعة، وتراجع خطوة.
نظر إلى يده لحظة، ثمّ انحنى معتذرًا.
“أعتذر.
حين رأيتكِ توشكين على السقوط تحرّك جسدي من تلقاء نفسه.”
لم تُجبه ييرينا، بل أومأت برأسها إيماءةً خفيفة، ثمّ توجّهت إلى الأمام من جديد، وأشارت للمرأة بجانبها أن تتابع السير.
أومأ فريدريك للمرأة الأخرى بعينيه، ففهمت قصده.
لكنّ المرأة ارتبكت فجأة، وخفضت رأسها.
شعرت ييرينا بشيءٍ غير طبيعيّ، فأمالت رأسها نحوها.
“هل هناك شيء؟”
“ل، لا. هناك حصاةٌ أخرى أمامنا، أردتُ فقط إزاحتها بقدمي. سنكمل السير.”
كان أمرُ روشان بعدم إشعار الأميرة بوجوده قد وصل أيضًا إلى المرأتين.
لذلك سارعت إلى اختلاق عذرٍ وتابعت المشي.
ومع أنّها خطت إلى الأمام، شعرت ييرينا بشيءٍ خلفها، فمالت برأسها قليلًا إلى الوراء.
وحين توجّهت نظرتها غير المرئيّة إلى الخلف، التفت فريدريك معها لا شعوريًّا.
وعندها رأى سيّده، فتجمّد مكانه.
كان روشان قد اقترب بصمتٍ، ولم يبقَ بينهما سوى خطوات.
وكانت عيناه الحمراوان، اللامعتان كياقوتٍ مصقول، معلّقتين بوجه الأميرة، تلمعان برطوبةٍ غريبة.
كان في نظرته شيءٌ من جنونٍ قاتم.
ولأنّ سيّده لم يُظهر يومًا اهتمامًا بامرأة، لم يستطع فريدريك إخفاء دهشته.
ربّما لاحظ روشان ما ظهر على وجه تابعه، فتحوّلت نظراته نحوه ببطء.
اختفى ذلك البريق الغريب، وحلّ محلّه برودُه المعتاد.
خفض فريدريك بصره فورًا.
نظر روشان مرّةً أخرى إلى الأميرة التي ابتعدت قليلًا، ثمّ قال بصوتٍ خافت لا يكاد يُسمَع:
“فريدريك. لا تلمس جسدَ الأميرة.”
—
“هناك درجٌ أمامنا مباشرة. انتبهي.”
قالت المرأة التي تمسك بذراعها من اليمين بصوتٍ قلق.
لكنّ ييرينا كانت قد شعرت بذلك قبل أن تُنبَّه.
كان الهواء الصاعد من الأسفل مختلفًا.
فمقبرةُ القصر السفليّة باردةٌ طوال العام، ويبدأ بردُها من المدخل.
حين لامس البردُ جلدها، ارتجفت ساقاها.
لم تكن ترى، لكنّها كانت تعلم أنّ جثامين عائلتها في انتظارها.
‘أبي…….’
كان والدُها يأخذها إلى هذا المكان كثيرًا وهي صغيرة، ويُريها قبور الأسلاف، ويحدّثها عن إنجازاتهم.
من مَن أوصل الماء إلى العاصمة، ومَن أوقف الأوبئة، ومَن دفع البرابرة إلى أقصى الشمال.
‘ييرينا، ابنتي الغالية. كنزي الوحيد.’
ومع كلّ درجةٍ تنزلها، كانت تسمع صوته في أذنيها.
فتوقّفت فجأة، وانهمرت دموعها.
“تابعي السير. أليست هذه زيارتكِ التي طلبتِها؟”
قال فريدريك ببرود.
لكنّ صوته لم يكن قاسيًا كما اعتاد، بل حمل شيئًا من التلطيف.
لم تُجبه ييرينا، واكتفت بالتحرّك من جديد.
كانت خطواتها واهنة، كأنّها ستسقط في أيّ لحظة، لكنّها واصلت، حتّى وصلت أخيرًا إلى أرضٍ مستوية.
كان أرضُ الحجر غير متساوٍ تمامًا، لكنّه أسهل من الدرج.
وهكذا بلغت مدخل القبر حيث وُضِعَ والداها.
دُفِعَ البابُ الثقيل، وانفتح بصوتٍ عميق، فانسكب بردٌ أشدّ قسوة، وتسلّل عبيرُ الموت الخافت.
تحسّست ييرينا الجدار، وتقدّمت ببطء.
كلّما خطت خطوة، ازداد ثِقل الرائحة.
حين توقّفت المرأتان، كانت قد وصلت إلى موضع تابوت الملك والملكة.
لكنّها، وهي تتحرّك بعجلةٍ عاطفيّة، اصطدمت ساقها بحافة المذبح الحجريّ.
“هل أنتِ بخير؟”
صدر صوتُ اصطدامٍ مؤلم.
لكنّ ييرينا لم تُجب.
كانت تعلم ما اصطدمت به.
دفعت المرأتين، ومدّت ذراعيها إلى الأمام.
لامست يدُها غطاءَ التابوت الرخاميّ الزجاجيّ.
وتحته، كان الملكُ والملكةُ يرقدان جنبًا إلى جنب، مغمضي العينين.
“أ…… أبي وأمّي هنا؟”
“……نعم. هما معًا.”
أجاب فريدريك، بينما تقدّم خلفه رجلٌ بصمتٍ مطلق.
كان روشان، ينظر إلى الأميرة التي تتشبّث بالتابوت.
لم تعلم ييرينا بوجود عينين إضافيّتين تراقبانها.
انزلقت إلى الأرض، والتصقت بالمذبح، تتحسّس التابوت كفاقدةٍ للوعي.
“آه…… آه.”
خرج من حلقها أنينٌ غريب.
انهمرت دموعها بغزارة، وسقطت على الأرض بلا توقّف.
ركعت، وأسندت خدّها إلى التابوت البارد.
كان الرخام جليديًّا، لكنّها ظلّت تُدفئه بدموعها الحارّة، كأنّها تؤمن بأنّ ساكنيه سيعودون أحياء.
لكنّ المعجزة لم تحدث.
تعبت، وانهارت، وأسندت رأسها إلى المذبح، وارتخى جسدها.
لم تتوقّف دموعها، فدلّت على أنّها لم تفقد وعيها.
همّ فريدريك بالاقتراب، ثمّ تذكّر أمر سيّده فتوقّف.
أشار للمرأتين أن تُسنداها.
وقبل أن يلمساها، رفعت ييرينا رأسها بصعوبة، وقالت بصوتٍ مبحوح:
“سيدي…… أرجوك، دعوني وحدي قليلًا.
أريد…… أن أنعى والديّ وحدي.”
تردّد فريدريك.
لكنّه تذكّر روشان، فالتفت إليه.
أومأ روشان بالموافقة.
“الجوّ هنا بارد. دقائق فقط.”
أومأت ييرينا دون اعتراض.
خرجوا، وتركوا الباب مواربًا.
وحين ابتعدت الأصوات، تحرّكت ييرينا ببطء.
‘آه؟’
توقّفت فجأة.
شعرت بشيءٍ غريب.
وجودٌ شخص يراقبها.
قالت بحدّة:
“سيدي…… أتحاول خداعي لأنّني لا أرى؟”
التعليقات لهذا الفصل " 8"