وجْهٌ رأيتُه لأوّل مرّة في مملكةِ سِيداس.
هيئتُها وهي تبكي ثمّ تندفع نحوي.
الدموعُ التي كانت تنحدر تقاطرًا من عينيها الواسعتين.
فمُها الذي يردّ بحدّة، ثمّ يعود أحيانًا ليقول شكرًا.
ذلك اللطف الذي كان يهتمّ به، مع أنّه فارسٌ من دولةٍ معادية، وهي تصرخ بأنّه بغيض.
وكلماتُ الامتنان الأخيرة التي ناولتني إيّاها.
فريدريك، المحبوس داخل الضوء الذهبيّ، صرخ قائلًا إنّ هذا لا يجوز.
لكنّ كلّ شيء أمامه أخذ يتكسّر واحدًا تلو الآخر.
وحتّى الذكريات التي تعود إلى ما قبل لقائه بتلك المرأة بدأت تتداعى ببطء، وتنهار تاركةً خلفها رملًا.
كان فريدريك يئنّ بأنينٍ موجع، ثمّ فقد وعيه فجأة.
مال رأسه إلى الجانب، فانسكب شعره الأشقر المتلألئ ليغطي عينيه.
كانت إصابته لا تزال خطيرة، لكنّها لم تبلغ حدّ الموت.
كانت أليسيـا قادرةً، كما فعلت مع الطبيب، على إنقاذ فريدريك بقوّتها المقدسة.
لكنّها لم تفعل.
فكلّ ما تبقّى لديها من القوّة كان لا بدّ أن يُستَخدَم في مكانٍ آخر.
“……أنا آسفة.
يا سيّد فريدريك.”
همست أليسيـا باعتذارٍ هادئ إلى فريدريك، الذي سيخسر جزءًا من ذكرياته، ثمّ سحبت يدها.
وفي يدها قارورةٌ صغيرة مفتوحة الغطاء.
كان نورٌ خافت يتسرّب من داخل القارورة.
تأمّلت أليسيـا السائل الأبيض الذي يهتزّ في داخلها، ثمّ أغلقت الغطاء.
كانت القارورة قد فرغت قرابة ربعها، وخفّ وزنها تبعًا لذلك.
وضعتها أليسيـا في حضن فريدريك، ثمّ نهضت ببطء.
وبعدها عادت تسير نحو البرج من جديد.
حول البرج، كان المرتزقة الذين استأجرهم الإمبراطور لا يزالون متمركزين.
غير أنّ أليسيـا تحرّكت كما لو كانت تعرف مواقعهم جميعًا، وخرجت من نطاق أبصارهم.
—
‘كم من الوقت نمتُ؟’
نهضت ييرينا مستندةً إلى السرير.
كان رأسها يؤلمها كما لو أنّه سينفجر، لكنّه بدا أنقى بكثير ممّا كان عليه قبل النوم.
والنور الذهبيّ الذي كان يدور أمام عينيها عاد مألوفًا كما اعتادت، ولم يعُد يعوق الرؤية.
مدّت يدها نحو الطاولة المجاورة للسرير بحثًا عن الماء.
كان في الكأس القليل، لكنّه لم يكن كافيًا.
فخطت ييرينا لتشرب المزيد.
‘……ما الذي يحدث لي مجدّدًا؟
هل أصاب جسدي خللٌ حقًّا؟
كان ينبغي أن أبدّل الملاءة أيضًا.’
لكن رغم تقيّئها، ظلّ أثر المنوّم العالق يُعذّبها.
وما إن تحرّكت حتّى عاد الدوار يجتاحها، فاستندت إلى الجدار فور خروجها من غرفة النوم.
‘لو ناديتُ لويزا الآن……
هاه؟’
كانت تميّز الليل والنهار عبر الهواء، إذ لا ترى الضوء والظلام.
لكنّ الهواء الذي شعرت به الآن كان غريبًا.
باردٌ يلامس جلدها، ما يدلّ على أنّ الوقت إمّا ليلٌ متأخّر أو فجر.
غير أنّ رائحةً غير مألوفة كانت تختلط به.
رائحةُ شيءٍ محترق، ورائحةٌ خافتة لكنّها مألوفة……
‘……دم؟’
ما إن استشعرت رائحة الدخان الكريه والدم معًا، حتّى شحب وجه ييرينا.
مملكةٌ تحترق.
وأبٌ وأمٌّ يموتان أمام عينيها.
ارتجف جسدها بعنف.
عانقت نفسها بذراعيها، وبذلت جهدًا كي لا تسقط أرضًا.
وفي تلك اللحظة، التقط سمعها الذي اشتدّ توتّرُه أصواتًا في الخارج.
أضاء وجهها أملًا حين أدركت أنّ أحدًا قادم.
لكنّ ذلك لم يدم طويلًا.
فالأصوات التي اقتربت بدت غريبة.
ثلاثة…… لا، خمسة.
خطواتٌ صاخبة، ولا واحدة منها مألوفة.
تصلّب جسد ييرينا توتّرًا، وفي تلك اللحظة انفتح الباب بعنف.
دخل شخصٌ واحد.
أدركت ييرينا، من خلال الوميض الذهبيّ المتماوج، أنّه ليس أحدًا ممّن رأته من قبل.
حجمه، وحركته، كلّ شيءٍ فيه غريب.
“مَـ، مَن أنت؟”
“…….”
“قلتُ مَن أنت…….”
تذكّرت وضعها المنسيّ فجأة.
سألت مرّةً أخرى وهي تتراجع بحذر.
تقدّم الرجل بخطواتٍ واسعة، ورفع ذراعه عاليًا.
وفي اللحظة التالية، ابتلعها صوتٌ غليظ.
طَخ.
لم يكن لديها وقتٌ لتتفادى أو تصدّ.
لم تدرك أنّها ضُرِبَت بكفٍّ قاسٍ إلّا بعد أن سقطت وارتطم رأسها بالأرض.
‘آه؟’
دوّى الطنين في أذنيها، وشُلّ جسدها من شدّة الصدمة.
حاولت ييرينا تحريك رأسها على الأقلّ، لكنّها لم تستطع حتّى أن تئنّ كما ينبغي.
“اللعنة……
كان يجب أن أقتله أمام عيني…….”
وصلها صوتُ الرجل الواقف فوقها متقطّعًا، خافتًا بين طنين السمع.
لم تفهم كلماته، لكنّها أدركت أنّ من اعتدى عليها هو الإمبراطور.
ارتعشت يدها وهي ممدّدة على الأرض.
“هذه الحقيرة أيضًا……
سأفرغ غيظي……
سأضربها حتّى الموت…….”
كانت حركتها الضعيفة كفيلةً بإثارة الشفقة، لكنّ الإمبراطور داس يدها بحذائه دون تردّد.
ثمّ أخرج من خصره شيئًا ما.
كان سوطًا يُستَخدَم لترويض الوحوش.
رأت ييرينا الشيء الملفوف بإحكام يتمدّد فجأةً كالأفعى، فأدركت أنّه حبل.
وفيما كانت ترتجف محاولةً تمييز ما هو، رفع الإمبراطور ذراعه عاليًا.
هويك.
شقّ الصوتُ الهواء بحدّة، ثمّ انحنى السوط من الأعلى إلى الأسفل، وهبط بسرعة.
تشاك.
“آخ!”
مرّ طرف السوط المعقود فوق ذراع ييرينا تمامًا، فمزّق جلدها.
وانفجر صراخها من شدّة الألم الذي لم تستطع تحمّله.
ضحك الإمبراطور ابتسامةً وحشيّة عند سماع صراخها، ورفع ذراعه من جديد.
مرّة، ومرّتين، وثلاثًا……
وتتابع صوت الضرب بلا انقطاع داخل الغرفة.
—
تمزّق الفستان حتّى صار خِرَقًا.
وانكشف الجسد حتّى الملابس الداخليّة، لكنّ ييرينا لم تستطع لمّ شمل نفسها أو ترتيب ثوبها.
السياط والركلات.
كان العنف يهطل كالمطر الغزير، ثمّ بدأ يخفّ تدريجيًّا.
لكنّه لم يتوقّف تمامًا.
وقد كفّت ييرينا حتّى عن الانكماش، ولم يبقَ لها سوى أن تتنفّس بالكاد.
“منظرٌ رائع!
رائع!”
ضحك الإمبراطور ضحكًا هستيريًّا، رغم أنّه ارتكب فعلًا لا يجرؤ إنسانٌ على فعله.
لم يكن في عينيه سوى الجنون، ولذّةٌ قذرة من سحق الضعفاء.
وحين أرهقه الضرب، رمى السوط أرضًا.
ثمّ أخرج منديلًا ومسح وجهه المتصبّب عرقًا.
كان شعره الطويل قد ابتلّ هو الآخر من شدّة الحركة.
“كان يجب أن أقتلكِ أمامه.
كان يجب أن أرى بعينيّ وجه ذلك الوغد وهو يتشوّه.”
تمتم الإمبراطور وهو ينظر إلى ييرينا بعد أن استعاد أنفاسه.
المرأة التي اختطفها أخوه غير الشقيق روشان، والتي كان ينبغي أن تدخل فراشه منذ زمن.
كان الغضب المكبوت يملأ عينيه.
“قالوا إنّكِ متِّ؟”
كان قد سمع شائعة موت أميرة سِيداس المحبوسة في البرج.
بل وكان يعلم أيضًا أنّها لا تزال حيّة.
“حسنًا، سأقتلكِ بنفسي.
ألم تكوني ميّتة أصلًا؟
أيتها القذرة!
أيتها الدنِسة!”
لم يكن يعلم السبب على وجه الدقّة، لكنّه أيقن أنّ أخاه هو من أشاع تلك الأكذوبة ليظفر بها.
ولم يحتمل الإمبراطور ذلك.
“لا.
لا يمكن أن أقتلكِ هكذا.
كان ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو منذ البداية.”
انحنى الإمبراطور وهو يركلها بخفّة، ثمّ أمسك وجه ييرينا وأجبرها على النظر إليه.
كان يبتسم ابتسامة شيطانيّة.
“كان صوابًا ألّا ألمس وجهكِ.
أليس هذا وجهًا ثمينًا؟”
تأمّل ملامحها، ثمّ أفلتها بخشونة، ودفعها لتستلقي على الأرض.
دوم.
ارتطم رأس ييرينا بالأرض مرّةً أخرى.
وربّما بسبب تلك الصدمة، استعادت وعيها الضبابيّ وفتحت عينيها قليلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 79"