“…سأدخل لأستريح قليلًا.
يمكنك أن تنصرف الآن، أيّها الكونت.”
دارت تموّجاتٌ ذهبيّة في الهواء.
بدأ وعيُ ييرينا يختلّ فجأة، فأمسكت رأسها وترنّحت، ثم دخلت غرفةَ النوم.
راقبها فريدريك بوجهٍ مثقل.
كان مفعولُ المُنوِّم قد بدأ يظهر.
بعد قليل ستغرق الأميرة في نومٍ يشبه الموت، وسيصعد الطبيب لينفّذ ما خُطِّط له.
وعندما يعود سيّده، ستستيقظ الأميرة وقد نَسِيَت كلَّ شيء.
‘هكذا ينتهي الأمر.’
لم يستطع فريدريك أن يقول الحقيقة حتّى النهاية، وألقى المُنوِّم في شايّ الأميرة بيده.
كره نفسه لفعلته، لكن لم يكن له خيارٌ آخر.
نظر إلى الشايّ القرمزيّ الذي لم تُكمِل شربه، ثم حدّق طويلًا في باب غرفة النوم التي دخلتها.
وبعد زمنٍ، نهض فريدريك وغادر.
صوتُ انغلاق الباب وصل إلى ييرينا داخل الغرفة.
‘جسدي غريب…
يجب أن أطلب المساعدة، لكنّ الدوار لا يُطاق…’
لم تستطع الجلوس على السرير، فهوت إلى الأرض، وانحنت تضغط صدرها بقوّة.
وفي تلك اللحظة، وقع ما لم يتوقّعه فريدريك قطّ.
“آه…”
اجتاحها الغثيان فجأة، فتشبّثت بشرشف السرير وألصقت فمها به.
تقيّأت الشايّ الذي شربته قبل قليل دفعةً واحدة، وراحت تلهث.
عاد الغثيان مرّةً أخرى، لكنّ رأسها أصبح صافياً على نحوٍ غريب.
تقيّأت عدّة مرّات، ثم استندت إلى السرير وقد خارت قواها.
‘قليلٌ من الراحة فقط…’
على غير العادة، داهمها النعاس.
أغمضت عينيها وهي تفكّر بأن تستريح قليلًا.
انسدلت جفنا الأميرة تمامًا، وجلس إلهُ النوم فوقهما.
سرعان ما تنفّست بانتظام، وارتسم السلام على ملامحها.
برجٌ هادئ.
امرأةٌ نائمة بوجهٍ مطمئن.
لو اقتصر الأمر على هذين، لما بدا خطرٌ في الأفق.
لكن في اللحظة التي غفت فيها ييرينا، كان أولئك الذين يقتلون دون تردّد مقابل قبضةٍ من الذهب يتقدّمون نحو البرج.
—
‘خطأٌ واحد، وينتهي كلّ شيء.
ألم ترَ وجه سموّه؟’
كان الطبيب متوتّرًا على غير عادته.
دواءٌ غريب لم يسمع به قطّ.
وبهذا الدواء، كان عليه اليوم أن يجري “علاجًا” غريبًا.
‘هل يليق بطبيب أن يفعل هذا؟’
لم يكن متيقّنًا أنّ ما سيقوم به يُعدّ علاجًا أصلًا.
جرحُ امرأةٍ نائمة كالميّت بفعل أوراق يوريف، ثم علاجها بدواءٍ غريب، ثم جرحها مرّةً أخرى وعلاجها…
ذلك لم يكن شفاءً كما يفهمه.
فالغاية لم تكن إنقاذ الإنسان.
‘هذا الدواء معجزة بلا شكّ.
يمكنه إنقاذ من يحتضر.
لكن…’
رغم أنّه اختبر مفعوله مرّتين وتحقّق من أثره، لم يطمع فيه.
كان الدواء قادرًا على إنقاذ من أوشك على الموت، لكنّه يسلب الذكريات.
سبق للطبيب أن رأى مريضًا فقد ذاكرته كاملةً في حادث.
كان ذلك الألم معروفًا له.
ذاك الرجل، الذي لم يعد يعرف مَن يكون، ظلّ أيّامًا عاجزًا عن التعرّف على أسرته.
‘لعلّه أهون من مرضٍ يفقد فيه المرء ذاكرته تدريجيًّا.
على الأقل يمكن البدء من جديد.
ثم إنّ المرأة في هذا البرج تعاني أصلًا من داءٍ نفسيّ بسبب مآسٍ سابقة.
لعلّ نسيان كلّ شيء بدايةٌ أفضل.’
شعر الطبيب بالذنب تجاه ما سيفعله اليوم.
لكن خوفه من وليّ العهد جعله يشدّ عزيمته ويُقنِع نفسه.
“أيّها الطبيب، يبدو عليك القلق.”
لم يستطع إخفاء همّه، فبادره مَن معه بالكلام.
“آه… أيّها الكاهن.”
كان بجانبه كاهنٌ شابّ جلبه روشان من خارج العاصمة.
لم يكن بمستوىأليسيا في القوّة المقدسة، لكنّه قادر على الشفاء.
وبعد أن فقد روشان ثقته بأليسيا، استدعاه احتياطًا لأيّ طارئ.
“أليس هذا واجبنا على أيّ حال؟
اعتبره مشيئةَ الإلهة، واهدأ.”
كان الكاهن قد تخلّى عن ملامح الصِبا، ويحمل طموحًا جامحًا.
لم يتردّد كما تردّد الطبيب، بل فكّر فقط بما سيناله من وليّ العهد.
“نعم…”
هزّ الطبيب رأسه متحفّظًا.
ثم دعا في سرّه.
مرّ بعضُ الوقت، وبينما كان يرتّب أدواته، سُمِع صوتٌ لا ينبغي أن يُسمَع خارج البرج.
طنّ.
طنّ.
صليلُ سلاح.
تبادل الطبيب والكاهن نظرةً مذعورة.
دَوِيٌّ.
تحطّم بابُ البرج الخشبي.
واندفع عشراتُ الرجال إلى الداخل.
لم يكونوا فرسان القصر ولا جنوده.
‘مرتزقة؟
ما الذي يفعلونه هنا؟’
ما إن أدرك الطبيب هويّتهم حتّى رآهم يكتشفونهما.
أدرك الاثنان الخطر، وبدآ بالفرار.
“ارحمونا!”
“الهروب عبر الدرج؟
أتُتعبون سيقاننا يا طبيب.”
لم يفلحا طويلًا.
حُوصِرا عند بسطة الدرج، وتوسّلا.
لكنّ السيوف انهمرت بلا تردّد.
“آغ!”
سقط الكاهن، وتلقّى الطبيب ضربةً في ظهره فسقط أرضًا.
غادر المرتزقة، تاركين خلفهم السيوف الملطّخة.
“تبًّا، دائمًا يُسندون إليّ هذا النوع من الأعمال.”
اقترب أحدهم ليتأكّد من موتهما.
وفي تلك اللحظة، ظهرت امرأةٌ بيضاء عند أعلى الدرج.
استدار المرتزق، وفجأةً غمر رأسه نورٌ ذهبيّ ساطع.
“آه!”
سقط دون صوت.
تقدّمتأليسيا، صلّت صلاةً قصيرة، ثم أسرعت إلى الطبيب.
“اصبر قليلًا.”
كان لا يزال يتنفّس بخفّة.
مدّت يدها إلى صدره، وأخرجت قارورةً صغيرة.
انفجر نورٌ ذهبيّ من يدها، وزحف نحو جرحه.
“آه…”
لم يستعد وعيه، لكنّ الجرح الطويل بدأ يلتئم.
تأكّدت من انتظام أنفاسه، ونهضت.
رنّت القارورة في صدرها.
‘أليسيا، أنا ساحرة.
ساحرة… كم هذا مُفرِح.’
ضجيجُ الضحك، وصراخُ الأطفال، والدخانُ الأسود ملأوا بصرها.
ابتسمت ابتسامةً معوجّة، واستدارت.
نزلت الدرج ببطء.
وخلف خطواتها، تلاشى نورٌ ذهبيّ مائل إلى الحمرة.
—
لم يعد فريدريك قادرًا على الاحتمال.
سقط سيفه من يده.
‘اللعنة…
لو كان لديّ رمح!’
بعد أن دسّ المُنوِّم، فرّ من البرج.
ثم وجد جثث رجاله.
وقبل أن يستوعب، خرج مسلّحون من بين الأشجار.
أدرك الخطر، فركّز على العودة إلى البرج.
لكنّهم كانوا كُثُرًا، وبعضهم يحمل أقواسًا.
أُصيب بسهمٍ في كتفه، وسقط على ركبتيه.
ضربةٌ عنيفة.
سقط، محاولًا التمسّك بوعيه.
‘جثّتا إيريك ويودان غير موجودتين…
لعلّ أحدهما…’
لوّن الدمُ الزهور.
شعر بأحدهم يقلب جسده.
“انتهى الأمر.
لنذهب.”
رنّ طنينٌ طويل في أذنيه.
‘هكذا يكون الموت إذًا.’
تلاشت الأفكار.
استعرض حياته، وابتسم، ثم تجهّم.
‘لو كنتُ سأموت هكذا، ليتني أظهرتُ مشاعري…’
شعر بالندم.
لكنّه عرف أنّه لو عاش، لفعل الأمر ذاته.
ثم شعر بأحدهم يضع شيئًا على شفتيه.
سائلٌ بارد، ثم نار.
“كخ!”
عاد النفس، وتوقّف النزيف.
تشنّج جسده.
صرخاتٌ تمزّق رأسه.
وانمحت أجزاءٌ من حياته.
ومن بينها…
صورتُها.
التعليقات لهذا الفصل " 78"