كان الصالونُ الصغير أشبهَ ببرميلِ خمر.
امتزج عبيرُ الزهورِ الغريبة برائحةِ العسلِ الحلوة، وباللذعةِ النفّاذةِ المميَّزةِ للخمر، حتّى خَدِرَت أنوفُ الحاضرين.
ومع تزايدِ كميّاتِ الشرابِ التي تُسكَب وسطَ الضحكات، تلاشى الوعي من عيونِ الناس شيئًا فشيئًا.
طعمٌ لا يُمَلّ مهما شُرِب.
الخمرُ التي قدّمها الإمبراطور باتت تُقارَن بخمرِ الآلهةِ القديمة التي شربوها طلبًا للشباب، تلك التي لم يبقَ لها أثر.
“يا للعجب.
غريبٌ هذا، أراكِ اثنتين.”
“آه، مولاي.
لقد ثَمِلْتُم.”
راح الإمبراطور يراقبُ أولئك الذين فقدوا اتّزانهم من خمرِه، ثم طبع قبلةً على شفتي إحدى محظيّاته ونهض من مكانه.
كان وجهُه قد احمرّ من جديد.
ومن فوقِ كتفِ المحظيّة التي ارتمت في أحضانه، اختلس الإمبراطور نظرةً إلى أخيه غير الشقيق.
وعلى خلافِ الآخرين، لم يبدُ على الأخ غير الشقيق ولا على مقرّبيه أثرُ السُّكر.
غير أنّ ارتفاعَ زاويةِ فمه بخفّة، والكؤوسَ التي كانت تُفرَغ وتُملَأ في الحال، أكّدت للإمبراطور أنّ روشان أيضًا يستمتعُ بالخمر.
“لطيفون.
هَيّا، نذهب ونقضي وقتًا خاصًّا نحنُ الثلاثة.”
قال الإمبراطور بصوتٍ ملتفٍّ مائع، ثم استدار متمايلًا نحو الباب.
وكأنّ الأمر كان مُعدًّا سلفًا، لم يُعلِن الخدمُ انسحابه من المجلس.
وهكذا غادر الإمبراطور القاعة.
وحين خفَتَت أصواتُ الضحك في الداخل، أطلق قهقهةً قصيرة، وقد ارتسمت على وجهه ملامحُ غريبة.
نظرت إليه إحدى المحظيّات باستغراب.
فراح يداعبها ويتمتم:
“اعلمي أنّكِ ما زلتِ حيّةً بفضلي.”
لم تفهم المحظيّة ما يعنيه، فأمالت رأسها حائرة.
ضحك الإمبراطور بصوتٍ أعلى، ثم تابع السير.
كانت خطواتُه مختلفةً تمامًا عمّا قبل، مستقيمةً وسريعة.
لم يتوقّف إلّا عند درجٍ في نهايةِ ممرٍّ طويل.
وبينما كان ينظرُ إلى السلالم المؤدّية إلى سطحِ الأرض، سُمِع خلفه وقعُ أقدامٍ مسرعة.
“مولاي.”
استدار الإمبراطور، فرأى دوقَ داي يلهثُ من شدّةِ الركض.
ابتسم الإمبراطور، ودفع المحظيّات جانبًا، ثم فتح ذراعيه مرحِّبًا بالدوق.
“آه، أيّها الدوق.
كيف ترى؟
هل تظنّ أنّ ما خطّطتُ له سيمضي على خير؟”
هزّ الدوق رأسه بتردّد، وملامحُه متحفّظة.
فألقى الإمبراطور ذراعَه على كتفه وقاده إلى الأمام، قائلًا:
“لنصعد أوّلًا.
هذا المكان جميل، لكن هواءه خانق.
على أيّ حال، أليس نفقًا حُفِر أصلًا لإبقاء الوضيعين قريبين من النظر؟
تس.”
اسودّ وجهُ الدوق عند سماعه هذا الإهانةَ المتكرّرة لأمّه.
واستعاد في داخله ما علمه عبر روشان، ففاض احتقارُه للإمبراطور.
سرعان ما وصلا إلى أعلى الدرج، وخرجا إلى سطحِ الأرض، وتبعتْهما محظيّاتُ الإمبراطور.
تنفّس الإمبراطور الهواءَ النقيّ بعمق، ثم التفت إلى الدوق.
خفض الدوق رأسه متجنّبًا النظر في عينيه.
أمر الإمبراطور المحظيّات بالابتعاد، ثم ابتسم للدوق ابتسامةً عريضة.
“ما بالك، أيّها الدوق؟
أثمّةَ ما اقترفتَه في حقّي؟”
كان صوته مازحًا، لكنّ الدوق عضّ دون وعي لحمَ فمِه من الداخل.
لم يخطئ في شيء.
غير أنّ…
أُرْرْرْ.
وبينما كان يتخيّل ما سيقع هذه الليلة، رفع الدوق رأسه ببطء.
فجأةً دوّى صوتُ الرعد، واهتزّت الأرضُ تحت أقدامهم.
“ما هذا…؟!”
انحنى دوقُ داي بسرعة، وقد فاجأه الزلزال.
وبينما كان يلتفت حوله، وقع بصرُه على تعبيرٍ مجنونٍ في وجه الإمبراطور.
“هاهاهاهاها!”
انفجر الإمبراطور ضاحكًا، مائلًا إلى الخلف، ثم أمسك بطنه وكأنّه سيتدحرج على الأرض.
حدّق الدوق فيه مذهولًا، ثم أدرك أنّ في الأمر خللًا، فصاح:
“مولاي!
ماذا فعلتُم؟!”
“دفنتُهم.”
قالها الإمبراطور وهو يمسح دموعَ الضحك من عينيه.
تجمّد وجهُ الدوق لحظة، ثم تشوّه ببطء.
ابتسم الإمبراطور وهو يتأمّل ملامحه.
“صنعتُ لهم قبورًا بيدي.
للخونة، أيّها الدوق.”
ألقى الإمبراطور نظرةً على الطريق الذي جاء منه.
لم يكن ما تحت الأرض ظاهرًا، لكنّ اهتزازَ الأرض كافٍ للدلالة على أنّ القبو قد انهار.
وكلّ من فيه قد سُحِق.
“وترتكبون هذا…؟”
شدّ الدوق أسنانه، وابيضّ بصرُه.
لم يكن هذا ما خُطِّط له.
كان ينبغي القضاء على الإمبراطور قبل حلول الغد.
فصرخ غاضبًا:
“لم تُخبِرْني بهذا!”
كان الدوق قد استُدعِيَ سابقًا.
وفي ذلك اللقاء، توسّل إليه الإمبراطور بإخلاص، طالبًا مساعدته، واعدًا إيّاه بأن يصبح الإمبراطور الذي يريده إن ساعده في التخلّص من روشان.
تردّد الدوق آنذاك.
ففي هذه المرحلة، لم يكن الانضمام إلى قوّة روشان ليجلب له شيئًا سوى الحفاظ على حياته.
ثم إنّ روشان قالها صراحةً:
“عُد إلى إقطاعيّتك.”
وكان ذلك أشبهَ بأمرٍ بالعيش صامتًا في الظلّ.
ومع ذلك، اختار الدوق روشان في النهاية.
فكيدريك لم يمنحه ثقةً قطّ.
ما نفع الدموع والتوسّل، وقد رأى منه ما رأى؟
كان يعلم أنّ البشر لا يتغيّرون بسهولة.
وقبل كلّ شيء، كانت الوثائقُ التي سلّمها له روشان.
الحقيقةُ المدوَّنة فيها لم يكن بوسعه قبولُها.
‘الإمبراطورُ السابق ومحظيّتُه وُلِدا من الرحمِ ذاته.’
كان الإمبراطورُ السابق ومحظيّتُه داليدا أخوين غير شقيقين.
[💀💀💀]
آباؤهم مختلفون، لكنّ الأمّ واحدة.
ومن تلك العلاقة وُلِد الإمبراطورُ الحالي كيدريك.
شعر دوقُ داي بقرفٍ لا يُحتَمَل.
‘لا حاكم يغفرُ وجودًا كهذا.’
كما في معظمِ البلدان، كان سفاحُ القربى محرّمًا مرعبًا في الإمبراطوريّة.
ومنذ خدمة حاكم النور، عُدَّ ذلك من أفدحِ الجرائم.
كان أبناءُ تلك العلاقات يُرجَمون حتّى الموت، ويُحرَق الفاعلون أحياءً دون اعتبارٍ للمكانة.
لم يستطع الدوق قبول ذلك.
وحين علم بسرّ كيدريك، فكّر:
‘إنّه إثمٌ منذ الولادة، لا عجب في كلّ فجوره.
وجودُه نفسُه جريمة.’
لهذا لم يغيّر موقفه.
تظاهر بمساندة الإمبراطور، ثم أخبر روشان بخطّته.
قال إنّ في الخمر منوِّمًا، وإنّ عليه الاستعداد.
وطلب منه أن يقضي على الإمبراطور.
كان واثقًا بصوابِ قراره.
فالعَيش في مسقط رأسه بسلام خيرٌ من خدمة إمبراطورٍ مولودٍ من الخطيئة.
لكنّ كلّ شيءٍ انقلب.
روشان، الإمبراطورُ القادم، اختفى.
تحت الركام.
“قُلتم إنّكم ستتخلّصون فقط من وليّ العهد ومقرّبيه بعد تخدير الجميع!”
احمرّت عروقُ عنقِ الدوق وهو يصرخ.
لم يعد في الأمر ما يُطاق.
“وكيف أثق بك؟”
شقّ الإمبراطور فمه بابتسامةٍ طويلة.
بدت شفتاه الحمراوان للدوق مقزِّزتين، كشيطانٍ خرج من الجحيم.
رمى الإمبراطور شيئًا عند قدميه.
سقطت رسالةٌ فاخرة.
اتّسعت عينا الدوق حين عرف صاحبَ الخطّ.
“ابنتُك ساعدتني.
زوجان عاشا معًا طويلًا، أليس كذلك؟”
“…”
“كنتُ سأمزّقها إربًا.
لكنّ فضلَها كبير، فسأُبقيها حيّة.
غير أنّها ستعيش عبدةً تزحف على الأرض في هذا القصر.”
عجز الدوق عن الاحتمال.
تقيّأ وهو يصرخ في وجه الإمبراطور:
“أتظنّ النبلاء سيصمتون؟
لقد قتلتَ كبارَهم!
وسأفضح سرّك… كهخ!”
طاخ.
لم يُكمِل.
ضربه رجلٌ خرج من ظلّ الشجر بأمرٍ من الإمبراطور.
وخز الإمبراطور جسدَ الدوق بقدمه متسائلًا:
“سرّ؟
ما الذي يهذي به؟
حسنًا… نسأله لاحقًا.”
تفَل على وجهه، ثم أمر:
“اسحبوه واحبسوه.
سأقتله أمام الإمبراطورة.”
انصرف الرجال وهم يجرّونه.
حدّق الإمبراطور في المبنى، حيث يرقد تحت الأنقاض روشان بيستيوس.
“اللعنة.
كان يجب أن أفعل هذا منذ زمن.”
لكنّ قتله لم يترك له سوى الأزمات.
ومع ذلك، لم يفكّر في الغد.
توجّه مباشرةً إلى برجٍ معزول في أطراف القصر.
وفي السماءِ القاتمة، بلا نجوم، أشرق قمرٌ محمرّ.
وفي المكان الذي غادره الإمبراطور، بدأ نورٌ ذهبيٌّ يصعد ببطء من أعماقِ الأرض.
التعليقات لهذا الفصل " 77"