“ما… ما الذي يحدث؟”
غير أنّه لم يستطع أن ينظر إلى وجه ييرينا مباشرةً.
كان شعورُ الذنب يطعن صدره طعنًا متتابعًا.
“لديّ ما أودّ قوله…”
تردّدت ييرينا قليلًا، غير مدركةٍ لما يعتمل في صدر فريدريك، ثم فتحت فمها.
لم يكن لدى فريدريك الشجاعة لمواجهة عينيها الخاويتين، فاكتفى بالنظر إلى شفتيها.
من بعيد بدتا حمراوين ممتلئتين على نحوٍ لا بأس به، لكن عن قرب ظهرت آثارُ تشقّقاتٍ وجراحٍ التأمت في مواضع متفرّقة.
عندها أنزل بصره أكثر وقال:
“…سأُنصت.”
“أ… شكرًا لك.”
“….”
“شكرًا لأنّك أحسنتَ إليّ طوال هذه المدّة.”
رفع فريدريك نظره، وقد باغتته كلمات الشكر.
وفي اللحظة التي واجه فيها وجه ييرينا رأى ذلك الوهن القاتم المخيّم عليها.
كان أشبه بضبابٍ ليليّ.
ضبابٍ لا يُدرك إلّا بالتأمّل، غير أنّه كثيف، مظلم، ومخبوء في العتمة.
“بصراحة… ما زلتُ أكرهك، يا سيدي.
وأنت تعلم السّبب، أليس كذلك؟”
“….”
“لكن، من إنسانٍ إلى إنسان، شعرتُ أنّ عليّ أن أقول لك شكرًا.
لن أستطيع أن أكون قريبةً منك… ومع ذلك، شكرًا لأنّك حميتني وساعدتني طوال هذه الفترة.”
قبض فريدريك يده بقوّة.
هل كانت الأميرة تستشعر ما يحدث لجسدها؟
أم أنّها، لذلك، تختار أن تترك كلماتٍ لطيفة لفارسٍ من فرسان الإمبراطوريّة؟
أيًّا كان السّبب، فقد فاض في صدره سيلُ شتائم.
‘اللعنة.’
كان يلعن في سرّه مرارًا وهو يحدّق في عينيها الضبابيّتين.
هل ستختفي هذه الأميرة التي تخاطبه هكذا؟
هل ستفقد ذكرياتها عنه؟
لم يستطع السيطرة على اضطراب قلبه.
‘أن تبيع أسرارًا عسكريّة لأميرٍ من دولةٍ معادية؟
أن ترتكب خيانةً بسبب مشاعر تافهة؟
جنون!’
شعر أنّه بات يفهم، أخيرًا، لماذا اختارت أخته ذلك الطريق يومًا.
كان قد ظنّها حمقاء، وأنّه لن يفهمها أبدًا…
لكنّ أظفاره المستديرة انغرست في راحة يده بألم.
‘لا… لا أريد ذلك.
ولو جزءًا صغيرًا فقط… ليتكِ لا تنسين.’
ارتسم الصراع في عيني فريدريك اللامعتين.
حتى لو خان سيّده، ألن يكون هذا الطريق هو الصواب؟
كان صوته الداخليّ يطنّ في رأسه بلا توقّف.
لكن، في اللحظة التي همّ فيها بتحريك شفتيه، سقطت كلماته القديمة في قلبه كحجرٍ ثقيل.
‘أنا لستُ مثل ذلك الخائن.’
—
كان الطابقُ السفليّ من القصر المركزيّ أشبه بمعبدٍ قائمٍ داخل كهفٍ أسطوريّ.
صخورٌ غريبة تشعّ بضوءٍ أزرق باهت، تتلألأ فيها جواهرُ مضيئة كنجومٍ ساطعة،
وأعمدةٌ وجدرانٌ رخاميّة بدت كأنّها منغرزةٌ في الصخر، متناثرةٌ عليها الأحجار الكريمة.
“يا إلهي… كأنّنا لسنا في هذا العالم.
يُشبه عمارةَ أولئك الأقزام المهرة الذين قيل إنّهم خدموا التنانين في الأزمنة السحيقة.”
“أيّ حرفيٍّ صمّم هذا المكان وبناه؟
إنّه عملٌ مدهش بحقّ.”
كان المدعوّون إلى هذا المكان، ممّن اختارهم الإمبراطور، في غالبيتهم من كبار النبلاء وأصحاب المناصب الرفيعة.
وهم، بطبيعة الحال، اعتادوا رؤية الجميل والنفيس.
غير أنّ الفضاء الذي كشفه لهم الإمبراطور اليوم فاق كلّ ما رأوه من قبل جمالًا ورقيًّا.
وبعد أن انتهى الجميع من التأمّل، وبإشارةٍ من الإمبراطور، تقدّم الخدم ليرشدوا الضيوف إلى مقاعدهم.
طاولاتٌ طويلة مصطفّة.
جلس كلّ شخصٍ في مكانه المحدّد، وأمامهم كؤوسٌ ذهبيّة وأطباقٌ ذهبيّة تعلوها المآدب كالأبراج.
تزيين الطعام، وكأنّه قطعٌ فنيّة، أثار إعجابهم مرّةً أخرى.
“أغلبكم يأتي إلى هنا للمرّة الأولى.”
قال الإمبراطور ذلك بلهجةٍ راضية وهو يراقب ردود أفعالهم.
وعلى الرغم من أنّ محظيّاته الجميلات ما زلن إلى جواره في المقعد الأعلى،
فإنّ احمرار وجهه قد خفّ، وعيناه أشرقتا بصفاءٍ واضح.
“إنّه لشرفٌ عظيم، يا جلالة الإمبراطور.
لكن متى شُيّد هذا المكان؟”
سأله أحد النبلاء.
فابتسم الإمبراطور ابتسامةً غامضة وأجاب:
“هذا المكان كانت تقيم فيه أمّي.
بُني بأمرٍ مباشر من الإمبراطور الراحل.
كما أنّه كان فضاءً سريًّا لم يُكشف لأحد.”
ساد الصمت في اللحظة ذاتها.
داليدا، محظيّة الإمبراطور الراحل وحبّه الوحيد،
الراقصة ذات الشعر الفضيّ، الجميلة كاسمها، كانت أمّ كيدريك.
“كان والدي إمبراطورًا عظيمًا.
كان كاملًا في كلّ شيء… إلّا أمرًا واحدًا.
لقد أحبّ امرأةً وضيعة.
امرأةً راقصةً متدنيّة الأصل، ومنحها قلبه كلّه.”
لم يكن في عيني كيدريك، وهو يسمّي المرأة التي أنجبته ‘أمّي’ ببرود، أيّ أثرٍ للمحبّة أو الاحترام تجاه داليدا.
ومن تجعّد ملامحه كان واضحًا كيف ينظر إليها.
“بعضكم هنا لا بدّ أنّه يتذكّر أمّي الراحلة.”
قال ذلك وهو يتلفّت في القاعة بابتسامةٍ مكتومة،
ثم وجّه نظره إلى أحد الماركيز المسنّين وسأله:
“ماركيز كرومن!
أنتَ تعرف، أليس كذلك؟
كم كانت أمّي جميلة؟”
“كانت والدةُ جلالتك زهرةً ثمينة في نظر الإمبراطور الراحل.
كانت فاتنة بحقّ، وحين ترقص، لا يستطيع أحد أن يصرف بصره عنها.”
أجاب الماركيز العجوز بصعوبة، وهو يخفي ارتباكه.
وكان كلامه صادقًا؛ فقد كانت محظيّة الإمبراطور الراحل، في شبابه، آيةً في الجمال.
“إذًا فقد علقت صورتُ أمّي في عينيك أيضًا؟
لمَ؟
هل راودك يومًا أن تضمّها إليك؟”
“ج، جلالة الإمبراطور، ما قصدته هو…”
كان الإمبراطور يطلق نكاتٍ دنيئة عن أمّه نفسها.
ارتبك الماركيز، غير قادرٍ على الردّ.
فضحك الإمبراطور بصوتٍ عالٍ، ثم راح يعبث بالمحظيّتين إلى جانبيه وقال:
“لا ترتجف هكذا.
أنا أيضًا أُبقي هذه الوضيعات بقربي.
ألسن جميلات؟”
تبادل النبلاء النظرات.
هل جُنّ الإمبراطور؟
فذكر الأمّ كان، في حدّ ذاته، نقطة ضعفٍ له،
فكيف به يُظهرها ثم يهينها بلسانه؟
كان يهدم، بيده، ما تبقّى من شرعيّته الهشّة.
“لا تنظروا إليّ بتلك الوجوه…
قولوا الحقيقة.
ألستم ترون أنّني لا أستحقّ هذا العرش بسبب أمّي؟
هاه؟”
تمادى الإمبراطور أكثر.
تحدّث صراحةً عن نسبه وحقّه في العرش.
خفض النبلاء رؤوسهم في ارتباك.
حتّى لو فكّروا بذلك، لم يكن بوسعهم النطق به.
“…كنتُ أنا نفسي أعتقد ذلك.”
تمتم الإمبراطور، وهو يتأمّلهم.
ثم وقعت عيناه على شخصٍ واحد لم يتغيّر تعبيره.
الجالس في أقرب المقاعد إلى المنصّة.
أخوه غير الشقيق، ووليّ العهد الشرعيّ، روشان.
وللمرّة النادرة، لم يتجنّب الإمبراطور النظر إلى روشان.
بل استقام أكثر، وفتح فمه مخاطبًا إيّاه:
“الإمبراطور يجب أن يكون نبيلًا،
وأن يتّخذ زوجة نبيلة،
ومن بينهما يُولد الإمبراطور القادم.
هذا أمرٌ بديهيّ.”
“….”
“لهذا، حرتُ طويلًا بعد أن صرتُ إمبراطورًا.
كان قلبي مثقلًا.
صحيح أنّني ورثتُ دم الإمبراطور العظيم،
لكنّ أمّي كانت وضيعة.
هل هذا العرش يليق بي حقًّا؟
حتّى وقتٍ قريب، لم أكفّ عن التفكير.”
كان الإمبراطور يواصل كلامًا لا يجرؤ أحدٌ على الردّ عليه.
وفي لحظةٍ ما، لمع في عينيه بريقٌ غريب.
كان ينظر إلى روشان، ثم رفع بصره إلى السقف،
وتحديدًا إلى نقش إلهة النور.
“لكن لم يعد الأمر كذلك.
أنا، كيدريك فيستيوس، سمعتُ من الحاكم بنفسها منذ وقتٍ قريب.
قالت إنّ أمّي لم تكن سوى امتحانٍ أنزله عليّ،
قبل أن أصبح إمبراطورًا كاملًا.”
تبادل الناس النظرات خفيةً.
ظنّوا أنّ هذا الطاغية قد فقد عقله أخيرًا.
كانوا قد سمعوا عن قتله لرئيس الكهنة في قاعة الصلاة،
لكن رؤيته الآن كانت أشدّ هولًا.
وبعضهم تنفّس الصعداء سرًّا،
ظانّين أنّ هذا الأحمق سيُنزَل قريبًا عن أسمى منصب.
“لذا قرّرتُ أن أتوقّف عن القلق.
أمّي ماتت، وأنا الإمبراطور.
أنا كاملٌ بالفعل.
أليس كذلك؟”
كانت ردود الفعل باديةً على الوجوه.
لكن كيدريك لم يكترث، بل ابتسم وسألهم:
“هاه؟
ألستم ترون الأمر كذلك؟”
“نعم.
نراه كذلك.”
بينما كان الجميع متردّدًا، جاء الردّ.
صوتٌ منخفض، لكنّه واضح.
اتّجهت الأنظار إلى روشان.
“آه، روشان.
أخي الوحيد.
من دمي.”
“….”
“أنتَ مسكين أيضًا.
لو لم أكن أنا، لجلستَ أنتَ في هذا المكان.
لكن الإلهة شاءت أن تضعنا تحت أبٍ واحد…”
لم يكن الإمبراطور يرمق روشان بنظرة عداء كما اعتاد.
كان يبتسم له ابتسامةً واسعة، تتظاهر بالمودّة،
غير أنّ ما كان يقطر من عينيه البنفسجيّتين هو الجنون والشرّ.
“لكن الإمبراطور هو أنا.
أنتَ تعرف ذلك، أليس كذلك؟”
“بالطبع، يا جلالة الإمبراطور.”
سأله الإمبراطور بنبرةٍ خفيضة.
أجاب روشان بلا تردّد، وأومأ برأسه.
ضحك الإمبراطور طويلًا، ثم فجأةً توقّف،
وجال بنظره في الحاضرين وأمر:
“أحضِروا الشراب.”
امتثالًا لأمره، جاء الخدم بإبريقٍ ذهبيّ كالذي تُحفظ فيه الخمور.
وبدؤوا بسكب الشراب، بدءًا بالإمبراطور ثم الآخرين.
كان السائل الذهبيّ، في الكؤوس والإبريق، يشبه الذهب المذاب.
نسي عشّاق الخمر الأجواء السابقة، وحدّقوا في الكؤوس.
كان العطر المنبعث منه كثيفًا، آسرًا.
“إنّه خمرٌ عمره أكثر من مئة عام.
من أعزّ ما أملك.
لكنّكم جميعًا كنوز الإمبراطوريّة وأوفياؤها،
فلن أبخل به عليكم.
هيا، ارفعوا كؤوسكم.”
رفع الجميع كؤوسهم امتثالًا.
ونهض دوق دايه، الذي التقت عيناه بعيني الإمبراطور،
ورفع كأسه عاليًا وهتف:
“لشمس الإمبراطوريّة العظيمة!
لجلالة الإمبراطور!”
ردّد الحاضرون الهتاف، وارتفعت الكؤوس.
تناثرت قطراتٌ ذهبيّة، انعكس بريقها على الجواهر والأحجار المضيئة، في مشهدٍ مهيب.
وانساب الذهب المذاب في حناجرهم.
كان الطعم عذبًا بقدر عبيره،
فحدّقوا بحسرة في كؤوسهم الفارغة.
“روشان.
كيف وجدتَ طعم الشراب؟”
ابتسم الإمبراطور ابتسامةً طويلة وهو ينظر إلى كأس روشان الخالي.
أجاب روشان، وقد بدا عليه الأسف مثل الآخرين:
“إنّه رائع.
لم أتذوّق مثله قطّ.”
“حقًّا؟”
“….”
“جيّد!
هذا أمرٌ حسنٌ جدًّا!
ماذا تفعلون؟
ألا تُعيدون ملء الكؤوس؟!”
صفّق الإمبراطور ضاحكًا.
وانفجرت محظيّاته بضحكاتٍ حادّة.
امتلأت الكؤوس من جديد.
ومدّ الناس أيديهم إليها كالمسحورين.
وفي تلك اللحظة، كان خلف الكؤوس،
ابتسامةُ الإمبراطور تزداد قتامةً وعمقًا.
التعليقات لهذا الفصل " 76"