“أنا لا أرتكب فعلًا يستوجبُ اللعنة السماويّة، بل أنا اللعنةُ ذاتُها.”
“أُه…….”
ثنَى ديرين، دوقُ ديرين، ركبته وجلس، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ بعينين ضاحكتين.
حين انحنت عيناه ورسمتا هلالًا طويلًا، تبدّل انطباعه في لحظة.
زالت البرودة، وبدا رجلٌ وسيمٌ مرح يحدّق في بيانكا.
“بسببكِ، ماتَ ملكُنا العظيم، والملكةُ الحكيمة، وكذلك وليّا العهد اللذان كانا مستقبل المملكة.
وليس هذا فحسب، بل إنّ الأميرة سُحِبَت أسيرةً إلى الإمبراطوريّة بسببكِ أنتِ وابنكِ، وهناك انتهت حياتُها.”
“خ، خائنٌ لعين… لسانُك طويل… أُغخ….”
“ولو انتهى الأمر عند هذا لكان أهون.
لكن هل تعلمين كيف كان حال الخارج، بينما كنتما، أنتما الاثنان، تعيشان هنا في البذخ، وتصرفان الذهب كالماء؟
نصفُ الشعب كان يتضوّر جوعًا، حتى صاروا يتسابقون إلى بيع أنفسهم عبيدًا.”
“…….”
“وفي مثل هذا الوضع، أكون أنا الخائن؟
كلا.
الخائن هنا أنتِ، وابنكِ.
وأنا العقابُ السماويّ الذي أرسل لمعاقبتكما.”
اشتدّ صوت دوق ديرين قسوةً شيئًا فشيئًا.
بيانكا، وهي تئنّ من الألم، حدّقت فيه بعينين مشتعِلَتين، ثم بصقت في وجهه وقالت:
“كذب.”
لم تُصِبِ البصقةُ وجهَ دوق ديرين كما أرادت، بل سقطت عند قدميه.
ازدادت بيانكا غيظًا لعدم إصابتها هدفها، وتابعت:
“انظر في المرآة!
هل تظنّ نفسك حقًّا غاضبًا لأجل تلك الأشياء؟”
“……أنتِ أذكى قليلًا من ذاك الأبله.
لديكِ حدسٌ جيّد.”
ضحك دوق ديرين ضحكةً خفيفة.
لقد أصابت كلمتُها الحقيقة.
في الواقع، لم يكن غاضبًا بشدّة على مأساة العائلة المالكة السابقة.
أصلًا، كانت ديرين، مسقط رأسه وإقطاعه، حصنًا يحمي الشمال، بعيدًا عن عاصمة المملكة.
وبسبب هذا البعد، ظلّ بعيدًا عن السياسة المركزيّة، لكنه نال في المقابل استقلاليّةً أكبر.
لذلك، لم تكن له علاقة تُذكر بالأسرة المالكة، ولا اهتمام حقيقيّ بها.
“أصبتِ.
مأساةُ العائلة المالكة؟
حياةُ الشعب؟
نعم، تُغضِبني.
لكن ليس إلى حدّ أن أتحرّك بهذا العناء.”
“سيدي! أرجوك….”
حاول أحد الفرسان المقرّبين من دوق ديرين أن يثنيه.
مهما كانت نواياه الحقيقيّة، فقد رفعوا الجيش بذريعة معاقبة خونة الملك الراحل وإنقاذ الشعب.
أن ينكر قائدهم ذلك علنًا كان أمرًا لا يجوز.
“كفى.”
رفع دوق ديرين يده، موجّهًا نظرةً باردة إلى تابعه.
انحنى الفارس فورًا وتراجع.
“إنهما سيموتان على أيّ حال.
على الأقل، ينبغي أن يعرفا سبب موتهما.”
عند كلماته، شهقت بيانكا، وكذلك بريك.
“سيموتان قريبًا.”
تلك العبارة المرعبة جعلت الدموع تنهمر من عيني بريك.
“بسببكما، ماتَ لي ستّةُ إخوةٍ وأختان.
وفي الشمال، دُفن آلافُ الإخوة في الأرض الباردة.”
قال دوق ديرين سبب تمرّده الحقيقيّ، وهو يرمقهما بنظرةٍ مليئة بالازدراء.
حربُ الإمبراطوريّة.
كم من إخوته وأخواته سقطوا فيها.
وهو نفسه، بصفته الابن السادس للدوق السابق، لم يكن ليصير دوقًا أصلًا، لولا أنّ جميع إخوته الأكبر قُتلوا، فاضطرّ إلى وراثة اللقب.
“ديرين لا تنسى الثأر.
حين يكشف العدوّ عن ثغرة، ننقضّ عليه ونمزّقه.
هذا ما نجيده في ديرين.”
ومن بين أعدائه، لم تكن الإمبراطوريّة وحدها، بل بيانكا وبريك أيضًا، اللذان باعا الوطن.
غير أنّ الإمبراطوريّة عدوٌّ صعب حاليًّا، فبدأ بالأعداء الأسهل.
“لم يبقَ ما تقولانه، أليس كذلك؟”
“أُغخ!”
“لا شيء؟
حسنًا.”
كمّم فم بيانكا وهي تحاول الصراخ، ثم أمر أتباعه:
“اقتادوا هذين الخائنين.
مزّقوهما ببطء.
لا تسمحوا لهما بموتٍ هادئ.”
صدر الأمر القاسي، فأُمسِكَ ببريك وبيانكا.
سالَت دموعُ الدم من عيني بيانكا وهي تُسحَب خارج القاعة التي مات فيها الملك والملكة السابقان.
تبعها بريك، وقد سالَت منه سوائل صفراء، متعقّبًا أمَّه.
“قذارة… تسك.”
نقر دوق ديرين بلسانه وهو يدير ظهره.
وتوجّه إلى العرش الذي كان يومًا للملك الراحل.
جلس عليه بلا تردّد، فخرّ الفرسان أمامه ساجدين.
“نحيّي جلالتك.
لأجل مجدِ سيداس!”
“لأجلِه!”
ارتفعت السيوف عاليًا ولمعت.
وفي ذلك اليوم، حلّقت حماماتُ البريد في أرجاء المملكة، معلنةً ميلادَ ملكٍ جديد.
—
“ومن صار ملكَ سيداس الجديد؟”
“ردودُ الفعل ليست سيّئة.
الملك الجديد، إصلان ديرين، يجري في عروقه شيءٌ من دمِ العائلة المالكة، ولو كان ضئيلًا…
كما أنّ سمعته كانت طيّبة حين كان سيّد الشمال.”
أومأ روشان برأسه على تقرير جيمس.
أمرُ مملكة سيداس، الذي لن يُخبَرَت به الأميرة ولن تعرفه أبدًا.
رغم كونه حدثًا جللًا بتبدّل السلالة، لم يكن في نظر روشان سوى جزءٍ من خطّته.
“هل وصل الردّ؟”
“نعم.”
أومأ جيمس، وأخرج رسالةً من صدره وقدّمها.
رسالة طويلة.
أشار روشان إليه بعينيه، إذ كان جيمس قد قرأها سلفًا.
“كما ترى، قالوا إنهم لن يتدخّلوا في أمر الأميرة.
بل بدوا مرحّبين بذلك.”
“طبيعيّ.
وجود وريثةٍ شرعيّة بدمٍ أنقى من دمه سيكون مزعجًا له.”
وافق إصلان، ملك سيداس الجديد، على إعلان موت ييرينا علنًا.
موتٌ أقرّه حتى ملكُ وطنها.
اسم ييرينا سيداس سيُسجَّل في القارّة كاسمِ ميّتة.
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتي روشان.
جيمس، وهو يراقب سيّده بعينه الوحيدة، تابع:
“كما أنّه لا يبدو أنّه سيعادي الإمبراطوريّة في الوقت الراهن.
لكن….”
“تكلّم.”
حين تردّد جيمس، حثّه روشان.
تذكّر جيمس السطر الأخير من الرسالة، المكتوب بعناية شديدة بخطّ ملك سيداس، وقال:
“كتبَ الملك الجديد ما معناه أنّ نبيذ ديرين، كلّما طال تخزينه، اشتدّ عبيره وحلا طعمه.
وقال إنّ علينا انتظارَ النبيذ الذي سيُرسله يومًا ما.”
—
لم تكن أجواءُ معبد القصر الإمبراطوريّ جيّدة.
والسبب مقتلُ رئيس الكهنة سينكس طعنًا على يد الإمبراطور داخل قاعة الصلاة.
‘سينكس رئيسُ كهنة؟ أهذا معقول؟
ذلك الرجل لا يملك ذرّة قوّة إلهيّة، فضلًا عن ضعف إيمانه.’
‘وما العمل؟ لقد أحكم السيطرة على الإمبراطور.
ثم إنّه معبدُ القصر، ويبدو أنّ المعبدَ الأمّ تخلّى عنه أصلًا.’
‘همف! لم يتخلّوا، بل كانوا مسرورين على الأرجح.
الإمبراطور يوسّع المعبد، ويغدق الضرائب تبرّعات…
أكان صعبًا عليهم التخلّي عن منصبٍ واحد؟’
طوال السنوات الماضية، كانت علاقة الإمبراطور برئيس الكهنة وثيقة إلى حدّ يُقال إنهما جسدٌ واحد.
الإمبراطور المتديّن كان يرتكب شتّى الفظائع، ومع ذلك يطيع كلمات سينكس طاعةً عمياء.
لكن أن يقتل الإمبراطور سينكس فجأة…
كان قلق أهل المعبد في القصر أعظم من مجرّد فقدان زعيمهم؛ كانوا يخشون أن يكون الإمبراطور قد فقد إيمانه وجُنّ.
“إنه رجلٌ يستخفّ بأرواح الخدم والحاشية والجواري…
فهل بعد أن فقد تقواه سيقتل الكهنة والراهبات بلا تردّد؟”
“لا أظنّ…
ما زال يصلّي كلّ يوم.
لعلّ أمر رئيس الكهنة كان مسألةً أخرى؟
تلك القضيّة المتعلّقة بوليّ العهد الأسير….”
“مهما كان السبب، قتلٌ داخل قاعة الصلاة!
وقتلُ رئيس كهنة!
ماذا يفعل المعبدُ الأمّ؟
هل سيكتفون بالمشاهدة؟”
“أرسلوا من يحتجّ، لكن ردّة فعل الإمبراطور….”
“يا إلهي.
ألا نموت نحن أيضًا في النهاية؟”
احتجاجًا، خفّض المعبد عدد الكهنة والراهبات المقيمين في القصر إلى الخُمس.
بل وبدأ في صلواته بالتشكيك في شرعيّة الإمبراطور كيدريك، مذكّرًا بأنّ سلالة الإمبراطوريّة الأولى، أبناء النور، كانت عيونهم حمراء.
غير أنّ الإمبراطور تجاهل كلّ ذلك، ورفض حتى مقابلة مبعوثي المعبد.
أشدّ الناس قلقًا كانوا الكهنة والراهبات الذين بقوا في معبد القصر.
منصبُ رئيس الكهنة الشاغر.
لم يجرؤ أحد على الطمع فيه.
ولحسن الحظّ، لم يسعَ الإمبراطور لتعيين بديل.
بدلًا من ذلك، كان يصطفّ حوله عشرة كهنة وعشر راهبات، ويصلّي ساعتين أو ثلاثًا كلّ يوم.
اليوم لم يكن مختلفًا.
الإمبراطور، وقد ارتدى فوق ثيابه الفاخرة رداءَ صلاةٍ متواضعًا، أمضى ثلاث ساعات كاملة في الدعاء، ثم غادر قاعة الصلاة.
“أخيرًا انتهى.”
“مخيف…
لا نعلم متى قد يجنّ ويشهر سيفه.”
ما إن غادر الإمبراطور، حتى انطلقت الزفرات من كلّ مكان.
الكهنة والراهبات، وقد أنهكهم الوقوف الطويل، تبادلوا نظراتٍ قلقة.
“هيا، بسرعة.”
“نعم.”
من بين الراهبات العشر كانت جول وجال.
على الرغم من آلام سيقانهنّ، تحرّكن أسرع من الجميع، متّجهات إلى أليسيا التي كانت تنتظرهنّ.
“السيّدة أليسيا.”
قاعة صلاةٍ صغيرة مخصّصة للراهبات.
ما إن وصلتا حتى نادتاها.
أليسيا، التي كانت جاثيةً على الأرض الحجريّة، استدارت ببطء عند سماع صوت الأختين.
“السيّدة أليسيا! عيناكِ…!”
كانت عصابةُ عينيها مبلّلة.
اقتربت جول وجال مذعورتين، وقد رأتا السائل الأحمر يصبغ القماش الأبيض.
وما إن لمست جال يدُها، حتى مالت أليسيا بجسدها عليها.
“كيف حدث هذا؟”
“أنا بخير. لا تقلقا.”
هزّت أليسيا رأسها مطمئنةً، رغم صوت جال المرتجف.
وفي تلك اللحظة، شعرت جول، التي كانت تراقب أليسيا عن قرب، بقشعريرةٍ جعلتها تتراجع خطوة.
كانت أليسيا تبكي دمًا، ومع ذلك انحنت شفتاها في ابتسامةٍ ناعمة.
من يراها للوهلة الأولى قد يظنّها ابتسامةَ رحيمة.
لكن لماذا؟
شعرت جول بشرٍّ خفيّ ينبعث من تلك الابتسامة.
وبينما كانت جول تتردّد، خارت قوى أليسيا تمامًا، واستسلم جسدها.
وقبيل أن تغيب في إغماءٍ يشبه النوم، تمتمت:
“…لقد رأيتُه بوضوح.
لم يبقَ الكثير من الوقت.”
التعليقات لهذا الفصل " 74"