الفصل التاسع: الانهيار.
لم يسبق أن رأى الإمبراطور بوجهٍ عديمِ التّعبير كما في هذه المرّة.
ابتلعَ الكاهنُ الأعظم سينكس ريقه الجافّ على غير هدى، وهو يحدّق في وجهٍ لا يضحك قهقهةً كما اعتاد، ولا ينفجر غضبًا كعادته.
‘فليحاسب وليّ العهد إذًا، اللّعنة!’
كان سينكس يتوقّع سبب استدعاء الإمبراطور له.
فالشائعة التي عمّت الأرجاء، وتضخّمت بعد مأدبة تأسيس الإمبراطوريّة، لم تكن بعيدةً عنه.
“أيّها الكاهن الأعظم.”
حين كان سينكس مطأطئ الرأس، يرتّب في ذهنه أعذارًا واهية، ناداه الإمبراطور.
رفع رأسه، وما إن التقت عيناه بعينيه حتّى تجمّد في مكانه.
“كنتُ أثق بك…… كاهنًا أعظم أفنى عمره في الخدمة المقدسة، ثمّ يكذب عليّ. خيبةُ أملي بك عظيمة، مؤمنًا كنتَ أم إمبراطورًا.”
كانت العينان البنفسجيّتان موحشتين.
لم تكونا حمراوين قانيتين كعيني أخيه غير الشقيق روشان، لكنّهما كانتا كافيتين لبثّ الرّهبة.
فتح سينكس فمه بصعوبة.
“ج، جلالتك، هذا سوءُ فهم.”
“سوءُ فهم؟ أيّ سوءِ فهم؟”
حدّق الإمبراطور في سينكس ببرود، وهو لا يزال يراوغ رغم انكشاف الحقيقة، ثمّ نهض من مجلسه.
وبينما كان يهبط درجات المنصّة، تابع سؤاله.
“إذًا فاشرح لي. هل حلّت بالأميرة لعنة حقًّا، كما زعمتَ لي آنذاك؟”
“بالطبع. كيف لي أن أكذب في أمرٍ كهذا؟ لقد تلبّس شبحُ المملكة بالأميرة يقينًا، وعمى بصرها كلّه من ذاك السّبب. فثق بي، يا جلالتك…….”
“اصمت. أطبق فمك.”
كان يعلم أنّه بأمره قد اقتيد الكهنة والكاهنات قبل أيّام، ومع ذلك يواصل الكذب.
ارتعش حاجب الإمبراطور، وسلّ سيفه.
“إلى أيّ حدٍّ استهنتَ بي…….”
“ج، جلالتك، إنّ ذلك…… هيك!”
تراجع سينكس مترنّحًا أمام السّيف، ثمّ سقط.
رفع الإمبراطور سيفه عاليًا، موجّهًا إيّاه إلى الكاهن العجوز الذي يلهث كخنزيرٍ مذعور.
“ا، ارحم…… آغ!”
هوى السّيف، وانغرس في بطنه المكتنز.
اندفع الدّم كنافورة، فلطّخ وجه الإمبراطور وجزءًا من جسده.
مات الكاهن الأعظم ميتةً بائسة لا تليق بمكانه.
هرع الخدم الواقفون بعيدًا في ذهول، إذ لم يتخيّل أحد أنّه سيُقتل حقًّا.
كان، مهما يكن، الكاهنَ الأعظم لمعبد القصر، مدعومًا من وراء السّتار، ومع ذلك قُتل بهذه السّهولة، وفي قاعة الصّلاة ذاتها.
لم يكن المعبد ليسكت عن هذا.
“كنتُ أتساءل لِمَ لَمْ يمت روشان ذاك الوغد حتّى الآن…….”
لكنّ الفاعل بدا هادئ الوجه.
تراجع الخدم بخطواتٍ مرتعشة، وهم يحدّقون في السّيف المقطّر دمًا.
لم يبالِ الإمبراطور بهم، بل استدار عائدًا إلى المنصّة.
رنّ السّيف وهو يسقط أرضًا.
“لم تكن صلواتي قاصرة، بل كان ذنب ذلك الكاذب. أرشدني إلى طريقٍ زائف، فلم تبلغ صلواتي.”
جثا الإمبراطور أمام المذبح، بردائه الفخم وعباءته الرثّة، ووجهه مغمورٌ بالدّم، ورفع دعاءه إلى الإلهة.
“آن الأوان أن أسأل بنفسي، وأن أطلب جوابها.”
بعد صلاةٍ طويلة، نهض ببطء، وهمس وهو ينظر إلى التمثال.
كان أسفل المنصّة قد تحوّل إلى بركةٍ حمراء من دم سينكس.
تجهم وهو ينظر إلى الجثّة المتصلّبة، ثمّ أشار إلى الخدم.
رفعوا الجثّة بوجل.
نظر الإمبراطور إلى آثار الدّم، ثمّ نزل وبصق عليها ثلاث مرّات، وألقى عباءته الرثّة فوقها.
ثمّ نادى ثلاثًا.
كان ذلك الطقس، الذي تعلّمه من سينكس نفسه، لطرد الأرواح.
تحرّك الإمبراطور بعد انتهاء الطقس، وتبعه الخدم.
وقبيل خروجه من قاعة الصّلاة، توقّف عند الباب وأمر أقربهم إليه.
“أحضِر دوق داي.”
—
انقضت مأدبة التأسيس، جاء الشّتاء ورحل، وحلّ الرّبيع من جديد.
ومع عودة الرّبيع، لم يتغيّر حال ييرينا.
كان ‘كيان’، الملازم لها، يراقب سعالها الجافّ اليوميّ بقلبٍ محترق، ويُلحّ على الطّبيب أن يبذل كلّ ما في وسعه.
‘لا سبيل للعلاج.
يسمّيها العامّة داء الكبت. ما لم تُحلّ العقد المتراكمة في الصّدر، فلن يُجدي دواء. إنّه مرضٌ ينخر من الدّاخل ويقتل.’
قال الطّبيب ذلك وهو يرتجف، غير متردّد.
لم يجد روشان ما يردّ به.
كانت عقدة ييرينا واضحةً كلّ الوضوح.
ماضٍ مروّع، قلقٌ على الوطن، وشعورٌ بالذنب لمشاركتها قلبها مع فارسٍ من الإمبراطوريّة.
كان مرضها في جوهره بسببه.
وكلّما أدرك ذلك، ازداد ألمُه وندمه، حتّى لعن الإله لأوّل مرّة.
لماذا عقد مصيرهما على هذا النحو؟
لكن لا إله يجيب مذنبًا.
‘زاد سُعالك. إن لم تكوني بخير، فعودي إلى الفراش.’
‘لا تقلق.
جسدي يتأقلم ببطء مع تقلّب الطّقس.’
‘…….’
‘وهل تعلم؟ حين أجلس إلى جوارك هكذا، يقلّ السّعال أكثر ممّا لو استلقيت وحدي.’
وهكذا، واصل التمثيل.
كانت الأميرة، الجاهلة بحقيقته، تهمس له بكلماتٍ رقيقة، غير مدركة أنّه عدوّها.
وفي كلّ مرّة، كان الإحساس بالذنب يقرع قلبه بعنف.
‘……لماذا فعلتُ ذلك؟’
عشرات، بل مئات المرّات من النّدم كلّ يوم.
قلقٌ يتعاظم على أميرةٍ تذبل.
رغبةٌ جامحة في أن يكون حبيبًا كاملًا، هربًا من القلق والتوتّر.
وحين تثقل الأفكار، كان روشان يقلّب قارورةً زجاجيّةً اغتصبها من المعبد بين أصابعه، ويعدّ الأيّام المتبقّية.
‘من دون ألمٍ قدر الإمكان…… أن أُنوّمها، ثمّ أُحدث الجرح، وأرتشف ببطء.’
بعد شهرٍ ونصف، في يوم ميلاد الإمبراطور، ستنقلب الأمور.
ستنسى الأميرة ماضيها كلّه، وتعيش إلى جانبه، أسمى من الإمبراطور نفسه، لا تعرف سوى السّعادة.
‘ومملكة سيداس ستسقط قريبًا. والملك الجديد لن يهتمّ بالأميرة. لذا…….’
كانت الخطّة تمضي بثبات.
قد تطرأ متغيّرات، لكن لا بأس.
كان عازمًا على إنهاء الأمر مهما كلّف.
‘بعد ذلك اليوم، لَن أنطق بكذبةٍ واحدة.
سأكون وفيًّا لامرأتي إلى الأبد.’
بعد شهرٍ وأسبوعين، نهض روشان وهو يرسم مستقبلًا كاملًا مع الأميرة.
كان السّماء قاتمةً قبيل الفجر.
حدّق في لونها المشؤوم، ثمّ استدار.
وفي عصر ذلك اليوم، حين غابت الشّمس تحت الأفق، بدأت الشّائعات تنتشر، بدءًا من مأدبةٍ صغيرة.
‘أميرة السِّيداس، التي تبادلت النّظرات مع وليّ العهد، ماتت.’
—
اشتعل القصر الملكيّ مرّةً عند تخوم الرّبيع والصّيف.
ثمّ، وقبل مضيّ عامين، التهمته النّيران مرّةً أخرى.
“اطردوا الملك الفاسد! اقتلوا من جوّعونا!”
“المجد لمملكة سيداس!”
كان الجنود المدرّعون يهرعون في أرجاء القصر.
تعالت الصّرخات والاستغاثات.
“مولاي! علينا الخروج فورًا!”
“م، ما الّذي يحدث؟”
“مولاي! ألم تسمع أمر رئيس الخدم؟ أسرِع!”
هربت بيانكا وبريك مذعورَين أمام اقتحام الجنود ليلًا، لكنّهما أُمسكا سريعًا.
“أتدرون من أنا؟ أنا والدة الملك! أنا الملكة الأمّ!”
صرخت بيانكا، مذعورة.
إلى جوارها، كان بريك يبكي متلعثمًا.
ساقهما الجنود بازدراء، ثمّ ألقوهما كالأمتعة.
‘هنا!’
رفعت بيانكا رأسها وهي مطروحة أرضًا، واتّسعت عيناها.
كان هذا المكان قد أُغلق بعد تتويج ابنها.
هنا قُتل الملك السّابق وزوجته على يد جيش الإمبراطوريّة.
وكان لبيانكا نصيبٌ وافر من تلك المأساة.
لذا، وما إن انتشرت شائعات الأشباح، سارعت إلى إغلاقه.
“يليق بكِ هذا المشهد، يا صاحبة السّموّ.”
تردّد وقع خطوات، ووقف شخصٌ أمامها.
رفعت بيانكا رأسها أكثر، فرأت شابًّا ذا شعرٍ قرمزيّ ونظرةٍ حادّة.
‘الماركيز ديرين!’
تعرّفت عليه فورًا.
إنّه إسنال ديرين، سيّد بيت ديرين الجديد، حارس الشّمال.
“أيّها الماركيز! ما معنى هذا؟”
“ألا ترين؟ إنّها خيانة.”
“بل ثورة، يا سيدي.”
“آه، أجل. ثورة.”
سواء كانت خيانةً أم ثورة، كان الأمر مرعبًا لبيانكا وبريك.
حاولت النّهوض، لكنّ ديرين ركل ساقها قبل أن تستقيم.
“آه!”
“صحيح.
نساء العاصمة لا يتلقّين تدريبًا. أعتذر.”
اعتذارٌ بلا روح.
سقطت بيانكا ثانيةً، تصرخ ألمًا.
“أيّها الوغد! أتعلم ما تفعل؟ هذا عصيان!”
انحرفت يدها كالمخلب.
تفاداها ديرين، ورفع كتفيه.
“لا أرى الأمر كذلك.”
“آه!”
“أ، أمّي!”
ضغط بغمد سيفه على كتفها بقوّة.
صرخت بيانكا، وحاول بريك التقدّم، لكنّ فارسًا أجبره على الرّكوع.
التعليقات لهذا الفصل " 73"