“لكن من الآن فصاعدًا لا تفعل هذا، مهما كانت النيّة طيّبة، التصرّف دون إذن يُشعرني بعدم الارتياح.”
كان كلامًا بديهيًّا بالنسبة إلى ييرينا، غير أنّ وجه الرّجل تصلّب فجأة عند سماعه.
‘أهي تضع مسافة بيننا؟’
كاد الشعور الذي اندفع في لحظة، وهو ينظر إليها كمن يريد ابتلاعها، أن يخرج عن سيطرته، فاضطرّ إلى كبحه بصعوبة.
“والمشكلات الناتجة عن قلّة النّوم مسؤوليّتي وحدي، لذا إلى أن أطلب المساعدة بنفسي، راقب فقط ولا تتدخّل، ولا تُرهق نفسك.”
قالت ييرينا ذلك بصوتٍ حازم، من غير أن تتوقّع تغيّر تعبيره، فهي لم تُرِد أن تُثقل كاهله، إذ لو أخبرته أنّها ترى كوابيس بسبب شعورها بالذنب لقربها منه، فلن يزيده ذلك إلا قلقًا عليها، وهذا ما كانت تكرهه.
لكن هل كانت الأميرة تعلم أنّ وجه الرّجل الذي حسبته لطيفًا، تحوّل عند كلماتها الباردة إلى ما يشبه وحشًا يجري في عروقه دمٌ أزرق؟
‘……لديّ القوّة الكافية لأُجبركِ في هذه اللّحظة.’
لأوّل مرّة يختبر شعور الخذلان، فكان ردّ فعله متطرّفًا، وتردّد الصراع في عينيه الحمراوين وهو ينظر بالتناوب إلى جسدها النحيل وإلى السرير.
“……أنا آسفة لأنّي ضربتك، لا بدّ أنّك تألّمت.”
ما هدّأ الرّجل، الذي بدا على وشك أن تبتلعه مشاعره، كان لمسة ييرينا، فمع يدها الصّغيرة التي راحت تتحسّس وجهه كأنّها تتحقّق من ملامحه، شعر بأنّ العاطفة المتأجّجة تتلاشى، لتحلّ محلّها نشوةٌ عميقة.
‘يا لك من أحمق.’
وبّخ نفسه بصمت، ثمّ انحنى فورًا، متحوّلًا إلى كلبٍ مطيع أمام المرأة.
“سأفعل كما تأمرين، ولكن إن احتجتِ إليّ يومًا، فأخبِريني، سأفعل أيّ شيء تطلبينه، يا سيّدتي ييرينا.”
لامس نَفَسه الحارّ أطراف أصابعها التي كانت تتحرّك على وجهه، فعضّ أطرافها بخفّةٍ واحتواها مازحًا.
ارتعشت ييرينا قليلًا من حرارة جسده، ثمّ استرخت، فالجسد الذي كان قد تجمّد بردًا بسبب الكابوس، بدأ يدفأ حتّى شعر بالحرّ.
‘حارّ.’
إن تعمّقت أكثر، فستحترق، غير أنّ من ذاق البرد الذي ينخر العظام، لا يستطيع أن يُعرض عن جمرةٍ تمنحه الدفء.
وبعد تردّدٍ قصير، تسلّلت إلى حضنه كما يفعل طفلٌ مدلّل، وهمست:
“……إذًا نم بجانبي هذه اللّيلة، وغنِّ لي تهويدة، وتعِدني ألّا ترحل حتّى أغفو.”
تجمّد الرّجل عند طلبها، فالتهويدة كلمة تكاد تكون غير موجودة في عالمه.
‘مولاي الأمير، ألا يأتيك النوم؟ لا تقلق، سأغنّي لك تهويدة.’
راح ينقّب في ذاكرته طويلًا، ولم يتذكّر أغنيةً كهذه إلا حين خطر بباله وجه ليز، أمّ جيمس.
خرجت الأغنية، التي لم يغنِّها قط، من فمه متعثّرة، وكانت كلماتها عن صبيٍّ يتسلّق سلّمًا عاليًا ليمسك بنجمة، ثمّ يسقط ويموت، وهي كلمات قد تكون صادمة للأطفال، فشعر بجسد الأميرة بين ذراعيه ينتفض لحظة.
“……لا أعرف سوى هذه التهويدة، هل أتوقّف؟”
سأل وهو يتوقّف فورًا، لكنّ ييرينا هزّت رأسها نفيًا، من دون أن ترفع وجهها عن صدره، فما ضرّ الكلمات إن كان حضنه ثابتًا، كحضن أبيها قديمًا؟
بل إنّها شعرت في تهويدته المرتبكة بشيءٍ من التماثل.
‘شخصٌ وحيد.’
تذكّرت ما قصّه عليها سابقًا عن ماضيه العائليّ القاسي، فأشفقت عليه، وعلى تهديد أخيه غير الشقيق الذي لا يزال يلاحقه، ورغم أنّه قد يبدو مضحكًا أن تشفق هي، في حالتها، على غيرها، فإنّ المشاعر لا تُطاع بالعقل.
شعرت أنّهما، هو بلا عائلةٍ حقيقيّة، وهي فاقدةٌ لعائلتها، شخصان وحيدان.
‘……يا لسوء حظّك، أن تلتقيني، وأن تحملني في قلبك.’
اعتذرت له في سرّها، فحالها غير المستقرّ ومصيرها المجهول جعلاها تشفق عليه أكثر.
وبينما كانت تتمتم بصمت، شعرت فجأة بنظرة، ففتحت عينيها ببطء، ولاحظت، وهي مدفونة في حضنه، حذاء شخصٍ يقف إلى جوارهما.
في عالمٍ غارقٍ بالذّهب، بدا الحذاء غريبًا بوضوح شكله ولونه. رفعت ييرينا رأسها، ولاحظ الرّجل اضطرابها فتوقّف عن الغناء.
أسفل الحذاء، كان هناك بركة دمٍ رأت مثلها في كوابيسها، رفعت رأسها المتصلّب، والتقت بعيني صاحب الحذاء.
‘ييرينا.’
كان أباها، الذي اعتاد أن يغنّي لها التهويدات، واقفًا في بركة الدم، يحدّق بها، والدم الأحمر القاني يتدفّق من عنقه.
“آه!”
انفجرت صرختها، فضمّها الرّجل فورًا، غير أنّ جسدها المرتجف لم يهدأ.
“ييرينا، ما الأمر؟”
سألها بقلق، فلم تُجب، بل رفعت بصرها قليلًا، ثمّ هزّت رأسها بعد وقت.
“……لا شيء.”
اختفت بركة الدم، واختفى الأب الملطّخ، ولم يبقَ سوى اللون الذهبيّ، فأغمضت عينيها وهمست في داخلها:
‘أنا أفقد عقلي.’
—
لم يكن فينسنت، خادم الإمبراطور، ينام جيّدًا هذه الأيّام، فحال سيّده يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
منذ أن عاقب الإمبراطور زوجين تجرّآ على اقتحام حرمته خلال مأدبة تأسيس الإمبراطوريّة، تغيّر كلّ شيء، فالرّجل الغريب الأطوار أصلًا بدا وكأنّه فقد صوابه تمامًا، يصرخ، يحطّم الأشياء، يضحك ثمّ يبكي، ويتجوّل ليلًا في القصر كمن يمشي نائمًا، ثمّ يعود ليغرق في ملذّاته كالمعتاد.
‘عليّ أن أترك هذا العمل وأعود إلى مسقط رأسي في أقرب وقت، تسك.’
فكّر فينسنت بذلك وهو يحمل الخمر الفاخر والدواء الذي اعتاد الإمبراطور تعاطيه.
وبعد مسيرٍ طويل، كاد يتّجه إلى غرفة النوم كعادته، ثمّ تنبّه وتوقّف أمام بابٍ آخر.
كانت غرفة المكتب الإمبراطوريّ، المكان الذي يُفترض أن يقضي فيه الإمبراطور معظم وقته، غير أنّ كيدريك نادرًا ما دخله، لذا بدا الباب غريبًا على فينسنت.
“مولاي الإمبراطور، فينسنت.”
طرق الباب، ففُتح فورًا، وحين همّ بالدخول، توقّف عند رؤية وجه زميله الشاحب، الذي أشار له بالصمت.
‘يبدو أنّ كارثةً جديدة وقعت.’
تقدّم بحذر، فرأى الإمبراطور من الخلف، واقفًا يقرأ شيئًا. وضع ما أحضره على الطاولة، وألقى نظرةً خاطفة، فرأى الأوراق في يد الإمبراطور والظرف عند قدميه.
‘هذا…….’
عرفها فورًا، إنّها رسالة الإمبراطورة ليليانا التي تركتها قبل رحيلها. في تلك اللحظة، استدار الإمبراطور، فانحنى فينسنت بسرعة.
كان وجهًا بلا تعبير، خاليًا من أيّ مشاعر، وجهًا لم يره قط، فشعر برعبٍ غير مفهوم.
اقترب الإمبراطور منه، فتعمّق فينسنت في انحنائه.
“فينسنت.”
“نعم، نعم، مولاي.”
وضع الإمبراطور يده على كتفه، وسأله بصوتٍ مفعمٍ بالجنون:
“أليس لوالدك عدّة مناجم كبيرة؟”
—
‘ابنتي الكبرى عميت، مثلما حدث لكِ، ومثل بناتك!’
لم يتوقّف الملك، الذي كان يهزّ أخته في البرج، عن الصراخ، معلنًا أنّ ابنته الثانية، ثمّ الصغرى، قد فقدتا البصر.
وبعد أربع بنات، جاء دور ثلاثة من أبناء الإخوة، فانهارت الملكة السابقة، التي كانت يومًا أميرةً متألّقة.
‘……لم ينتهِ بعد؟’
حين عميَت ابنة الأخ الثالثة، أدركت هيلينا الحقيقة، فلعنة الساحر المقزّز لم تنتهِ، وكما قال، كلّ أميرةٍ من سلالة سيداس، أيًّا كان نسبها، محكوم عليها بالعمى لحظة تُصبح أميرة.
أيّ فظاعةٍ هذه.
لم تُحبّ هيلينا بنات إخوتها كما أحبّت بناتها، فهنّ مجرّد منافسات، بنات أخٍ غير شقيق هُزم ونُفي، وزوجته الساذجة.
‘أيّها الوحش…….’
ارتجفت من الغضب، فالساحر، بعينيه الحمراوين ويده التي تنثر ضوءًا ذهبيًّا، ذاك الذي صار مجرّد ذكرى مرعبة، بدا كأنّه لا يزال يلاحقها.
مهما كان قد ساعدها في الماضي، ومهما خانته، لم يكن يحقّ له أن يفعل هذا، هي من أنقذته من الموت عند نهر هامونا، هي من منحته الحياة، وهو الذي أقسم أن يهبها حياته، ثمّ أبقى تلك اللعنة القذرة.
عضّت هيلينا شفتها بأسنانٍ متهالكة.
‘لن أخسر أمامك حتّى النهاية.’
رفعت الملكة السابقة عينيها المشتعلتين، فهي الوحيدة من أميرات سيداس التي لا تزال ترى، ولن تقبل بأن يستمرّ نسلها في العذاب.
طرقت باب غرفتها المحبوسة لأوّل مرّة، وهتفت:
‘اذهب وأخبِر ملكك، إنّ لديّ ما أقوله عن الأميرة العمياء.’
التعليقات لهذا الفصل " 72"