“أخطأتُ.”
‘كيف استطعتِ أن تفعلي هذا؟’
“اغفروا لي، يا أبي، يا أمّي.”
‘كيف ربّيناكِ حتّى تنتهي إلى هذا؟’
“يا إخوتي… أنا آسفة.”
‘أن تكوني معه… كيف تجرؤين؟’
“لكن لم يكن بيدي حيلة. كنتُ وحيدةً جدًّا… والوحدة باردة، باردة إلى حدٍّ لا يُحتمل.”
منذ أن صار كِيان إلى جوارها، ظلّ الكابوس على هذه الهيئة دائمًا.
كان أفراد عائلتها يذرفون دموع الدم ويلقون اللوم عليها، وكانت ييرينا في كلّ مرّة تتوسّل الغفران.
غير أنّها، على خلاف ما كانت تفعله سابقًا حين تدفعه بعيدًا، لم تقل هذه المرّة إنّها ستتخلّى عنه، حتّى وهي تجمع يديها ترجُو الصفح.
“الآن، لا أحد إلى جانبي سواه. لا يوجد غيره.”
كانت ييرينا تخشى أن تدفع كِيان بعيدًا.
فإن اختفى هو أيضًا، فلن يبقى لها سوى هذا البرج القاحل ووحدة لا نهاية لها.
بسبب حادثة جين، نَفَرَت من فكرة قدوم خادمة جديدة، ويبدو أنّ الخادمات كنّ على الشاكلة ذاتها.
خطوات أليشيا وسائر الكاهنات أخذت تتباعد يومًا بعد يوم، حتّى غدا لقاؤهنّ مرّةً في الأسبوع أمرًا عسيرًا.
وفريدريك، بحجّة انشغاله، لم يعد يصعد إلى البرج.
وبجوار الأسيرة التي تتلاشى من الذاكرة، لم يبقَ كما كان من قبل سوى كِيان وحده.
“لذا، سامحوني مرّةً واحدة فقط. أرجوكم…”
كان تحمّل كابوس العتاب صعبًا، لكنّ الواقع لم يكن أهون وطأة.
كانت وحيدةً، وكانت تشعر بالبرد.
ولم تستطع التخلّي عن آخر دفءٍ بقي لها، ذلك الحضن الوحيد الذي ازداد دفئه لأنّه الأخير.
وحين لم تقل ييرينا في النهاية إنّها ستدفع الرجل بعيدًا، تقدّمت الأمّ الواقفة، جثت على ركبتيها، وانحنت.
ثمّ بيدٍ لم يبقَ فيها لحمٌ ولا جلد، يدٍ عظميةٍ خالصة، خدشت عنق ييرينا.
طَقّ.
صدر صوتُ تمزّق.
ومع ألمٍ لاذعٍ في عنقها، تحسّسته ييرينا ونظرت إلى أمّها.
في يد الأمّ العظمية كانت سلسلة العقد الذي أهداه الرجل، وخاتم خطوبة والديها.
‘أنتِ لا تستحقّين حمل هذا.’
قالتها الأمّ ببرود.
نظرت ييرينا إلى خاتم والديها نظرةً دامعة.
نزعت الملكة الخاتم الذي كان في الأصل حقًّا لييرينا، ثمّ حدّقت بازدراء في السلسلة المتبقّية، وألقتها في بركة الدم التي غرقت فيها ييرينا.
راحت ييرينا تخبط بيديها محاولةً الإمساك بالسلسلة على الأقلّ.
“أُه!”
وفي اللحظة التالية، تعمّقت بركة الدم أكثر.
وكما في كلّ مرّة داخل هذا الكابوس، أخذت ييرينا تلهث وتحرّك قدميها بحثًا عن الهواء.
“هـه… هـف!”
مع أنّها عاشت هذا المشهد عشرات المرّات، لم يزل الألم ولا الخوف.
أغمضت ييرينا عينيها بإحكام، وراحت تتخبّط كي لا تغرق.
وحين بلغت حدّها، أمسكت يدها بشيءٍ ما.
‘هذا…’
كان شيئًا ليّنًا ناعمًا، كذيل قطّ.
وهذا أيضًا كان يظهر في كلّ كابوس.
تردّدت ييرينا لحظةً أمام الإحساس الذي يلامس أصابعها.
حين تمسك به تشعر أنّها نجت، لكن ما إن يُسحَب بها إلى الأعلى حتّى…
‘…لا أستطيع التحمّل.’
مع أنّها تعرف ماهيّته، شدّت ييرينا قبضتها.
فرفعها ذلك الشيء، كخلاص، إلى فوق بركة الدم.
لكن ما إن خرجت حتّى سرت قشعريرة مرعبة من يدها.
فِسّ.
ما كانت تمسكه ييرينا كان أفعى.
مخلوقًا مقزّزًا مغطّى بحراشف سوداء داكنة، أظلم من ليل السماء.
كانت تحدّق بها بعينين حمراوين كلسانها.
في اللحظة التي تلاقَت فيها العيون، أفلتت ييرينا يدها.
الآن سينتهي هذا الكابوس.
اطمأنّت.
ما إن تترك الأفعى حتّى تسقط وينتهي كلّ شيء، وتفتح عينيها لتعود إلى الواقع.
لكنّ هذا اليوم كان مختلفًا.
لم تستطع ييرينا الاستيقاظ.
‘لماذا؟’
لم تسقط.
بل لم تستطع.
تسلّقت الأفعى على يدها، ولفّت ذراعها، مانعةً إيّاها من السقوط.
تدلّت ييرينا في الهواء، جامدةً من الذهول أمام كابوسٍ لا ينتهي.
هِسّ.
وخلال ذلك، واصلت الأفعى الزحف عليها.
من الذراع إلى الخصر، ثمّ إلى الساقين، لفّت ساقيها وصعدت مجدّدًا.
كان جسدها طويلًا على نحوٍ غير معقول.
جسدٌ لا ينتهي، يمتدّ بلا حدّ في الفراغ.
وأخيرًا، وصلت الأفعى إلى صدر ييرينا، والتفّت حولها بإحكام، تواجهها وجهًا لوجه.
كان المشهد مريعًا، مقزّزًا.
صرخت ييرينا وهي تتلوّى.
“لا، لا! ابتعد!”
بدأت الألوان والخطوط الواضحة تتشوّه ببطء.
وفي الوقت نفسه، غمرت موجةٌ ذهبيّة مجال الرؤية.
وحين رأت ييرينا كتلة الضوء الواضحة أمامها، أدركت أخيرًا أنّها استفاقت من الكابوس.
كانت الأميرة تلهث.
إحساس الوحش المقرف ما زال عالقًا بجسدها.
وبعد أن هدأت أنفاسها قليلًا، رفعت رأسها وحدّقت في الشخص أمامها وقالت:
“لِمَ أنت هنا؟”
—
لم يُجب الرجل عن سؤال ييرينا.
بل أمسك بما بدا أنّه منديل، وحاول أن يمسح العرق البارد عن وجهها.
طَقّ.
صفعت ييرينا يده فورًا، وصرخت بصوتٍ حادّ:
“سألتُك لِمَ أنت هنا!”
“…”
“حتّى لو كنتَ قائد حرسٍ، أترى من الصواب أن تكون هنا في هذا الوقت؟ هذا مخدعي. مكانٌ لا يجوز دخوله دون إذني!”
قد يبدو الأمر نوبةَ عصبيّة، لكنّ كلام ييرينا كان في محلّه.
فمخدع المرأة مكانٌ خاصّ، وحتّى الأزواج في بيوت النبلاء لا يدخلونه دون إذن.
ومع ذلك، كان الرجل داخل مخدعها دون إذن.
بل لا بدّ أنّه راقبها خفيةً في الظلام.
حين خطر لها أنّه رأى معاناتها مع الكابوس، انفجر الغضب في صدرها، وتضاعف معه شعورها بالمهانة.
“إلى أيّ حدٍّ أبدو سهلةً في نظرك؟ أسيرةٌ ملعونة، فتظنّها مثار سخرية؟”
أن يُدخَل إلى حيّزها الخاصّ بهذه السهولة أمرٌ لم تتخيّله يومًا، هي التي وُلدت ونشأت أميرةً محاطة بالحماية.
لكنّها الآن، وقد تبدّل كلّ شيء، شعرت بقلقٍ وخوفٍ عظيمين.
أميرةٌ نبيلة تحوّلت إلى أسيرة، بصرها عليل، ووصمة اللعنة تلاحقها.
وإن نُسيت هكذا…
وإن اقتحم أحدهم، كما فعل هذا الرجل، مخدعها وأذاها، دون أن يهتمّ أحد…
ألم تحاول بيانكا مرارًا قتلها مستخدمةً جين؟
“كم مرّة دخلتَ هذا المكان خفيةً؟ من جلستك واضح أنّها ليست المرّة الأولى!”
كان الخوف أعظم لأنّ الأمر جارٍ بالفعل.
راحت الدموع تنهمر من عيني ييرينا وهي تصبّ لومها عليه.
“أيّها الوقح!”
قبضت ييرينا يديها وانهالت عليه ضربًا.
كانت قبضتاها صغيرتين قياسًا إلى يديه، لكنّ الضربات المفعمة بالقوّة لم تكن هيّنة.
غير أنّ الرجل لم يصدّها.
اكتفى بتلقّي الضربات على كتفيه وصدره، منتظرًا حتّى تتعب وتتوقّف.
لا يُعرَف كم مرّ من الوقت.
حين خارت قواها، أخذت ييرينا تلهث وتراخت قبضتاها، فاستقرّت راحتاها على صدره.
انحنت ييرينا، وانفجرت بالبكاء كطفلة، ودفنت جبهتها في صدره.
غيّر الرجل وضعه ببطء لتستند إليه براحة، ووضع يده على ظهرها.
كانت يده دافئة وهو يربّت على ظهرها النحيل.
“…أنا آسف. كلّ هذا خطئي.”
وحين انتظم تنفّسها قليلًا، اعتذر بصوتٍ منخفض.
سمعت ييرينا خفقان قلبه السريع وسألته:
“…منذ متى؟”
“منذ خمسة أيّام دخلتُ دون إذن، لكنّ دخولي إلى هذا المكان كان للمرّة الأولى اليوم.”
كان ذلك كذبًا.
فهو جلس في مخدعها يراقبها منذ وقتٍ أطول بكثير.
غير أنّ هذا الكذب بدا ضئيلًا قياسًا بما يحمله في صدره من زيفٍ أعظم، لذا لم يظهر في صوته ولا في نبض قلبه أيّ ارتباك.
“كنتُ أعلم أنّه ذنبٌ جسيم، وأنّك ستكرهين الأمر، وأنّك ستغضبين إن كُشِف.”
“فلماذا فعلتَ ذلك؟ أكنتُ حقًّا بهذه السهولة؟”
اقتربت ييرينا أكثر، غير عالمةٍ بكذبه.
مرّر الرجل يده على شعرها، وقال هذه المرّة بصدق:
“لأنّي كنتُ قلقًا عليكِ، ولم أستطع أن أشيح بنظري.”
“ماذا…؟”
“حتّى في وضح النهار، يخيّم الظلّ تحت عينيكِ. هل تعلمين ذلك؟”
مسح بإصبعه أسفل عينيها وهو يتحدّث بنبرةٍ قاتمة.
ارتبكت ييرينا، التي لا تعرف كيف يبدو وجهها، حين شعرت بالحزن في صوته.
“كنتُ أقلق حين تغلبكِ النعاس وأنتِ تتحدّثين إليّ.”
“…”
“وكان يساورني القلق حين تفقدين وعيكِ أحيانًا أثناء المشي.”
“…”
“لم يتعافَ جسدكِ بعد، وخشيتُ أن يحدث لكِ مكروه، فلم أستطع أن أغضّ الطرف.”
“…”
“كلّما هممتِ بالنوم، خطرَ ببالي أمركِ. وكنتُ أعجز عن تحمّل القلق من أنّكِ لن تنامي جيّدًا الليلة أيضًا.”
تسارعت كلماته في نهايتها، ممزوجةً بالانفعال.
وشدّت يده على خصرها بقوّة.
قرّب شفتيه من طرف عينها، قبّلها مرارًا، ثم اعترف بهدوء:
“ولهذا دخلتُ المكان دون إذن.”
“…”
“ظننتُ أنّه إن عرفتُ سبب أرقكِ… إن وجدتُ الحلّ، فسأطمئنّ.”
وبعد أن فرغ من تبريره، طبع قبلةً وقورة على جبينها.
لم تجد ييرينا ما تقول، فاكتفت بتلقّي القُبَل في صمت.
كما في كلّ مرّة، كان هذا الرجل عصيًّا على الفهم.
يتصرّف بأدبٍ ونبل، ثمّ فجأةً يقبّلها بلا تردّد، ويلتصق بها، وينطق بكلماتٍ محرجة.
ولهذا، شعرت ييرينا أنّها تنجذب إليه دون حيلة.
رفعت يدها ببطء ولمست وجهه، ثم وضعت كفّها على خدّه وقالت.
التعليقات لهذا الفصل " 71"