حين تتابع الشرابُ فوق بقايا مفعولِ الدواء، اضطربت المشاعرُ التي كان يكبتها.
فكَّر الإمبراطور كيدريك أنّ بقاءه في هذا المكان أكثر قد يدفعه إلى ارتكاب ما لا يُحمد عقباه، فنهض من عرشِه.
ما إن وقف حتّى تجمّد جميعُ مَن كانوا يستمتعون بالوليمة.
كأنّهم دُمى نفد زنبركُها.
في العادة كان سيستمتعُ بهذا المشهد.
لكن ليس اليوم.
دفع كيدريك الخدمَ الذين اقتربوا منه، وسار وحده إلى غرفةِ الاستراحةِ المخصَّصة للإمبراطور خلف المنصّة.
وقبل أن يدخل، ألقى نظرةً خاطفةً إلى الخلف.
كان جميعُ الحضور منحنين بعمق، ينتظرون اختفاءه.
حشدٌ هائل لا يُرى من وجوهه شيء.
ضحك الإمبراطور قهقهةً ساخرةً من كمالِ سلطتِه الظاهري، ثم اختفى خلف الجدار.
بل، اختفى لهم.
“اخرجوا جميعًا.
اختفوا.”
صرف الخدمَ والجواري اللواتي اعتاد استدعاءهنّ في الآونة الأخيرة، ثم رفع زجاجةَ الخمر وشربها مباشرةً.
“كم سيفرح أولئك في الخارج لو متُّ.”
أمال رأسَه، يجرع الخمر، ساخرًا من واقعِه الذي ما زال فيه أدنى من أخيه غير الشقيق.
ولو كان يعلم.
لو بذل، بعد تولّيه العرش، جهدًا أكثر بقليل، أو أصغى مرّةً واحدة لنصيحةٍ وُجِّهت إليه، لكان الحال مختلفًا.
هكذا هو العرش.
مهما كان الأصل وضيعًا، ومهما كان المرء ضعيفًا، فلهيبُ المكان ذاته يمنح قوّة.
وفوق ذلك، في أوائل عهدِه، ورغم تفوّق أخيه غير الشقيق، كان له تيّارٌ جديدٌ متحمّس، يتّخذ من دوق دايه محورًا.
ولو استخدم تلك القوّة بقليلٍ من الذكاء، ولو ركض حين كان خصمُه المرعب مستلقيًا كأَسَدٍ شبعان، لربّما لَمْ يُنعَت اليوم بالإمبراطور الدمية.
لكن كيدريك لَمْ يُحاول يومًا أن يكون إمبراطورًا حقًّا، بل عاش غارقًا في اللذّات، لا يطلب إلّا النتائج.
وحتى الآن، كان يظنّ أنّه غير مذنب في كلّ ما آل إليه الحال.
“اللعنة.”
لا عيون تراقب.
ألقى الإمبراطور بنفسه على الأريكة الطويلة وهو يمسك الزجاجة.
ومع مرور الوقت، سخن جسدُه وضاق نفسُه.
“أنا إمبراطورُ هذه البلاد.
قمّةُ إمبراطوريّةِ ڤيستيوس العظيمة.”
اشتعلت الحرارةُ في عروقه، واحمرّ جسدُه.
فكَّ أزرارَ قميصِه بعشوائيّة، وأدار رأسَه نحو جهةِ النسيم.
عندها رأى بابَ الشرفةِ نصفَ المفتوح.
كانت الشرفةُ، كما يليق بغرفةِ استراحة الإمبراطور، واسعة.
تذكَّر المقعدَ الخشبيَّ الضخم هناك، وتمايل نحو الباب.
فَتَحَه بعنف.
خلع حذاءَه، فامتصّ الرخامُ البارد بعضَ الحرارة.
ضحك مترنّحًا، ثم ارتمى على المقعد.
‘في النهاية، مَن سيبقى هو أنا، لا ذلك الوغد روشان.
أنا مَن سيُخلَّد في التاريخ إمبراطورًا.’
كان سقفُ الشرفة مزدانًا كسماءٍ ليليّةٍ مصطنعة، بذرّاتِ الذهبِ والجواهر.
تأمّل الإلهةَ الضوئيّةَ ومنحوتاتِ الأباطرة، وفكَّر:
‘تلك المرأة… سأتركها له.
هي ملعونة أصلًا.
بل لعلّ في ذلك خيرًا.
ربّما يهلك روشان بلعنتها.’
تحسَّن مزاجُه.
أغمض عينيه، محاولًا طردَ مرارةِ ما سُلب منه.
وقبل أن يغفو، تسلّل إلى سمعِه همسٌ من أسفل الشرفة.
حديثُ عاشقَين.
“لم يأتِ سموّ وليّ العهد اليوم أيضًا.
لا حرب، فما الذي يشغله؟”
“منشغلٌ بألعابِ العشق.”
“العشق؟”
“أما سمعت؟
وقع في حبّ أميرةِ دولةٍ صغيرة.”
“أميرة؟”
“أميرةُ سيداس، تلك التي أُسرت.”
“آه… لكن أَلَمْ تُقدَّم للإمبراطور؟
ظننتُها ماتت أو حُبِسَت.”
“أنت بطيء الأخبار.”
تقطّبت ملامحُ الإمبراطور.
عاد الغضبُ الذي أخمده.
“الأميرة لَمْ تُقدَّم للإمبراطور.
قيل إنّها ملعونة.”
“ملعونة؟”
“قيل إنّ شبحَ سيداس تلبّسها.”
شدّ الإمبراطور قبضتَه على الدرابزين.
“تلك اللعنة ليست حقيقيّة.”
ضحكت المرأة، ثم قالت:
“إحدى الكاهنات قريبتِي.
قالت إنّ كلّ ذلك كان خطّةً من وليّ العهد.
اختلق اللعنة ليمنعها من دخول مخدع الإمبراطور.”
تجمّد الإمبراطور.
“خُدعَتْني…؟”
وما إن ارتفع نظرُ العاشقَين حتّى صرخا.
ظهر الإمبراطور فوقهما، عيناه محتقنتان.
“اعفُ عنا، مولاي.”
لم يبدُ على وجهه أيُّ عفو.
التفت، وفي تلك الليلة، جُرَّ العاشقان بعيدًا، ولن يُسمَع لهما أثر.
—
‘ييرينا.
طفلتي.’
الحلم ذاته.
رأت والديها، ينزفان، وإخوتها، وشعبَ سيداس.
نهرٌ من الدم يمتدّ إليهم، وينتهي عندها.
وحين ارتفع الدمُ إلى ذقنها، سمعت خطواتٍ تقترب.
‘ييرينا.
ابنتي الغالية.’
‘ييرينا.
أختي الوحيدة.’
تساقطت القطراتُ على وجهها.
كانت دموعَ دم.
عضّت شفتها، ثم قالت…
التعليقات لهذا الفصل " 70"