“……نعم. كلامُك صحيح. الخطأُ خطئي.”
كان صوتُها واهنًا لا يكاد يحمل قوّة، ومُثقَلًا بشعورٍ لا ينتهي من الذنب.
ارتعش فريدريك لحظةً حين وقعت عيناه على عينيها الزرقاوين الجامدتين اللتين لا تُبصران.
مع أنّها اعترفت بخضوعٍ صريح، إلّا أنّ شعوره ازداد سوءًا على نحوٍ غريب.
كأنّه بلغ حدًّا لا يمكن أن يزداد بعده قبحًا.
“لديّ سؤالٌ واحد.”
حين خيّم الصمتُ على فريدريك وهو يغرق في ذلك الإحساس المتهاوي، فتحت ييرينا فمها من جديد.
كان صوتُها هذه المرّة منظّمًا على نحوٍ لافت، وقد بدّلت نبرتها إلى هدوءٍ مهذّب، لكنّ وجهها ظلّ غارقًا في حزنٍ عميق.
شعر فريدريك بوخزٍ غير مريح قرب عظم ترقوته، فعضّ شفته بخفّة.
“أين والدي ووالدتي؟”
أطلق فريدريك زفرةً مكتومة في صدره.
هو قاسٍ مع المهزومين، لكنّه لم يستطع أن يكون فظًّا مع ابنةٍ تسأل عن والديها الميّتين.
ابتلع ريقه في فمه الذي امتلأ بمرارةٍ ثقيلة، ثمّ أجاب بصراحة:
“في سرداب القصر توجد غرفةٌ وُضِعَ فيها جثمانُ وليّ عهد سِيداس والأمير الثاني.
والداكِ في الغرفة المجاورة.”
“آه…….”
كان إخوةُ ييرينا قد سبقوا والديها إلى الموت، ولم يُستَطَع يومها سوى جمع جثثهم بالكاد.
أجسادٌ مثقوبة بآثار السيوف، وظهورٌ مغروسةٌ بالسهام، ودماءٌ سوداء متجمّدة.
وحين تذكّرت ييرينا لحظة رؤيتها لجثامين إخوتها، انهمرت دموعها دون توقّف.
لأنّها لا ترى، لم تخفُت ذكرياتها مع الوقت.
بل على العكس، كانت الصور التي تطفو في ظلمة عينيها تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم.
وبعد أن استحضرت موت إخوتها، عادت لتستعيد موت والديها مرّةً أخرى، فسألت بصوتٍ مرتجف:
“هَلْ…… هَلْ كانا بخير؟ هل رحلا بسلام؟”
“جيشُ الإمبراطوريّة لا يُسيء إلى أعدائه بعد موتهم.
الملكُ والملكة وُورِيَا الثرى في توابيت بعد مراسم دفنٍ مختصرة.
أمّا الجنازةُ الرسميّة فسيُقيمها ملكُ سِيداس الجديد.”
كان صوتُ فريدريك ألطف ممّا سبق.
وبالنظر إلى سلوكه حتّى الآن، كان يمكن اعتباره شبه ودود.
غير أنّ ييرينا لم تُعر أيّ اهتمامٍ لهذا التغيّر.
مسحت دموعها بطرف كمّها، وعدّلت وجهها بأصابعها، ثمّ أمالت رأسها بالكامل نحوه، وعلى ملامحها شرودٌ غريب.
“……سيدي. لديّ سؤالٌ آخر.”
“…….”
“إذا ذهبتُ حيّةً إلى الإمبراطوريّة، هل سيبقى مَن تبقّى في أمان؟
ألن يتعرّضوا بعد الآن لأذى من أمثالكم؟”
انتبه فريدريك فورًا إلى حدّة الكلمة التي شملت الإمبراطوريّة وجيشها.
اشتدّ صوته وقد احمرّ وجهه قليلًا من اضطراب صدره:
“وهل تعرفين جيشًا يحتلّ أرضًا ويتصرّف بتهذيبٍ أكثر منّا؟
يبدو أنّكِ لم تستوعبي الواقع بعد.”
خفضت ييرينا عينيها دون ردّ، وانتظرت الجواب بصمت.
كانت يداها مضمومتين بخفّة، وهيئتها أشبه بضباب الفجر المتلاشي.
شعر فريدريك وكأنّه يشاهد جداريةً عتيقة تبهت ألوانها تحت الشمس.
همّ أن يُدير ظهره، ثمّ زفر بعمق، واستدار فجأة وقال:
“سأمنحكِ الجواب الذي تريدينه.
حين نأخذكِ معنا إلى الإمبراطوريّة، سيحصلُ الملكُ على قدرٍ من الحرّيّة.
صحيح أنّه سيخضع لتدخّل الإمبراطوريّة، لكنّه على الأقلّ لن يبقى تحت احتلالٍ عسكريّ مباشر كما الآن.”
“……فهمت.”
لم تُظهر ييرينا ردّة فعلٍ تُذكر، لكنّ فريدريك أدرك أنّها رضخت أخيرًا.
“إن كنتِ قد فهمتِ، فكُلي.
بهذا الجسد الهزيل لن تصمدي في الطريق إلى الإمبراطوريّة، وحينها ينهار أيضًا السلامُ الذي تتمنّينه لبلادكِ.”
سحب طبق الحساء الفاتر نحوها مُحدِثًا صوتًا واضحًا.
ومدّ يده ليُرشدها إلى مكان الطعام.
‘أوه؟’
غير أنّ محاولته ذهبت سُدًى.
تحرّكت ييرينا قبل أن تصل يده، فأمسكت بالوعاء، وغرست الملعقة في منتصفه بدقّة، وبدأت تأكل.
كانت حركاتها مألوفة على نحوٍ مدهش، طبيعيّة كأنّها تفعل ذلك منذ عمرٍ كامل.
‘ما هذا……؟ أليست مألوفة أكثر ممّا ينبغي؟’
كان الأمر غير معقول.
فحتّى مَن يفقد البصر في عينٍ واحدة يختلّ توازنه وإحساسه بالمسافة.
لهذا كان الفرسان والجنود الذين فقدوا عينًا في المعركة يعانون طويلًا في البداية.
أمّا مَن فقدوا البصر كلّيًّا، فحياتهم دون مساعدةٍ تصبح مستحيلة.
لكنّ ييرينا لم تُبدِ أيّ أثرٍ لصدمة فقدان البصر المفاجئ.
بدت كأنّها اعتادت العمى منذ زمن.
‘والآن بعد التفكير…….’
حتّى حين كانت تثور كالمجنونة، كانت توجّه رأسها بدقّة نحو مخاطبها.
كانت تتحرّك اعتمادًا على السمع والإحساس وحدهما.
وهذا أمرٌ لا يُكتسَب في يومٍ أو يومين.
‘……غريب.’
راقبها فريدريك بعبوسٍ وهو يعضّ شفته السفلى.
كانت هي ترفع الملعقة إلى فمها بهدوءٍ رصين، حتى بدا المشهد أنيقًا على غير المتوقّع.
“لا أريد المزيد.”
“كما تشائين. سأنادي مَن يرفع المائدة.”
أنزلت ييرينا يدها بعد أن أكلت نصف الحساء.
لم يوبّخها فريدريك على الطعام المتبقّي.
أمر الخادمات بتنظيف المائدة وخدمتها، ثمّ خرج بهدوء.
وفي الخارج، همس لأحد رجاله:
“أحضِروا وصيفات الأميرة من سِيداس، والمرأة التي كانت مرضعتها.
لديّ ما أحتاج إلى التحقّق منه.”
—
لم يتبقَّ على العودة إلى الإمبراطوريّة سوى أسبوعٍ واحد.
وكان الجيشُ، الذي ابتعد عن وطنه لأكثر من نصف عام، غارقًا في نشوة الرجوع.
كان هايدِن ونوكس يُشرفان على الاستعدادات بأمرٍ من روشان.
وأهمّ تلك الأعمال كان حصر ثروات المملكة بحجّة التعويضات.
جزءٌ من الغنائم سيُوزَّع على الجنود، ولهذا عملوا بجدٍّ حتّى اللحظة الأخيرة.
“انتهينا من هنا…… هل نتمشّى قليلًا قبل الغداء؟”
“فكرةٌ جيّدة.”
خرجا من القاعة، وسارا في ممرّات القصر التي اعتاداها نسبيًّا.
“……لا أفهم.”
قال هايدِن فجأة.
مال نوكس برأسه وسأله:
“ماذا تقصد؟”
“تعيين فريدريك حارسًا للأميرة.”
“الحراسة؟ بل المراقبة.”
“فريدريك لا يُحبّها. سيُثير المتاعب.”
“كما فعل قبل أيّام؟”
“كنتَ تعلم؟”
“سمعتُ بذلك. قالوا إنّه تعمّد مضايقتها.”
بدا نوكس غير مكترث، على عكس قلق هايدِن.
“لكن ماذا بيدنا؟ هذا أمرُ سموّه.”
“……صحيح.”
تنهّد هايدِن، ثمّ قال:
“لكن حالتها تحسّنت. أظنّها قادرة على الرحيل بعد أسبوع.”
“رأيتُها هذا الصباح. بدت أكثر هدوءًا. تقبّلت وضعها.”
اطمأنّ هايدِن قليلًا.
توقّف نوكس فجأة وقال:
“هايدِن.”
“نعم؟”
“أنصحك بجدّيّة. لا تتعلّق بالأميرة.”
“ماذا؟”
“إنّها المرأة التي يريدها الإمبراطور.
وأيّ شبهةٍ حولها ستُسيء إلى سموّه.”
صمت هايدِن.
كان يعرف أنّه لا يحقّ له الاهتمام بها.
وحين رفع نظره، رأى في البعيد امرأةً ذات شعرٍ ذهبيّ طويل، ترتدي ثوبًا أسود، تسير بمساعدة وصيفتين.
وخلفها كان فريدريك، وخلفه بمسافةٍ، رجلٌ أسود الشعر طويل القامة.
روشان.
فتح نوكس فمه مذهولًا:
“سموّ……ه؟”
التعليقات لهذا الفصل " 7"