صار الطعامُ الفاخرُ أفخمَ ممّا كان، ووصلت أنواعٌ متعدِّدةٌ من الحلوى.
فكَّرت ييرينا أنّها تتمنّى لو أنّ الأسرى الآخرين الذين جُلبوا من مملكة سيداس أتيح لهم، في هذا الوقت على الأقلّ، أن يشبعوا، فالتقطت قطعةَ بسكويتٍ حُشِيَت بكمّيّةٍ وافرةٍ من الزبدةِ الغالية.
غير أنّ رائحةَ البسكويتِ الزكيّةَ لَمْ تُحرِّك شهيّتَها.
في الحقيقة، لَمْ تستطع ييرينا أن تستمتعَ بمهرجانِ تأسيسِ الدولةِ الذي كان الجميعُ يحتفلون به.
وكان ذلك طبيعيًّا.
فمهرجانُ تأسيسِ إمبراطوريّةِ ڤيستيوس لم يكن مناسبةً مُفرِحةً لها، وهي ابنةُ شعبِ مملكةِ سيداس التي احتلّتها الإمبراطوريّة.
بل إنّ فكرةَ أنّ جزءًا من الثرواتِ التي تُنفَق كالماءِ في هذه المناسبة قد جُمِعَ من سيداس كانت تُثقِل قلبَها.
‘… سيكون الأمرُ على ما يُرام.
فسيداس في هذا الوقت تبدأ الحصاد، ثم إنّ السَّيِّد كِيان قال ذلك بنفسه.
لقد خُفِّضَت الضرائبُ المفروضة على سيداس كثيرًا.’
حاولت ييرينا، على أيّ حال، أن ترفع مزاجَها الغارق.
لكن كلّما حاولت، ازداد شعورُها بأنّها عديمةُ النفع، وبالذنبِ تجاه المرأةِ القادمةِ من سيداس التي ستقف إلى جوار الإمبراطور، فلم يزد ذلك إلّا زفراتِها.
لا تدري كم من الوقت مضى على ذلك.
حين استسلم جسدُها للفتورِ كقطعةِ قطنٍ مبلولة، اقترب شخصٌ منها بهدوءٍ من الخلف، حيث كانت جالسةً على الأريكة.
“السَّيِّد كِيان؟”
وقف الرَّجلُ خلفها، ولم يُمدَّ إلّا يدَه إلى الأمام.
تدلَّى أمام عينيها صندوقٌ صغيرٌ لطيف، يتأرجح في يدٍ كبيرة.
“تفضّلي، ناديني باسمي فقط.”
تلقَّت ييرينا طلبَه بابتسامةٍ متسامحة، ثم سألت، وهي تنظر إلى الصندوقِ المتمايل ككتلةِ نور:
“ما هذا؟”
“هديّةٌ صغيرة.
في الإمبراطوريّة، جرت العادةُ أن يُقدِّم المرءُ هديّةً لمَن يُحبّ في هذا الوقت.”
“آه….”
عاد إلى ذهنها مرّةً أخرى وطنُها الذي لَمْ يتعافَ بعد من آثارِ الحرب.
لكنّها كتمت مشاعرَها، وأخذت الصندوق.
“شكرًا لك.”
“تفضّلي، افتحيه.”
امتثلت ييرينا، تتحسّس بيدها طرفَ الشريط.
لَمْ تعرف لونه، غير أنّ ملمسَ المخملِ النَّاعم دغدغ أطرافَ أصابعها.
انحلَّ الشريطُ برفق، وانسدل القماشُ الذي كان يلفُّ الصندوق.
وضعت ييرينا القماشةَ جانبًا، ورفعت قفلَ الصندوق إلى الأعلى.
طَقّ.
تحرَّك المعدنُ وانفتح الصندوق.
كان في داخله شيءٌ طويلٌ ورقيقٌ للغاية.
مرَّرت ييرينا أصابعها عليه، ثم رفعته بكلتا يديها، وهمست:
“قلادة…؟”
“نعم.
وبالدقّة، سِلسلةُ قلادة.”
لم ترَ ييرينا شكلَها كاملًا، لكنّها كانت، دون شكّ، قطعةً جميلة.
سِلكٌ ذهبيٌّ رفيع، تتوزَّع عليه اثنتا عشرة ماسّةً صغيرةً على مسافاتٍ متساوية.
تصميمٌ بسيطٌ للوهلةِ الأولى، غير أنّ حلقاتِ الذهبِ الدقيقة كانت تنساب بمنحنياتٍ كالأمواج، وكانت الماساتُ ذات لونٍ وبريقٍ غيرِ عاديَّين.
وبينما كانت تمرِّر أصابعها عليها ببطء، أطلق الرَّجلُ زفيرًا خافتًا وهو يراقبها.
ثم لمس مؤخرةَ عنقها بطرفِ إصبعه وقال:
“هنا…
وصلةُ القلادةِ التي ترتدينها الآن أصبحت رخوةً جدًّا.
قد تفقدين الخاتمَ المعلَّق بها في أيّ لحظة.”
“آه….”
رفعت ييرينا يدَها اليسرى إلى عنقها، تتحسّس الوصلة.
كانت السلسلةُ التي تحمل خاتمَ والديها رفيعةً ومريحة، لكنّها ضعيفة.
“ملاحظةٌ دقيقة.
في الحقيقة، سقطت مرّةً من قبل.
كان السَّيِّد فريدريك قد أصلحها، لكن يبدو أنّها رخَت مجدّدًا.”
فكَّرت ييرينا أنّ عينيه ثاقبتان حقًّا.
فثيابُها في الإمبراطوريّة كانت تُغطي العنقَ غالبًا، والسلسلةُ رفيعةٌ بالكاد تُرى.
ومع ذلك، انتبه إليها، بل وإلى وصلةِ إغلاقها.
سخن عنقُها دون أن تشعر.
تقلَّصت ملامحُه قليلًا حين ذُكِر اسمُ فريدريك، ثم ما لبث أن زال ذلك.
إذ إنّ رؤيةَ أذنِها المحمرّةِ قليلًا بدَّدت أيَّ ضيق.
“إن لم تمانعي، هل أُبدّلها لكِ الآن؟”
اقترب قليلًا وهو يسأل.
شعرت ييرينا بقشعريرةٍ تسري في عنقها، فأومأت برأسها بصمت.
“إذًا، أستأذن.”
جمع شعرَها بيديه الكبيرتين بلطف، وسحبه إلى الأمام فوق كتفها الأيمن.
وبينما كان يلمس عنقَها الحسّاس، عبثت ييرينا بشعرها المتدلّي، وقد تلونت أذناها وأطرافُ أصابعها بالورديّ.
توقَّف الرَّجلُ لحظةً أمام عنقها المكشوف.
عنقٌ طويلٌ أنيق، وكتفان ناعمان، ومنحنياتٌ تلوح من بين فُرَجِ الفستان.
دقَّ قلبُه بعنف، وتصاعدت في داخله رغبةٌ قاسيةٌ لعضِّ ذلك العنق.
التعليقات لهذا الفصل " 69"