“… وماذا لو تنبَّهَ ذاكَ الرَّجل؟”
قال الصبيُّ الكاهنُ فجأةً وهو يقف إلى جوار نائبِ النَّبيّ، مُتابعًا المشهدَ بصمت.
فأغلق نائبُ النَّبيّ غطاءَ القارورةِ بحذر، وقد أدرك فورًا مَن يقصدُه الصبيّ، وقال:
“بطبيعةِ الحال، لكونِه مُخفَّفًا فسيكونُ الأثرُ أضعفَ بكثير، لكنّنا حدَّدنا لوليِّ العهد الجرعةَ قياسًا بالقارورةِ التي سلَّمناه إيّاها… فلن يشكَّ في الأمر.”
“ما كان ينبغي إعطاؤه إيّاه. ذاك الرَّجلُ كان سيستعمله حتمًا بدافعِ الطَّمع. أليس في ذلك مخالفةٌ للتعاليمِ؟ إنّه سيُربك نظامَ العالم.”
تقلَّصت ما بين حاجبَي الصبيِّ الكاهنِ خطوطٌ ضيّقة.
فربتَ نائبُ النَّبيّ على جبينِه، وأعاد إليه القارورة.
“ما جرى قد جرى. علينا أن نعدَّه حظًّا حسنًا. ماذا عسانا نفعل؟”
“…”
“حتى لو بحثنا عنه الآن فلن نجده. في المستقبل لن يبقى مَن يستعمل هذا بدافعِ الطَّمع. يا إلهي… لعلَّ هذا أيضًا من مشيئتِكِ.”
“لكن…!”
تفجَّر اعتراضُ الصبيِّ وهو ينظر إلى نائبِ النَّبيّ المتوجِّه بالدعاءِ.
غير أنّ نائبَ النَّبيّ مسحَ جبينَه هذه المرَّة بإمعانٍ أكبر، مفرِدًا التَّجاعيد، وقال:
“إيان، نحنُ لا نختلف عن وليِّ العهد. نحنُ أيضًا نستعمل هذا بدافعِ الطَّمع.”
“…”
“فلنُمسِك عن اللَّوم، ولنرفع الصَّلاة. فهذا قَدَرُنا.”
استدعى الإمبراطورُ كيدريك أخاه.
وكان ذلك أمرًا نادرًا منذ زمن.
وبسببِ روشان، الذي دخلَ القاعةَ رغم الأمرِ بالانتظار، اصطفَّ عشراتُ الفرسان في قاعةِ العرش.
ولم يقتصر الأمرُ على ذلك، بل وقفَ خلفهم جنودٌ يحملون رماحًا طويلةً قادرةً على طعنِ العدوِّ من بعيد.
في المقابل، لم يُسمَح لروشان أن يُدخِلَ فرسانَه المقرَّبين، ولم يُسمَح له حتى بحملِ سيفٍ واحد، لكونِه واقفًا أمام الإمبراطور.
رافقه نوكس وهايدن إلى القصرِ المركزيّ، واحمرَّت وجوهُهما من الأمر، لكنّهما انسحبا بصمتٍ بإشارةٍ من روشان.
دخل روشان القاعةَ وحده، وتقدَّم ببطءٍ نحو أخيه غيرِ الشقيق، وانحنى تحيَّةً.
“روشان ڤيستيوس، شمسُ الإمبراطوريّةِ العظمى. أتشرفُ بالمثولِ أمام جلالتك.”
“شمسُ الإمبراطوريّةِ العظمى؟ ها!”
وقبل أن يُكمِل روشان تحيَّته، قذف الإمبراطورُ من على المنصَّةِ رزمةَ أوراقٍ كان يمسكها.
حلَّقت عشراتُ الصَّفحات في الهواء ثم تساقطت عند قدمي روشان.
ورغم اصطدامِ بعضها برأسِه ووجهِه، لم تتغيَّر ملامحُه.
بل إنّ الخدمَ في القاعةِ هم مَن ارتجفوا فزعًا.
حتّى الإمبراطور، وهو الفاعلُ، راقب أخاه بعينِ القلق، ثم شدَّ كتفيه وصاح:
“خائن!”
“…”
“أنتَ خائنٌ يا روشان ڤيستيوس!”
سكنت الأنفاسُ في القاعة.
فكلمةٌ واحدة من الإمبراطور كفيلةٌ بإرسالِ العائلةِ كلِّها، بل والأقرباءِ والدوابِّ، إلى المقصلة.
“أتجرؤ على الطَّمعِ فيما يخصُّ الإمبراطور؟”
لمحَ روشان إحدى الأوراقِ الساقطة، ورأى كلماتٍ مثل سِيداس، والأميرة، والأسيرة، مقترنةً باسمه، فحفظَ خطَّ الكتابة في ذهنه.
“تتجرَّأ، وأنتَ تحمل الاسمَ ذاته؟! أورثكَ الإمبراطورُ السَّابق دمه، فهل يليقُ بك هذا الفجور؟”
“…”
“أتجرؤ على الطَّمعِ في امرأةٍ قُدِّمت لي؟! تستحقُّ الموتَ فورًا!”
ازداد صوتُ الإمبراطور حدَّةً حين لم يُبدِ روشانُ اكتراثًا.
وكان كلامُه، في الحقيقة، صائبًا كلَّه.
فالطَّمعُ فيما يخصُّ الإمبراطور جريمةُ خيانةٍ تستوجبُ الموت.
“آه… أتعني أميرةَ سِيداس؟”
أجاب روشان بنبرةٍ فاترة، كأنّه أدرك المعنى الآن فقط.
قبضَ الإمبراطورُ على قبضتَيه بقوَّة.
‘هل يطمعُ في هذا المكان الآن؟ فجأة؟ لماذا؟’
شدَّه رعبٌ مفاجئ، وجعل ذهنَه صافيًا على غير العادة.
“كنتُ أتساءل عن سببِ هذا الغضب.”
رفعَ روشان رأسَه ونظرَ مباشرةً إلى وجهِ الإمبراطور.
شعر الإمبراطور، للحظة، أنّه فأرٌ أمام قطٍّ، وأنّ كلَّ الفرسانِ والجنودِ لن يحمُوه.
“مولاي، لو أردتُ الخيانة، لما طمعتُ في امرأةٍ فحسب، بل في شيءٍ آخر… شيءٍ فوق رأسِك.”
“ماذا؟! أنتم! احموني!”
بلغَ الرعبُ ذروتَه.
غير أنّ روشان واصل حديثَه بهدوء:
“لكنّي لا أريدُ ذلك. وأنتم تعلم.”
بدت عيناه، الممجَّدتان كدليلٍ على السُّلالةِ الوراثية، مجرَّدَ برهانٍ على كونه وحشًا.
فكَّر الإمبراطورُ في الأمرِ طويلًا، ثم رأى روشان يركع ببطء.
“مولاي، لقد خضتُ معاركَ لا تُحصى امتثالًا لأوامرك.”
“…”
“قدَّمتُ كلَّ ما طلبت، ولم أُشبِع شهوةً خاصَّةً واحدة.”
“…”
“فما الضَّيرُ في واحدةٍ، يا أخي؟”
“وقاحة!”
غير أنّ الإمبراطور لم يستطع الكلام.
ابتسمَ روشان ابتسامةً خفيفة، وأكمل:
“أنا بشرٌ أيضًا، وقد نشأت لي رغبة.”
“…”
“لعلّ القولَ بأنّ المرأةَ تُسيِّر الرِّجالَ لم يكن مجرَّدَ هراء.”
“…”
“فإن عاقبتَني، فذلك عدل. وإن عفوتَ… فمنحُ أسيرةٍ واحدة ليس كثيرًا، أليس كذلك؟”
كان تهديدًا في هيئةِ رجاء.
وبعد صمتٍ طويل، قال الإمبراطور بأسنانٍ مطبقة:
“لقد سمحت لك،لذا ارحل.”
كان عيدُ التأسيسِ أعظمَ مناسباتِ إمبراطوريّةِ ڤيستيوس.
أسبوعٌ كاملٌ من التَّرانيمِ والولائم، يشتركُ فيه الجميعُ دون تمييز.
حتى عامّةُ الناس تذوَّقوا الخبزَ الأبيضَ واللَّحم، والكهنةُ تذوَّقوا الحلوى والنَّبيذ.
وفي القصرِ الإمبراطوريّ، ورغم الإرهاق، امتلأت الجيوب.
“آه، إلى متى هذا؟ غرفُ الضيوف لا تنتهي!”
“تشجَّعي، الأجرُ يستحقُّ.”
“وأنا أحبُّ اللَّحم أكثر من الأجر!”
“احذري، لن تجدي فستانَ زفافٍ يناسبك!”
رغم تضاعفِ العمل، لم يتذمَّر أحد، إذ كان العيدُ وعدًا بالشِّبعِ والفرح.
التعليقات لهذا الفصل " 68"