منذ حادثةِ جين، لَمْ تمنح ييرينا الخادمةَ الجديدةَ أيَّ مودةٍ تُذكَر، بل لَمْ تسمح لها، على خلافِ جين، بالدُّخول إلى حَيِّزِها الخاص.
وبطلبٍ منها إلى أليسيا، ثُبِّتَ حبلُ نداءٍ متصلٌ بغرفةِ الخادمة، فلم تعد تستدعيها إلّا وقتَ الطَّعام أو للضرورةِ القصوى.
وكان الرَّجلُ يعلمُ ذلك كلَّه، وقد سُرَّ في قرارةِ نفسِه لأنّها لا تُقاربُ غيره، ومع ذلك تظاهر بالجهل وسألها بنبرةٍ وادعة:
“وهل يَسَعُني البقاءُ هنا؟”
“أنتَ… لا بأس.”
أومأت ييرينا ببطء.
منذ قُبلةِ أواخرِ الصَّيف، كفَّت عن مُقاومةِ قلبها، واعتبرت الرَّجلَ الشَّخصَ الوحيدَ الباقي إلى جانبها، والوحيدَ الذي تستطيع أن تمنحه مودَّتها، فاتَّكأت عليه لتصدَّ به فراغها ووحدتها.
ومع ذلك، لم يكن ذلك كافيًا، فالعُفنُ في داخلها ظلَّ يتآكل.
وبعد أن توقَّفت عن دفعِه بعيدًا، حلَّ السَّلامُ نهارًا، غير أنّ اللَّيلَ ظلَّ يعيدُ إليها كوابيسَ عائلتها وهي تُلقي عليها اللَّوم.
غير أنّ الأميرةَ رأت ذلك ألمًا ينبغي عليها تحمُّلُه، فلم تُظهِر شكوى.
دفن وجهَه هذه المرَّة في راحةِ يدها، فحجبت يدُها الصَّغيرةُ الرَّقيقةُ رؤيتَه، فشعر بقليلٍ من الطُّمأنينة.
لكنّ ذلك لَمْ يدم، إذ بدأت ييرينا تسعل فجأةً سعالًا جافًّا متتابعًا، كأنّها ستلفظ دمًا.
فهبَّ الرَّجلُ فزعًا وجلب لها ماءً.
“السيِّدة ييرينا.”
“شكرًا… يبدو أنّ الطَّقسَ يَبرد…”
حتّى وهي تشرب، ظلَّ السُّعالُ يتوالى، وكان لونُها شاحبًا، فعضَّ الرَّجلُ شفتَه عند رؤية الزُّرقةِ تزحف إلى وجهِها الأبيض.
كان ثوبُها قد اتَّسعَ عند العنق، وبدا جسدُها النَّحيلُ كأنّه سينكسر، وبرزت عظامُ التَّرقوة بوضوح.
وهو يعلم أنّ حالتها هذه من صُنعِه، جرحَ نفسَه في ذلك اليوم، شقَّ راحةَ يدِه بسيفٍ حيث كانت قد جُرحت من قبل، وطعن فخذَه بخنجرٍ تقليدًا لجرحٍ أخفاه، غير أنّ جسدَه التأمَ من تلقاءِ نفسِه وسطَ بريقٍ ذهبيّ.
‘الآن أفهمُ لماذا كانت أُمّي تَمقُتني.’
حدَّق في المرآة بجسدٍ سليمٍ تمامًا، وهو يَشعُر بالقرف، ومع ذلك واصل خطَّته ليُبقِي خداعَه حيًّا.
—
كانت الغرفةُ بيضاءَ في جدرانها وسقفها وأثاثها، بيضاءَ إلى حدٍّ لا يُوصَف.
على سريرٍ يتَّسع لستَّةِ بالغين، تمدَّد شيخٌ يلفظ أنفاسَه بصعوبة.
“هَغ…”
كان صوتُ أنفاسِه يحمل خشخشةَ معدن.
وقف نائبُ المرسل إلى جوار السَّرير، ثم التفت.
“إيان، أحضِرْ ذاك.”
تقدَّم الصَّبيُّ الكاهنُ بخطًى سريعة، وقدَّم قارورةً كانت في يده.
فتح نائبُ المرسل الغطاءَ وتنهد.
“ظننتُ أنّه سيصمدُ حتّى تبلغ الخامسةَ عشرة، لكن يبدو أنّ ذلك بات صعبًا.”
“…”
“لَمْ يبقَ سوى هذا…”
“…”
“مرسل في الثَّالثةَ عشرة… هذا مبكِّرٌ جدًّا. أخشى إن حان الوقتُ، هل ستُحسِن القيامَ بالأمر.”
كان الشَّيخُ هو نبيَّ المعبدِ الأعلى، وكانت القارورةُ ماءً أبيضَ نقيًّا.
وبقوَّةِ الإيمان، كان نائبُ المرسل يُطيل عمرَه قليلًا قليلًا.
غمَسَ قضيبًا زجاجيًّا في الماء، وقَرَّبه من شفتي المرسل، ففتح العجوزُ عينيه.
غير أنّهما كانتا خاويتين بلا بريق، كعيني رجلٍ ينتظر الموت.
تلك كانت الحقيقةُ العاريةُ للنَّبيّ الذي يُمجِّده ملايينُ المؤمنين في الإمبراطوريّة.
التعليقات لهذا الفصل " 67"