في الفجر الأزرق، قصد روشـان المعبدَ الأعظم داخل العاصمة
وكان هايدن، الذي جاء معه لمرافقته، يتأمّل المعبد الأبيض كلَّه، قبل أن يفزع ويتراجع خطوة حين ظهر من الظلمة، كالشبح، فتى كاهنٌ أبيض.
“كنتُ بانتظارك.
سأقودك.”
انحنى الفتى الكاهن نحو روشـان، ثم تقدّمهم في السير.
تحرّك روشـان، ولحقه هايدن على بُعد خطوة واحدة.
عبر الثلاثة قاعةً هائلة، ثم ساروا في ممرٍّ طويل، ليصلوا إلى متاهة من الطرق المتشعّبة.
كان الفتى الأبيض يعرف الطريق، فقادهم من دون تردّد.
وأخيرًا، ظهرت أمامهم بوّابة عظيمة منقوش عليها رمز حاكم النور والشمس.
ما إن وضع الفتى يده على الباب، حتى انبعث خيطٌ من نورٍ ذهبيّ.
وفي اللحظة نفسها، لمع الباب بأكمله، ثم انفتح من تلقاء نفسه، مع أنّه بدا أثقل من أن يدفعه رجلان بالغان.
اتّسعت عينا هايدن، إذ كانت هذه المرّة الأولى التي يشهد فيها هذا المشهد.
أمّا روشـان والفتى الأبيض، فدخلا بهدوء، بوجوهٍ اعتادت الأمر.
داخل الباب، بدت القاعة أصغر ممّا توقّعوا.
غير أنّ التمثال، الممتدّ من الأرض إلى سقف القاعة المركزيّ، كان مهيبًا بما يكفي ليُشعر المرء بالضآلة.
“سموّ وليّ العهد الإمبراطوريّ.
مرّ وقتٌ طويل.”
كان يقف أمام التمثال كاهنٌ مسنّ.
يرتدي رداء كهنة بنيّ اللون، ويبدو للوهلة الأولى كفلاحٍ عاديّ.
غير أنّه كان الذراع اليمنى للسيّد المرسلّ، ونائبَه، أي الرجل الثاني في المعبد.
“ما زلتَ بصحّة جيّدة.”
“بفضل الرحمة.”
تحدّث روشـان إلى نائب المرسلّ، الذي لم يتغيّر كثيرًا عمّا كان عليه قبل سنوات.
ابتسم الرجل ببساطة، ثم عدّل ياقة ردائه، ونظر إلى روشـان مباشرة وسأل:
“لكن يا مولاي، ما الذي جاء بك إلى هذا العجوز؟”
“في الحقيقة، جئتُ أبحث عن المرسل نفسه.
لكن بما أنّ الخارج إليّ هو أنت، فلا بدّ أنّه صار عاجزًا عن الحركة.”
“إنّ المرسلّ منصرف إلى الإصغاء لكلمات مقدسة.
لذا خرجتُ بدلًا عنه، وأرجو المعذرة.”
رفع روشـان زاوية فمه، وهو يرى كيف يصوغ نائب المرسلّ بلطف حقيقة أنّ الرجل طاعن في السنّ يرقد شبه فاقد للوعي.
ثم قال غرضه:
“هل اطّلعتَ على الرسالة التي بعثتُها؟
وما جوابكم عليها؟”
منذ أن امتلكت يَرينا تلك العينين الغريبتين، لم يعد روشـان يثق بأليسيا.
ومع ذلك، ظلّ راغبًا في معرفة حقيقة عيني يَرينا، فكتب إلى المرسلّ.
“حين يمتدّ النور الذهبيّ، رمز النعمة ، أمام الإنسان، ويُمنح الأعمى عينًا جديدة، فإنّ يد الحاكم تبلغ من هم جديرون بالشفقة.”
“…….”
“وكما ورد في السجلات، وُجدت حالات شبيهة بما ذكرتم، عاد فيها أشخاص إلى الإبصار.
لكن لا توجد حقيقة تؤكّد أنّهم أبصروا كغيرهم من الناس.
ومع ذلك، لا شيء مستحيل، فالإله قادر على كلّ شيء.”
أكّد نائب المرسلّ أنّ حالة يَرينا الراهنة تدخّلٌ صريح من القوة المقدسة.
غير أنّ ما سيحدث لاحقًا أمرٌ لا يمكن الجزم به.
وعند هذا الجواب، اشتدّ برود وجه روشـان.
“إذًا لا شيء مؤكّد.
فماذا لو استُخدم السمّ في تلك الحالة؟
إن استُعمل سمٌّ يُقال إنّه يُعمي، فهل تُغمَض تلك العين التي فتحها الحاكم من جديد؟”
“مهما كان السمّ فظيعًا، أليس مجرّد أداة بشريّة؟
إلّا إن سحب الحاكم رحمته، فلا شيء كهذا قادر على قهر قوّتها.”
نقر روشـان لسانه بضيق.
منذ أن وعى مشاعره تجاه يَرينا تمامًا، راوده الخوف من أن تُبصر يومًا وتكتشف حقيقته.
لذا بحث عن وسيلة، لكنّ الأمر لم يكن سهلًا.
“……هذا مزعج إلى حدّ لا يُحتمل.”
قالها بوقاحة لعدم حصوله على الجواب الذي يريد.
تصلّب وجه نائب المرسلّ عند هذا الكلام، لكنّه لم يغضب ولم يعاتبه.
“……إذًا، يكفي أن نمنعها من الإبصار دون المساس بالمعجزة نفسها.”
“ماذا؟”
“قيل إنّك، حين حوّلم ملك الكفّار إلى حملٍ من حملان الإلهة، استخدمت أداةً مثيرة للاهتمام.”
فجأة، نبش روشـان قصّة قديمة أمام نائب المرسلّ.
وعند ذكر ملك الكفّار، تقلّصت ملامح الرجل.
قبل أكثر من مئتي عام، ظهر في الإمبراطوريّة دينٌ جديد عظيم تمرّد على حاكم النور.
أطلق عليه المعبد اسم “ملك الكفّار”، وسعى جاهدًا للقبض على زعيمه.
لم يكن الأمر سهلًا، ولم يُقبَض عليه إلّا بعد تدخّل العائلة الإمبراطوريّة.
وبدل إعدامه، اختار المعبد عقابًا آخر، فدمّره أمام الناس.
“لا داعي لهذا الوجه.
فسادكم الأخلاقيّ لا يعنيني.”
حين كان ملك الكفّار في ذروة صعوده، حصل المعبد مصادفةً على أثرٍ مقدّس، وجرّبه حتّى أنتج سائلًا يُدعى “الماء الأبيض النقيّ”.
لم يكن دواءً بالمعنى المعتاد.
فهو يشفي الجروح كلّيًّا، لكنّه يمحو من الذاكرة بقدر ما يشفي من الجسد.
‘واصلوا حتّى يتطهّر ذلك القذر.’
عذّب المرسلّ آنذاك ملكَ الكفّار، جرحه ثم شفاه بالماء الأبيض، مرارًا.
تكُسَّرت أطرافه، وسُلخت جلده السياط، وفي النهاية فقد كلّ ذكرياته.
حوّله المعبد إلى قيّم إسطبلٍ متديّنٍ مهووس بحاكم النور.
نسي كلّ شيء، وصار يكنس روث الخيل، ويرشّ القاذورات على أتباعه القدامى.
وكان ذلك مشهدًا دعائيًّا ممتازًا.
“لكن يا مولاي، ذلك الأثر لم يُستخدم إلّا على ملك الكفّار لسبب.
إنّه شيء خطر ومروّع.
يشفي العظام واللحم، لكنّه يسرق الذكريات.”
حتّى داخل المعبد، أُثير جدل كبير حول الماء الأبيض.
لصنع سبع قارورات صغيرة منه، ضُحّي بحياة أربعة كهنة كبار وتسعة عشر كاهنًا عاديًّا.
وفوق ذلك، أثرٌ يستبدل الجروح بالذكريات كان بالغ الخطورة.
وفي النهاية، دمّر المعبد طريقة تصنيعه وأتلف الأثر.
غير أنّ قارورتين من السبع، بعد استخدام خمس على ملك الكفّار، لم تُدمَّرا.
“وهذا ما أريده.”
طلب روشـان الماء الأبيض بوجهٍ هادئ، غير آبه بتحذير نائب المرسلّ.
هزّ الرجل رأسه بحزم وهمّ بالاعتراض، لكن روشـان سبقه:
“إذًا، أفضّل أن تُسلّمه لي.
وإلّا، فلتقضِ بقيّة عمرك قيّمَ إسطبلٍ، كملك الكفّار.”
“……مولاي، هل تُهدّد هذا العجوز؟”
“لسنا في زمن وجود قدّيسة.
ولو راعيتَ خاطري قليلًا، فلن يلومك أحد.”
كان تهديده صريحًا بلا رمشة عين.
حدّق نائب المرسلّ في عيني روشـان الحمراوين طويلًا، ثم قال بنبرة متوسّلة:
“……كلّ الذنوب تولد من الطمع، وطمع العظماء يجلب الكوارث.
لكنّكم، يا مولاي، كنتم شريفين بلا طمع.
ولهذا احترمكم المرسلّ، وعدّكم من سلالة الإلهة الحقّة.”
“…….”
“فلماذا الآن؟
لماذا تطلبون أثرًا كهذا؟
ما الذي جعلكم على هذا القدر من الجشع والاندفاع؟”
“…….”
“أبسبب تلك المرأة المذكورة في الرسالة؟”
ما إن ذُكرت الأميرة المحجوزة في البرج، حتّى تغيّر وجه روشـان.
انبثق منه تهديدٌ حادّ، جعل هايدن ونائب المرسلّ معًا يصمتان رعبًا.
“أن تُغَلّف قلة الأدب بهذا القدر من الالتفاف مهارة فعلًا.”
رفع روشـان رأسه قليلًا، ونظر إلى تمثال إلهة النور الهائل.
التقت عيناه بعيني الإلهة التي تطلّ على الخلق.
“وتكلّم بدقّة.
أليست تسميتك لي بالرسول بسبب هذه العينين وهذا النور؟”
في عيني التمثال، كان مغروسًا حجران كريمان أحمران بحجم قبضة اليد.
لمع التمثال، كما يلمع روشـان بعينيه الحمراوين.
ثم أنزل نظره ببطء واستدار.
“حان وقت الرحيل.
سأرسل من يستلم الشيء قريبًا.”
كان صوته واثقًا إلى حدّ أنّه لم يتخيّل الرفض أصلًا.
تبعَه هايدن، ثم التفت خلفه ليلمح نائب المرسلّ.
كان العجوز قد ركع، يناجي .
وفوقه، تلألأت يد التمثال المذهّبة، تُسقط نورًا ذهبيًّا.
—
انقضى الصيف البارد.
وفي نهاية فصلٍ صمدت فيه بالكاد على دفء من بجوارها، بدأت كروم اللبلاب التي تلتفّ حول البرج تحمرّ.
ومع احمرار الأوراق وذُبول الأغصان، اقترب عيد التأسيس.
أعظم احتفالٍ إمبراطوريّ، يُقام في أكثر فصول السنة خصبًا.
وبدأ النبلاء من الأقاليم البعيدة يتوافدون إلى العاصمة.
ومع ازدياد الناس، كثرت الولائم.
وتنافست العائلات الميسورة على إنفاق ثروات طائلة في ليلة واحدة، واستمتع الناس بذلك.
“هل سمعتِ تلك الإشاعة؟”
“أيّ إشاعة؟
ما الخبر الجديد يا كونتسية؟”
ومع امتداد تلك الليالي، تضخّمت الشائعات السرّيّة أيضًا.
لم تكن يَرينا تعلم، لكنّها صارت إحدى بطلات الأحاديث المتداولة همسًا.
“يقال إنّ وليّ العهد الإمبراطوريّ يلتقي سرًّا بأميرة سيداس.”
“أميرة سيداس؟
تقصدين الأميرة التي أُسرت في الحرب؟
سمعتُ أنّها جميلة جدًّا.”
“نعم، هي.”
“لكن أليست محظيّة جلالة الإمبراطور؟
ألم تُشَنّ الحرب أصلًا لأنّ الإمبراطور طمع بها؟”
“يا للعجب، يبدو أنّكِ لا تعلمين.
الأميرة لم تدخل مخدع الإمبراطور قطّ.
قيل إنّ كبير كهنة سيناغس لعنها، فحُبست في البرج.
وهكذا، التقى بها سموّ وليّ العهد مصادفة.”
التعليقات لهذا الفصل " 65"