“أتعلمين هذا؟
يقولون إنّني لن أموت.”
“…….”
“قالوا إنّ سموّ الأميرة ييرينا تافهة إلى هذا الحدّ……
مجرد أسيرة لا قيمة لها، لذا قرّروا أن يمنحوني بعض الرحمة.”
“…….”
“قد يُنفونني إلى مكان بعيد،
لكن عائلتي ستعيش بخير بالمال الذي كسبتُه،
وأنا أيضًا، بعد انتهاء مدّة حكمي، سأعيش حياة طيّبة.”
آخر ما رآه الرجل في عيني ييرينا كان شيئًا واحدًا.
كان القلق.
كانت ييرينا لا تزال عاجزة عن التخلّي عن خوفها من أن تلقى جين حتفها بسبب هذا الأمر.
والرجل أدرك ذلك أيضًا.
لذا كان قد أمر جين منذ زمن.
أن تُخبر الأميرة بأنّك لن تموت.
حتى تتخلّص من قلقها تجاهك،
وتمضي عمرها كلّه وهي تتذكّرك خائنة لا غير، ثم تنساك.
‘كم هي محبوبة.’
يا لغبائها.
امرأة غبيّة إلى حدّ يُرثى، شديدة التعلّق بالآخرين.
[؟؟؟؟؟؟؟؟]
لو كانت غيرها، لقطّب حاجبيه وقال بلا تردّد إنّها عديمة الفائدة، وأمر بالتخلّص منها فورًا.
لكن لأنّها ييرينا، كان كلّ شيء مقبولًا.
بالنسبة للرجل، كانت ييرينا كاملة منذ زمن.
أيًّا كان مظهرها، وأيًّا كان الفعل الأحمق الذي تأتي به، لم يكن يهم.
هي بذاتها كانت حبيبة إلى النفس.
“هذا قاسٍ حقًّا يا جين.
كيف…… كيف تفعلين هذا بي…….”
من دون أن تعرف أيّ تعبير يرتسم على وجه الرجل الواقف خلفها، فتحت ييرينا فمها بصعوبة.
وعند رؤيتها كذلك، انحنت عينا الرجل مبتسمتين.
اشتدّت القوّة في يده التي كانت تطوّقها.
لكن ييرينا، المثقلة بالجراح الممزّقة، لم يكن لديها متّسع لتشعر بذلك.
ارتجف جسد جين عند رؤية الرجل.
سرت قشعريرة في عمودها الفقري.
كيف يمكن لمن يرتكب هذا الخداع المدمّر لإنسان أن يحتفظ بهذا الوجه.
أرادت أن تخبر الأميرة بالحقيقة، الأميرة التي كانت تُخدع بكذبة صنعها ذلك الرجل.
لكن ألم تكن هي نفسها جزءًا من هذه الكذبة التي يلوّح بها؟
أرخَت جين كتفيها، وفتحت فمها وهي تشعر بالقرف من نفسها.
“لذا، أتمنّى أن تعيشي بصحّة طويلة يا سيّدتي ييرينا.
أقول هذا لأنّ بيننا ودًّا سابقًا.”
كان صوتها ساخرًا،
لكن مضمون كلامها كان صادقًا.
غير أنّه لم يصل إلى ييرينا سوى على أنّه استهزاء.
اكتفت ييرينا بالنظر إلى جين بوجه غائم.
عندها همس الرجل بعينيه إلى جين: لقد حان وقت خروجك.
“لا أعلم كيف دخلتِ،
لكن هلّا غادرتِ الآن؟
كنت نائمة وقد أيقظتِني، وأنا متعبة.
بعد أيّام قليلة سأرحل في طريق طويل.”
أدارت جين جسدها ونفّذت آخر أمر أُسند إليها.
بلّل الدمع وجهها من شدّة الاعتذار والذنب.
لكن الأميرة التي لا ترى لم يصلها ذلك الصدق.
“……عيشي بخير، يا جين.”
بعد زمن طويل، ودّعت الأميرة العمياء بصوت مبلّل.
وكانت دمعة جين قد بلغت حنجرتها، فلم تستطع الردّ.
صرير.
أُغلِق الباب بالصوت المرعب ذاته الذي فُتح به.
وبقيت جين، التي كانت تسدّ فمها، واقفة حتّى تلاشى وقع خطاهما، ثم انهارت أخيرًا على الأرض وأجهشت بالبكاء.
—
بعد رحيل جين، قلّ كلام ييرينا بشكل ملحوظ.
حتى الخادمة التي أُرسلت حديثًا للبقاء إلى جوارها لم تكن تفتح فمها إلّا إذا بادرتها ييرينا بالكلام أو أمرتها.
ولولا صخب صراصير الصيف المتأخّرة، لغرقت البرج في صمت موحش.
“سيّدتي ييرينا.”
“نعم، أيّها الفارس.”
بعد حادثة جين، توقّفت ييرينا عن تجاهل ‘كيان’ عمدًا.
كانت تردّ التحيّة إذا حيّاها، وأحيانًا تبادره بالكلام.
لكنّها لم تذكر اعترافه السابق بكلمة واحدة.
وهو أيضًا لم يتطرّق إلى ذلك الأمر.
الوضع الحالي لم يكن مُرضيًا تمامًا، لكنّه لم يكن ممّا لا يُحتمل.
“لديّ اليوم الكثير لأقوله عن مملكة سيداس.”
حين كان يفتتح الحديث بذريعة نقل أخبار سيداس، كانت الأميرة تنظر إليه.
وفي وجهها، الذي بات يصغي إليه أكثر من ذي قبل، انتشرت وحدة صامتة.
ييرينا، التي جُرحت نفسيًّا بشدّة بسبب جين، كانت تتحاشى الانفتاح على الخادمة الجديدة.
والخادمة بدورها، إذ تعلم حقيقة الوضع ونهاية سابقتها، لم تجرؤ على الاقتراب.
لكنّ الوحدة داء فطريّ في الإنسان.
مهما تظاهر بالقوّة، كانت ييرينا بحاجة إلى من تتّكئ عليه.
وكان من ستختاره معروفًا منذ البداية.
أليسيا الباردة بعض الشيء والراهبات،
وفريدريك الذي أخذ يرسم حدودًا منذ زمن.
لم تعد ييرينا قادرة على إبعاد ‘كيان’ الذي أظهر لها اهتمامه باستمرار.
“ثمّ……
بدأ جلالة الإمبراطور مؤخرًا يُدَلّل محظيّة جديدة.
وقيل إنّ موطنها الأصلي هو مملكة سيداس.”
“نعم؟”
وفي اللحظة التي بدأت فيها ييرينا تعتمد عليه وحده كما أراد،
قرّر الرجل أن يمحو حتّى هدفها.
مع عودة أخبار سيداس إلى مسامعها، بدت ييرينا واهنة،
لكنّها كانت لا تزال تفكّر، إن سنحت الفرصة، في دخول مخدع الإمبراطور من أجل وطنها.
ولم يستطع الرجل تحمّل ذلك.
لم يكن ليغفر حتّى مجرّد أن تفكّر الأميرة في مخدع رجل غيره.
“نقلها إلى القصر الجانبي داخل القصر المركزي يدلّ على أنّ جلالته يُعيرها اهتمامًا كبيرًا.
ويبدو أنّه، بفضلها، بات يكثر من لقاء مبعوث سيداس هذه المرّة على انفراد.”
“…….”
“قد نحتاج إلى مزيد من المراقبة،
لكنّ الأجواء الحاليّة توحي بأنّ الأمر سيكون في صالح سيداس.”
“…….”
“ألا يسعدكِ هذا؟
لطالما كنتِ قلقة على وطنك.”
لذلك استخدم الرجل نفوذه سرًّا،
ودعم استقرار تلك المحظيّة القادمة من سيداس إلى جانب الإمبراطور.
وبهذا، محا الهدف الذي كانت الأميرة تسعى إليه وهي تشعر بالقرف منه.
“……خبر جيّد.”
للمرّة الأولى منذ رحيل جين، أظهرت الأميرة تعبيرًا واضحًا.
وجه يجتمع فيه الفراغ والاطمئنان.
وقد بدت، بعد أن خارت قواها، كمن فقد معالم حياته ونظر بعينين خاويتين.
“هل يمكنني لقاء تلك المرأة؟
أودّ التحدّث معها عن مملكة سيداس.”
“أعتذر،
سيكون ذلك صعبًا.”
“آه……
أفهم.”
“…….”
“……آسفة.
طلبتُ ما لا داعي له.”
أومأت ييرينا ببطء، ثمّ توقّفت فجأة.
تشنّجت يدها الصغيرة الموضوعة فوق ركبتيها.
إن كانت تلك المرأة تُحسن التقرّب من الإمبراطور وتعود بالفائدة على وطنها،
فكما قال الرجل، كان ذلك أمرًا مفرحًا.
شعرت ييرينا بالذنب تجاه من أدّت دورًا عجزت هي عن أدائه،
وتمنّت لها الاستمرار في النجاح.
لكن، ما هذا الفراغ الذي يسكنها؟
حتّى الآن، حين تتخيّل نفسها ذاهبة إلى مخدع الإمبراطور،
يقشعرّ بدنها ويغمرها النفور.
لكن مهما كان ذلك مقززًا، فقد كان هدفًا حملته طويلًا.
“لماذا أنا هنا أصلًا…….”
استولى الوهن على ييرينا.
تلاشت المهمّة التي كانت عليها فجأة،
وتسلّل إليها الشكّ في وجودها ذاته.
هل ستبقى هنا إلى الأبد، عاجزة،
تعيش خائفة من أن تُغتال على يد بيانكا التي تكرهها؟
‘الآن وقد فكّرت بالأمر، زيارات أليسيا قلّت أيضًا.
هل بدأ المعبد يتخلّى عنّي؟’
أم هل ينبغي أن تستعدّ للخروج؟
لكن إلى أين، وماذا يمكنها أن تفعل؟
هل سيستقبلها أحد في الخارج؟
‘لماذا لم يصلني ردّ من فريا؟
هل وصلت رسالتي إلى سيداس؟
لا. لا أتوقّع شيئًا.
كنت أعلم أنّ احتمال الردّ ضعيف.’
تحوّلت جراح حادثة جين إلى هوّة عميقة،
تُبقي ييرينا أسيرة كآبتها.
أفكار سوداء تدور في رأسها، وجسدها يرتجف.
“لا تنسي الوعد الذي قطعتهِ لي.”
“…….”
“إن أخلفتِه،
فسأشعر بالمرارة كثيرًا.”
كأنّه قرأ أفكارها، قال الرجل ذلك.
كانت ييرينا قد نسيت وجوده للحظة، فانتبهت فجأة وأدارت رأسها نحوه.
وعند رؤيته تركيزها يعود إليه، أطلق الرجل زفيرًا خافتًا.
“……حسنًا.”
أومأت ييرينا الشاحبة.
ثمّ، بعد تردّد، نادته.
“أيّها الفارس.”
“…….”
“الجوّ حارّ بلا شكّ……
لكن لماذا أشعر بهذا البرد؟”
“…….”
“لو غطّيتُ نفسي أكثر،
لتصبّب العرق منّي…….”
“…….”
“……أنا شديدة البرودة.”
قد يبدو ذلك تذمّرًا غير منطقيّ،
لكن وجه ييرينا ويداها المرتعشتان، وشحوبها الذي يوحي بالموت، كانت دليلًا واضحًا على أنّها تشعر فعلًا بالبرد.
تردّد الرجل.
ماذا يفعل؟
بان التردّد على وجهه.
“أيّها الفارس.
هل ما زلتَ تحبّني؟”
سألته فجأة.
لم يتوقّع أن تفتح هذا الموضوع بنفسها، فتجمّد للحظة.
لكنّه سرعان ما أومأ وقال بوضوح: “نعم.”
انخفض توتّر كتفي ييرينا قليلًا.
انحنت برأسها، تفكّر طويلًا.
ثمّ، وقد ازداد ارتجافها، رفعت رأسها بعجلة.
عانقت جسدها وهي جالسة، وعضّت شفتيها اللتين ازرقتا من شدّة البرد.
وقالت، مانعةً إيّاه من الاقتراب أكثر:
“إذًا……
هل يمكنك أن تعانقني قليلًا؟”
بدت الدهشة على وجه الرجل.
لكنّه سرعان ما غرق في نشوة بطيئة واقترب منها.
وقف أمامها، وانحنى بعمق،
وفتح ذراعيه ليضمّ جسدها الصغير إلى صدره.
بادرت ييرينا بالاتّكاء عليه.
أنفاسها السريعة التي لامست عنقه بين كتفه ووجهه دغدغت أذنه.
شدّ الرجل ذراعيه أكثر،
فأنّت ييرينا ألمًا، ومع ذلك تشبّثت به.
استعار أنفاسه من حركة جسدها المتلهّف.
أطلق زفيرًا بطيئًا فوق كتفها وأمال رأسه قليلًا.
رفعت ييرينا وجهها قليلًا،
فلامست شفتاه ذقنها أسفل شفتيها مباشرة.
ارتبكت، وحاولت الابتعاد.
لكنّه لم يحتمل،
وضغط عليها أكثر، وقصدًا لامس بشفتيه أسفل شفتها مرّة أخرى.
ثمّ جاءت الشفاه.
ابتلع الرجل شفتَيها الجافتين الزرقاوين دفعة واحدة.
تجمّد عقل ييرينا من المفاجأة،
وأرادت دفعه، لكنّ قوّة يديها خانتها.
استسلم جسدها له.
فأخذ الرجل، الذي كان يلامسها بحذر يعضّ، ثمّ يسكب أنفاسه الحارّة.
تبدّد البرد دفعة واحدة.
نار دافئة انتشرت في جسدها.
صعبٌ التنفّس،
وصوتٌ يخرج منها بلا إرادة،
ومع ذلك، تسلّل إليها شعور غريب بالاطمئنان.
أغمضت عينيها، راغبة في النوم على هذه الحال.
لكنّه، بخلافها، لم يُغمض عينيه.
المخادع ذو العينين الحمراوين ظلّ يلتهم الأميرة المتعطّشة،
ويطبع كلّ مشهد بوضوح داخل عينيه الحمراوين.
التعليقات لهذا الفصل " 64"