‘اِصمُت! أنا الإمبراطور، إمبراطورُ هذه الإمبراطوريّة.’
كان كيدريك، وقد صار إمبراطورًا، كالمُهرة التي انفلت عقالُها.
ففي أيّام كونه أميرًا كان يُحسِن مراعاة العيون، أمّا ما إن اعتلى العرش حتّى صار يتصرّف كما يشاء.
لم يكن يهتمّ بشيءٍ سوى إشباع رغباته، حتّى إنّ الدوق لم يعد يجد في نفسه حتّى الحافز لقيادته أو تقويمه.
‘ليليانا، على الأقلّ أنتِ، تداركي الأمر واهدِي جلالة الإمبراطور إلى الطريق القويم!
ألا تخجلين من الطفل الذي في بطنكِ؟’
‘طفل؟ ذلك كان كذبًا يا أبي.
لكن لا داعي للغضب، يمكنني أن أنجب طفلًا متى شئت.’
ثمّ ماذا عن الابنة التي صارت إمبراطورة بشقّ الأنفس؟
ليليانا، التي كانت تضحك قائلةً إنّ الحمل كان كذبة، انفصلت عن كيدريك بعد عامين فقط من اعتلائها منصب الإمبراطورة.
وبدا كأنّ عقلها قد اختلّ، إذ شرعت فجأةً تشتاق إلى روشان،
وتقلّد بطلة المآسي في مسرحيّاتٍ رخيصة لا يشاهدها سوى العامّة.
عندما آلت الأمور إلى هذا الحدّ، كان الدوق على وشك الجنون حقًّا.
وفوق ذلك، ماذا عن الوضع السياسيّ؟
ما دام الإمبراطور على تلك الحال، فكيف يمكن أن تتجمّع له قوّةٌ أو نفوذ؟
‘هذا ليس ما ينبغي أن يكون… كيف وصلنا إلى هذا؟’
بينما كان الأكفّاء يتجمّعون ويحافظون على نفوذهم تحت راية روشان،
كان الدوق يبذل قصارى جهده للإبقاء على فصيل الإمبراطور.
لكنّ الإمبراطور، بدل أن يقدّر ذلك، كان يستدعيه أحيانًا ليوبّخه لأنّه لم يتمكّن من الوقوف في وجه روشان.
‘أنا ما زلتُ شابًّا، ومع ذلك يُنادى بروشان إمبراطورًا أعظم!
هل يُعقَل هذا؟
أيّها الدوق، ماذا كنتَ تفعل؟
تحت حمايتي، ولم تستطع إيقاف روشان وحده، فماذا كنتَ تفعل؟!’
ارتعد الدوق ندمًا على اختياره الأحمق لكيدريك.
لكنّه لم يعد قادرًا على الانسحاب، فقد تشابكت المصالح من حوله، بدءًا بابنته، حتّى غدا عاجزًا عن ترك كلّ شيء.
ومع ذلك، كانت النهاية تقترب تدريجيًّا.
الإمبراطور صار يتصرّف يومًا بعد يوم كطاغية.
فحين كان روشان يحقّق إنجازاتٍ عظيمة، كان الإمبراطور يسطو على تلك الإنجازات،
ويجمع نساء الدول الأخرى كأنّهنّ زينة،
ويقتل مَن دونه بسهولة،
ويغرق في الدِّين حتّى صار أشبه بمُتعصّبٍ أعمى.
وبطبيعة الحال، سقطت هيبة الإمبراطور إلى الحضيض.
وكانت الابنة تسير على خطاه، فتزداد قسوةً يومًا بعد يوم.
غير أنّ ما يُحسَب لها، خلافًا للإمبراطور، أنّها كانت بارعة في إخفاء ذلك.
كان دوق داي رجلًا طمّاعًا،
لكنّه لم ينسَ مكانته ولا مجد عائلته.
فأسرة داي من أعرق بيوت الإمبراطوريّة.
كان ينظر إلى من هم دونه باحتقار، ويحلم بسلطةٍ تفوق سلطة الإمبراطور،
لكنّه كان يعرف حدوده جيّدًا.
‘الإمبراطور الحاليّ لَن يبقى طويلًا في مكانه.
حتّى لو لم يُظهِر الإمبراطور الأعظم أيّ طموح،
فإلى متى سيتحمّل الناس هذا الإمبراطور؟
رجلٌ صار إمبراطورًا بلا شيء، ولا يستطيع حتّى قيادة فصيله،
كيف سيصمد في ذلك المقام؟’
لهذا، حين استدعاه روشان إلى القصر الأزرق، عزم الدوق أمره.
مهما يكن ما سيسمعه اليوم، سيقول هو أيضًا ما كان يفكّر فيه.
قرّر أن يضع قدمًا في فصيل روشان، استعدادًا للمستقبل.
“أيّها الدوق، مرّ وقتٌ طويل، أليس كذلك؟”
“نعم، يا مولاي.
فهذه أوّل مرّة منذ أن تنحّيت عن منصب وليّ العهد.”
كان روشان واقفًا في صالة الاستقبال، يداه خلف ظهره، يتلقّى تحيّة دوق داي بتعالٍ ظاهر.
شعر الدوق بالإهانة تحت نظرة العينين الحمراوين اللتين تحدّقان فيه،
وكاد ينسى عزيمته، لكنّه تماسَكَ وجلس في المكان الذي أشار إليه روشان.
ما إن جلس الدوق حتّى قدّم له روشان سيجارًا.
ارتبك الدوق من هذا اللطف غير المتوقّع، لكنّه أخذه على أيّ حال.
أشعل روشان سيجاره، ثمّ أشعل سيجار الدوق.
تصاعد الدخان بينهما.
“مولاي، لِمَ استدعيت هذا العجوز…”
“أيّها الدوق.”
كان الدوق قد همّ بالكلام بعد زفيرٍ طويل،
لكنّ روشان، الذي كان يحدّق فيه، خفّض يده الحاملة للسيجار وقاطعه.
حين التقت عينا الدوق الحمراوان بعيني روشان،
توتر، وابتلع ريقه وأطبق فمه.
أخذ روشان نفسًا آخر من السيجار، ووضعه على المنفضة،
ثمّ نظر إلى شعار أسرة داي المثبّت على صدر الدوق الأيسر.
برجٌ قائم أمام تاجٍ ذهبيّ؛
شعارٌ يُجسّد دوق داي، تاريخًا وحاضرًا.
نهض روشان من مكانه،
وتوجّه إلى الطاولة خلفه، والتقط شيئًا منها.
وبعد لحظة، سقطت رزمة أوراقٍ قديمة إلى جانب المنفضة.
أشار روشان إليها بذقنه، ثمّ قال.
“كُفَّ عن التمسّك بأخي،
وعُد إلى إقطاعيّتك قبل أن تزداد تلك التجاعيد.”
—
تعرّفت ييرينا إلى جين على الفور.
فرغم أنّها لم ترَ سوى هيئةٍ متشكّلة من نورٍ ذهبيّ،
إلّا أنّ الأيّام التي قضتها معها لم تكن بالهيّنة،
فقد استطاعت تمييزها من الحجم والحركة وحدهما.
“جين!”
نادتها ييرينا بصوتٍ عالٍ، ونهضت متّجهةً نحو الباب.
منذ أن سمعت مشاعر ذلك الرجل، كانت قد امتنعت عن الخروج،
فضاق صدرها أكثر، ولهذا بدا لقاؤها بجين مفرحًا حدّ الدموع.
“كم مضى من الوقت!”
عانقت ييرينا جين بشدّة.
تردّدت جين قليلًا، ثمّ ردّت العناق وربّتت على ظهرها.
لكنّ وجه جين، الذي لم تكن ييرينا تراه، كان قاتمًا جدًّا.
“لماذا تأخّرتِ هكذا؟
ظننتُ أنّكِ لَن تأتي قبل الغد.”
“وقع حادثٌ للعربة في الطريق،
وتبعثرت الأمتعة، ولم يكن من السهل العثور على عربةٍ أخرى،
فجئتُ مشيًا، ولهذا تأخّرت.”
“حادث عربة؟
هل أُصبتِ بأذى؟
هل أنتِ بخير؟”
أمسكت ييرينا بمعصم جين تحاول تفحّصها،
ثمّ تذكّرت أنّها لا تستطيع الرؤية، فقالت بحزنٍ خفيف.
“إن كان بكِ أذى، أخبريني.
من فضلكِ.”
“أنا بخير.
لقد… لقد سقط الحصان قبل أن تنطلق العربة أصلًا.”
“ومع ذلك تبدين خائفة.
صوتكِ ليس على ما يرام، ويدكِ باردة.”
عضّت جين شفتها وهي ترى قلق ييرينا، وكادت تبكي.
تظاهرت بخلع قبّعتها ومسحت دموعها، ثمّ تكلّمت بصوتٍ مرحٍ مصطنع.
“قلتُ لكِ لا تقلقي.
ثمّ إنّ الليل تأخّر، وقد حان وقت نومكِ.”
“أحقًّا؟”
“نعم.
اقتربنا من منتصف الليل.
اشربي كوبًا من الشاي الدافئ ثمّ نامي.”
أجلست جين ييرينا على الأريكة، وتوجّهت إلى الرفّ لإعداد الشاي.
قالت ييرينا إنّ النوم لا يأتيها، وطلبت أن تُحضِر جين لنفسها كوبًا أيضًا ليتحدّثا قليلًا.
وافقت جين، وأشعلت الموقد الصغير وغَلَت الماء.
تصاعد البخار من الإبريق النحاسيّ، ودوّى صوت الغليان،
وعندها فقط سقطت من عين جين دمعة.
“تفضّلي، انتبهي، إنّه ساخن.”
كان الشاي الممزوج ببتلاتٍ صفراء مهدّئًا للأعصاب.
جلست جين قبالة ييرينا، تفكّر أنّ هذا الشاي الذي تقدّمه لها كلّ ليلة سيَنتهي قريبًا.
القارورة الزجاجيّة التي تصدر صوتًا خافتًا في حضنها كانت باردة،
رغم أنّها لا تلامس جلدها مباشرة.
شدّت جين عليها بيدها لتثبيتها، وتبادلت مع ييرينا حديثًا متأخّرًا.
“كنتُ متيقّظة من شدّة الفرح،
لكنّني الآن أشعر بالنعاس فجأة.”
“لقد تحدّثتِ كثيرًا.
هيا، اذهبي إلى فراشكِ.”
“حسنًا، جين.”
رافقت جين ييرينا إلى غرفة النوم،
ولم تغادر إلّا بعد أن تأكّدت من أنّها استلقت وأغمضت عينيها.
وحين خرجت من خلف الستار القماشيّ،
بان المكان الذي عاشتا فيه معًا لأشهر، واضحًا في الظلام.
‘سأفارق هذا المكان قريبًا أيضًا.’
نظرت جين حولها بوجهٍ مثقل،
الأريكة قرب النافذة، وأكواب الشاي التي لم تُرتَّب، ولوح الألعاب الذي كانتا تستمتعان به،
كلّها وخزت قلبها.
لكن لم يكن أمام جين خيار.
كان هذا الوداع القاسي هو أفضل ما تستطيع فعله.
تخيّلت ييرينا الجريحة بسببها، واحمرّت عيناها،
ثمّ مسحت دموعها عند الباب.
طَقّ.
ما إن فتحت الباب حتّى فزعت، واضعةً يدها على فمها،
إذ كان رجلٌ يقف إلى جواره.
تحت ضوء مشعلٍ واحد، بدا وجهه بلا تعبير، كعادته.
“مولاي….”
أشار روشان بعينيه أن تبتعد.
انحنت جين جانبًا، فدخل الرجل.
كانت جين قد وضعت منوّمًا خفيفًا في الشاي بأمر روشان.
وما إن شربته ييرينا حتّى غلبها النعاس،
وغاصت في نومٍ عميق،
فلن تشعر بشيءٍ حتّى لو دخل الرجل الآن.
‘أنا آسفة، يا سيّدتي ييرينا.’
نظرت جين إلى الباب المغلق، ومسحت دموعها مرّةً أخرى،
ثمّ نزلت الدرج بكتفين مثقلين.
وكان ظلّها الطويل الكئيب يمتدّ على الجدار.
—
“آااه!”
شقّ صراخ الإمبراطورة المدوّي قصر الدوق في العاصمة.
لكن لم يكن إلى جانبها حارسٌ ولا خادم.
لم يكن هناك سوى جثّة امرأةٍ هامدة،
ودوق داي بوجهٍ متصلّب، يقف إلى جوار ليليانا.
“أبي!
لونا… لونا!”
لم تستطع ليليانا النطق بموت خادمتها المقرّبة،
فاكتفت بالبكاء الهستيريّ.
نظر الدوق إلى ابنته التي ازدادت صِغَرًا وتهوّرًا، ثمّ صرخ إلى الخارج.
“ليدخل أحدكم ويُنظّف هذا!”
الذين لم يظهروا عند صراخ الإمبراطورة،
اندفعوا دفعةً واحدة عند أمر الدوق.
غطّوا جثّة لونا بقماشٍ سميك، وحملوها بعيدًا.
حاولت ليليانا الإمساك بيد لونا،
لكنّها ما إن لمست أصابعها الباردة القاسية حتّى صرخت وسحبت يدها.
“ما بالكِ؟
ألم ترَي مثل هذا كثيرًا من قبل؟!”
وبّخها الدوق بحدّة.
كان يعلم أنّ ابنته قتلت أبرياء من قبل،
ولو فُتِّش الأمر لامتلأت الصفحات بالأسماء.
ورغم تساهله معها لشبهها بزوجته،
إلّا أنّ عدد الموتى نزع ما بقي في قلبه من شفقة.
“هل هؤلاء مثلها؟
إنّها لونا!
لقد كبرت معي!”
جلست ليليانا على الأرض، تركل بقدميها وتصرخ،
كأنّها طفلة في الخامسة تدلّل وتبكي.
عند هذا المشهد، صرّ الدوق على أسنانه،
ثمّ رفع يده بلا تردّد وصفع ابنته.
صَفْعَة.
“آه!”
“لقد انتهى زمن تدليلِك!”
التعليقات لهذا الفصل " 60"