“أَنَا… أعتذر.
سأعتذر نيابةً عن فريدريك على ما صدر منه من وقاحة.”
مدّ هايدِن يده متردّدًا، ثمّ تذكّر سريعًا أنّ ييرينا لا ترى، فاكتفى بأن ينحني بأدب.
“أنا هايدِن من عائلة غيلتا.
إن احتجتِ إلى أيّ شيء، فقولي…….”
ظلّ هايدِن على حاله برهةً، وحين خفّ بكاء ييرينا قليلًا، فتح فمه أخيرًا بصعوبة.
غير أنّ أيّ فائدة تُرجى من نبرةٍ مهذّبة؟
فبالنسبة إلى ييرينا، لم يكن صوته سوى صوت عدوٍّ آخر.
كانت تشعر بالاشمئزاز حدّ الغثيان من كونها تتلقّى شفقةً ومواساة من فارسٍ إمبراطوريّ.
‘أيديهم ملوّثة بدم عائلتي، وأنا ما زلتُ حيّة…….’
“……اخرُج.”
اجتاحها اضطرابٌ جديد.
راحت ييرينا تتخبّط بعنفٍ أشدّ من ذي قبل.
“قلتُ اختفِ!”
طَنَق. طَنَق.
تفاجأ هايدِن بالتغيّر المفاجئ، فتراجع خطوة، ثمّ تصلّب وجهه وهو يرى معصمها.
خلال وقتٍ قصير، وبسبب كثرة الاهتزاز، كان معصم ييرينا قد تضرّر بشدّة.
“بهذا تؤذين نفسكِ.”
حين رأى الجلد المهترئ والدم يسيل، استنشق هايدِن نفسًا عميقًا وأمسك بها.
لكن ما إن شعرت ييرينا بحرارة جسده، حتّى ازداد نضالها.
“اتركني!
أيّها الأوغاد!
قلتُ اتركني!”
إنّهم الذين قتلوا أبيها وأمّها وإخوتها.
هذه أيديهم.
أيديهم الملطّخة بدم عائلتها.
“……اعذريني.”
ولمّا لم تُبدِ ييرينا أيّ بوادر هدوء، اضطرّ هايدِن إلى استخدام القوّة.
جمع ذراعيها إلى الأمام، وضغط بجذعه عليها كأنّه يُجبرها على الاستلقاء.
وبطبيعة الحال، انحنى جسده معها، فصار كأنّه يطوّقها من فوق.
تحت وطأة الضغط، توقّفت ييرينا عن التخبّط، واضطرّت إلى التركيز على التنفّس.
“مَن هناك……!”
حين هدأت مقاومتها، أدار هايدِن رأسه قليلًا لينادي الخادمات في الخارج.
وفي اللحظة نفسها، وقعت عيناه على رجلٍ واقفٍ بلا حراك، كأنّه تمثال.
ناداه هايدِن بنبرةٍ فيها شيءٌ من الدهشة.
“……مولاي؟”
—
كانت الغرفة التي حُبِست فيها ييرينا صغيرة،
لكنّها، كونها مُعدّة للضيوف، احتوت على قدرٍ لا بأس به من المساحة.
غير أنّ ما إن دخل روشان حتّى بدا المكان خانقًا، كأنّه امتلأ دفعةً واحدة.
لم يكن ذلك بسبب ضخامة جسده وحدها.
بل كان هناك شيءٌ خفيّ، جوّ غامض يرفع حدّة التوتّر ويُثقِل هواء الغرفة.
تجمّد هايدِن، الذي كان ما يزال فوق ييرينا، حين التقت عيناه بالعينين الحمراوين.
ثمّ أدرك متأخّرًا أنّ وضعيّته قد تُساء فَهْمُها،
فابتعد عنها على عجل.
غير أنّ ارتباكه لم يزده إلّا ريبة.
“أ، الأمر هو…….”
شعر هايدِن وكأنّه ارتكب ذنبًا، وهمّ بتقديم تبرير،
لكنّ روشان رفع يده بهدوء فأوقفه.
عندها فقط لاحظ هايدِن أنّ نظرة سيّده لم تكن موجّهة إليه أصلًا.
تبع اتجاه النظر، فرأى ييرينا جالسة تلهث.
“أنتَ…….”
لم ترَ وجهه، ولم تسمع صوته،
لكنّ ييرينا أدركت وجود روشان بوضوح.
ففي هذا القصر، لم يكن هناك سوى شخصٍ واحد يُنادى بـ”مولاي” من قِبَل فرسان الإمبراطوريّة.
قائد الغزاة.
الذي داس وطنها، وقطع رؤوس إخوتها، وقتل والديها.
الوحش الأسود في ذلك اليوم.
‘روشان ڤيستيوس!’
فور إدراكها أنّه أمامها، فاض الحقد في صدرها.
لكنّ الخوف كان أقوى.
ارتجف جسدها من تلقاء نفسه.
الرعب من الرجل الذي كان في مقدّمة جيوشٍ لا تُحصى،
ومن حطّم في لحظةٍ واحدة السور الذي ظنّته أبديًّا،
أطبق عليها.
وفي النهاية، شحب وجهها، وانحنت وهي ترتعش وتلهث.
كأنّ الجحيم كان ينتظر هذه اللحظة، فانغلق عليها.
في كلّ اتجاهٍ شمّت رائحة الدم،
حتى العرق المتصبّب من التوتّر، والدموع على خدّيها، بدت لزجةً كالدّم.
كأنّها غاصت في مستنقعٍ دمويّ.
“أُغخ…….”
رغم أنّها لم تأكل شيئًا، داهمها الغثيان.
صار التنفّس أصعب.
لم تكن ترى، ومع ذلك داهمها دوارٌ جعل تماسكها شبه مستحيل.
وفي النهاية، هوَت بجذعها إلى الأمام.
وإذ بدا وضعها خطرًا، أسندها هايدِن بلا تردّد.
عندها، ضيّق روشان حاجبيه ضيقًا خفيفًا بالكاد يُلحظ.
كانت خيوط وعيها تتلاشى.
دفعت ييرينا هايدِن بضعف،
وقبل أن تفقد إدراكها تمامًا، أزاحت الخوف وأطلقت الكراهية.
“أنتَ…
سأ…….”
“…….”
“سأقتلك.
سأقتلك حتمًا.”
كان كلامًا جريئًا جدًّا من أميرةٍ في أرضٍ مُحتلّة.
نظر هايدِن بقلقٍ إلى سيّده، خائفًا عليها.
“بيدي أنا…….”
لم تكن الأميرة تعلم أيّ تعبيرٍ ارتسم على وجهي الرجلين من حولها.
كانت تبكي بحرقةٍ وهي تتابع،
ثمّ فجأةً، تراخى جسدها.
مدّ هايدِن ذراعه سريعًا، فمنع سقوطها.
وفيما كان يتساءل عمّا عليه فعله،
امتدّت يدٌ كبيرة وانتزعت الجسد الصغير منه بسلاسة.
“هايدِن.
استدعِ الطبيب.”
صدر الأمر باقتضاب.
شعر هايدِن بشيءٍ من الذهول،
وبفراغٍ غريب في يده التي أُفرغت فجأة.
لكنّ أمر روشان كان الأوّل دائمًا،
فانحنى وغادر مسرعًا.
وحين ابتعدت خطواته،
قرّب روشان وجهه قليلًا من المرأة فاقدة الوعي.
فلامس أنفه عبير الزنبق المزدوج الذي كان قد داسه بحذائه قبل أيّام.
شعر بوخزٍ خفيفٍ غريب.
وبقي على حاله لحظة،
ثمّ فتح فمه للمرّة الأولى منذ دخوله الغرفة.
“……افعلي ما تشائين.
يبدو أنّ ذلك سيكون مسلّيًا بطريقته.”
—
كان المائدة عامرةً بأطعمةٍ شهيّة.
حساءٌ ما زال يتصاعد منه البخار،
ولحمٌ مفروم ليسهل مضغه،
وخضارٌ خضراء، وفاكهةٌ طازجة تُثير الشهيّة بالنظر.
ورغم فقدان بصرها، شمّت ييرينا رائحة الطعام.
لكنّها، ما إن وُضع الملعقة في يدها، حتّى قذفتها وأدارت رأسها.
“يا لها من تصرّفات.”
تقدّم الرجل الذي أعلن أنّه سيكون حارسها من اليوم،
وأمسك يدها بخشونة.
تقلّص وجه ييرينا من قسوة اللمسة،
لكنّ فريدريك لم يُرخِ قبضته، وقال مهدّدًا:
“كُلي ما دام الكلام لطيفًا.”
“لا أريد!
أتظنّ أنّ حياتي صارت ملكًا لكم؟”
“ألم تُدرِكي ذلك الآن؟”
هزّت ييرينا شعرها الأشقر المتشابك محاولةً الإفلات،
لكنّها لم تستطع مجاراة قوّته.
ردّ عليها بحدّة، ثمّ سبق تمرّدها بكلماتٍ قاسية:
“لا تصنعي هذا الوجه.
نحن ننصحكِ فقط.
إن بقيتِ حيّةً وذهبتِ إلى الإمبراطوريّة، فستبقى هذه البلاد قائمة.
أم ترغبين أن يُمحى اسم المملكة من خرائط القارّة تمامًا؟”
كان أسلوبه مستهزئًا مستفزًّا.
لكن ما إن ذُكِرت المملكة، حتّى توقّف نفس ييرينا.
رأى ردّ فعلها، فالتوى فم فريدريك ابتسامةً ساخرة.
“رجاءً، لا تكوني غبيّةً وأنانيّة.
هذه الحرب اندلعت أصلًا لأنّكِ لم تذهبي إلى الإمبراطوريّة.”
“…….”
“ما دامت النهاية واحدة،
ألم يكن أجدى أن تأتي طوعًا حين طلب الإمبراطور العظيم ذلك؟
عندها كان الوطن سالمًا، والعائلة سالمة.”
كلّما طال كلامه، تسلّل الوهن إلى جسد ييرينا،
إلى أن استرخَت تمامًا.
عندها فقط أرخى فريدريك قبضته،
وانحنى ليلتقط الملعقة الساقطة.
مسحها بقطعة قماش،
ثمّ وضعها مجدّدًا في يدها.
هذه المرّة، لم ترمِها.
بل تمتمت بصوتٍ خافت:
“……لم أكن أعلم.”
لم تكن تعلم أنّ الإمبراطور طلبها محظيّة،
ولا أنّ أباها رفض فاندلعت الحرب.
لم تعرف ذلك إلّا منذ قليل،
ومن خلال الرجل نفسه الذي كان يُجبرها الآن على الإمساك بالملعقة.
‘أبي، الإمبراطوريّة أقوى من مملكتنا بكثير.
ربّما كان من الأفضل قبول طلبهم…….’
‘ييرينا، ابنتي.
هذا ليس ما ينبغي أن تقلقي بشأنه.
وقد أرسلنا وفدًا، وستصل أخبارٌ طيّبة قريبًا.
فاذهبي للنوم الآن، حسنًا؟’
لم يقل لها أبوها مرّةً واحدة إنّها سبب هذه الحرب.
ولا أمّها، ولا إخوتها.
قالوا فقط إنّها أزمة دبلوماسيّة،
وإنّ الإمبراطوريّة تطلب ما لا يُعقَل.
“ماذا؟
ما الذي تقولينه؟”
“لم أكن أعلم حتّى أنّكم تقدّمتم بذلك الطلب!
كنتُ أظنّ فقط أنّكم غزوتمونا بذريعة نزاعٍ تجاريّ!”
لو كانت تعلم،
ولو كان بوسعها منع هذه المأساة،
لذهبت إلى الإمبراطوريّة،
محظيّةً كانت أم عبدة، بأيّ صفةٍ كانت.
فهي، وإن نشأت كزهرةٍ في دفيئة،
كانت قد تعلّمت واجبها كأميرة،
وأحبّت وطنها سِيداس، وعائلتها.
وكانت مستعدّةً للتضحية بنفسها لحمايتهم.
لكنّ عائلتها، التي أحبّتها حدّ الإفراط،
لم تُخبِرها بالحقيقة قطّ.
وكان ذلك مؤلمًا… وموجعًا حدّ القسوة.
بل ومثيرًا للمرارة.
“وماذا بعد؟”
وحين انحنت ترتجف من عجزها عن إيقاف كلّ ما حدث،
قال فريدريك، ذراعاه معقودتان، وبنبرةٍ مائلة بقدر وضعه:
“سمعتُ الإشاعات.
أنّ ملك سِيداس كان يعشق ابنته الوحيدة.
يبدو أنّه لم يجرؤ على أن يقول لها: كوني محظيّةً وأنقذي البلاد.
لكن ماذا إذًا؟
ما الذي تريدينه؟
أن تقولي إنّكِ مظلومة لأنّكِ لم تعلمي؟”
كان جهل ييرينا مفاجئًا له.
لكن هل كان ذلك سيُغيّر شيئًا؟
المملكة سقطت،
والعائلة أُبيدت،
ولم يبقَ سواها.
وفي وسط ذلك،
كان تمسّكها بمأساتها وحدها، ورغبتها في اللحاق بعائلتها،
يستفزّانه بلا سببٍ واضح.
“الجهل ذنب.
لا تلومي مَن لم يُخبِركِ،
لومِي نفسكِ لأنّكِ لم تبحثي.
أميرة،
ولا تعلمين بأمرٍ يتعلّق بكِ وبمصير وطنكِ؟
أليس ذلك مُخزيًا؟”
تمادى فريدريك بقسوة.
صمتت ييرينا طويلًا.
ثمّ، وبعد حين،
ارتعش كتفاها النحيلان،
ورفعت رأسها ببطء.
التعليقات لهذا الفصل " 6"