‘……أشعرُ بدُوارٍ.’
كانَ تمايُلُ الرؤيةِ سُمًّا للسلالمِ.
لم تستطع ييرينا، على خلافِ سيرِها فوقَ أرضٍ مُستوِيةٍ، أن تهبطَ الدرجَ الحجريَّ غيرَ المتساويِ الارتفاعاتِ بسهولةٍ كما ظنّت.
“آه……!”
حين ازدادَ إرهاقُ العينِ، وتفتّحَ الذهبُ كسرابٍ مُترجِفٍ أمامَها، وقعتِ الزلّةُ أخيرًا.
تعثرَتِ الخطوةُ، فاختلَّ توازنُ ييرينا، ومَالَ جسدُها.
شدّت جين، التي كانت تسيرُ إلى جوارِها، قواها محاولةً إسنادَ ييرينا.
لكن السقوطَ إلى الأمام، ومعهُ سرعةُ الاندفاع، كانَ أمرًا يعسرُ عليها وحدَها تحمّلُه.
وبينما كادتِ الاثنتانِ تسقطانِ معًا، التفَّت قوّةٌ صلبةٌ من الخلفِ حولَ ييرينا.
وفي اللحظةِ ذاتِها، امتدَّ ذراعٌ طويلٌ وقبضَ على فستانِ جين، جاذبًا إيّاهُ إلى الوراءِ.
توقّفَ نفسُ ييرينا فجأةً، وتصلّبَ جسدُها، إذ تداخلَ مع خفقانِ قلبِها صوتُ قلبٍ آخرَ ينبضُ قريبًا.
“انتبهي، السلالمُ قديمةٌ وليست مُلساء.”
وفيما كانت تحاولُ تحريكَ جسدِها المتخشّبِ بالكاد، دوّى صوتُ الرجلِ عندَ أُذنِها.
مداعبةُ أنفاسِه لشعيراتِها أعادتْها إلى التصلّبِ مرّةً أُخرى.
وبعدَ لحظاتٍ، وقبلَ أن تنطقَ طالبةً منهُ أن يتركَها، فكَّ الرجلُ ذراعَيهِ عنها.
انسحبَت يدُه ببطءٍ كأفعى، فارتعشَ جلدُ عنقِها قشعريرةً.
“الخطرُ قائمٌ، سأمشي أمامَك.”
قالَ ذلكَ ومضى متجاوزًا ييرينا.
وبسببِ ضيقِ الممرّ، تلامسَت يدُه بيدِها مسًّا خفيفًا.
كانَ احتكاكًا عاديًّا، ومع ذلكَ انتفضتْ ييرينا، ولفّت يدَها داخلَ كمِّها كأنّها تُخفيها.
“احذر حوافَّ الدرج، فالكثيرُ منها متآكلٌ ومتكسّر.”
حذّرهم وهو يُميلُ جسدَه قليلًا إلى الخلف، ثم بدأ يهبطُ السلالمَ ببطءٍ.
حاولتْ ييرينا التركيزَ بكلِّ ما أوتيت، ومع ذلكَ ظلَّ الدرجُ مُرعبًا، بينما كانَ هو يسيرُ دونَ أن ينظرَ إليهِ حتى.
‘لم يكن يجبُ أن أخرج.’
انفجرَ ضيقُها من حالِ عينيها لأنّها تلقّت مساعدتَه.
لكنّها سرعانَ ما عضّت شفتَها ولامتْ نفسَها.
ألم تكنْ قبلَ وقتٍ قريبٍ لا ترى شيئًا على الإطلاق؟
‘يقالُ إنّ طمعَ الإنسانِ لا نهايةَ له، وها أنا أتذمّرُ رغمَ تحسّنِ الحال…….’
كانت هيئةُ جين إلى جوارِها تتماوجُ بلمعانٍ ذهبيٍّ.
شدّت ييرينا على يدِها، وخطتْ بحذرٍ بالغ.
وكأنّهُ يُشيرُ لها إلى موضعِ القدمِ في كلِّ مرّة، راعى الرجلُ سرعتَها في السير.
ومع تداخلِ الخطواتِ، انساقَ بصرُها إليهِ من غيرِ وعيٍ.
كانَ متقدّمًا بدرجتينِ أو ثلاثٍ، ومع ذلكَ بدت قامتُه الطويلةُ وكتفاه العريضانِ يملآنِ الممرَّ الضيّقَ تمامًا.
حينها فقط أدركتْ من جديدٍ أنّهُ فارسٌ.
‘مرّةً أُخرى…….’
كانت تطأ مواضعَ خطاهُ نفسها، قبلَ أن تنتبهَ فجأةً إلى أنّها تُراقبُهُ وتفكّرُ فيهِ من جديد.
قبضتْ على شفتيها، وتعمّدتْ أن تضعَ قدمَها في موضعٍ لم يطأهُ.
شعرتْ بنظرِه موجّهًا إليها، لكنّها تجاهلتْه.
بل الأصحّ أنّها حاولتْ ألّا تُعيرهُ اهتمامًا.
وبعدَ مسافةٍ من الهبوط، لاحَت نهايةُ السلالمِ.
وعندما كادتْ تبلغُها، وضعتْ قدمَها مجدّدًا في موضعٍ لم يطأهُ الرجلُ، فاختلَّتْ.
كانت قد وطئتْ درجةً متكسّرةً محفورةً كما حذّر.
مدّ الرجلُ، الذي كانَ يراقبُها طوالَ الوقت، ذراعَه فورًا ليُسندَها.
لكنّ ييرينا صفعتْ يدَهُ بصوتٍ مسموعٍ، ثم وقفتْ كأنّ شيئًا لم يكن.
وأدارتْ وجهَها عنهُ، مخاطبةً جين.
“……جين، أمسكي بي من فضلكِ.”
أومأتْ جين، التي كانت تراقبُ الجوَّ بينهما بحرجٍ، بتردّدٍ.
تشابكَت ذراعاهما، وسارتْ ييرينا مرفوعةَ القامةِ.
عادَ الرجلُ دونَ كلمةٍ إلى الخلفِ، مُسايرًا خطاهما.
وصلَ الثلاثةُ إلى بابِ البرج.
مدّتْ جين يدَها، فصرَّ البابُ الخشبيُّ، وانقشعَ الظلامُ.
فتحتْ ييرينا عينيها على اتّساعٍ أمامَ المشهدِ الذي أخذَ يتكشّفُ، يسبقهُ عبيرُ الأزهارِ الكثيف.
‘آه…….’
انبسَطَت لوحةٌ مائيّةٌ ذهبيّةٌ أمامَها.
فخلافًا للأشياءِ التي كانت تتحرّكُ بوميضٍ شاحبٍ، أطلقت الأشجارُ والأزهارُ والأعشابُ في الخارجِ نورًا قويًّا، كالبشرِ تمامًا.
كأنّها تصرخُ معلنةً أنّها حيّةٌ.
‘ما أجملَه.’
انجذبتْ ييرينا، مسحورةً، خارجَ البابِ نحوَ الأزهارِ المتمايلةِ مع الريح.
لم تستطع تمييزَ نوعِها ولا شكلِها ولا لونِها، لكنّ ذلكَ كانَ كافيًا.
انحنتْ واقتربتْ بوجهِها من زهرةٍ صغيرةٍ قريبة.
امتزجَ عطرُ البرعمِ الحلوُ بنسمةِ عشبٍ باردة.
وبمزاجٍ أصفى، كانت تبتسمُ بهدوءٍ، قبلَ أن تُفزعَها فراشةٌ طائرةٌ فتصرخَ منادِيةً جين.
ضحكتْ جين بخفّةٍ، وراحتْ تُداعبُها وتثرثرُ عن الفراشةِ بأحاديثَ تافهة.
كانت ييرينا تُنصتُ وهي تُومئُ برأسِها، ثم تضحكُ بينَ حينٍ وآخرَ ضحكةً صغيرةً مسموعةً.
ومن عندَ البابِ، حيث لم يتجاوزْهُ بعد، راقبَ الرجلُ المشهدَ.
ظلَّ في ظلِّ البرجِ المعتمِ، وعلى شفتيهِ ارتسمَت ابتسامةٌ خفيفةٌ وهو يُقارنُ بينَ وجهِ ييرينا والزهرةِ البيضاءِ الملامسةِ لأصابعِها.
—
‘أجملُ ممّا توقّعت.’
كانت الزهرةُ البيضاءُ التي أمرَها أن تختارَها وتغرسَها بنفسِها تلائمُ ييرينا كما لو كانتا جسدًا واحدًا.
راقبَ روشان، راضيًا، بتلاتِها المتساقطةِ على شعرِها الأشقرِ، ثم تقدّمَ خطوةً.
انهمرَ ضوءُ الشمسِ فوقَ رأسِه حين خرجَ من الظلِّ، وفي اللحظةِ ذاتِها تثبّتَت عينا ييرينا عليه.
كانت عيناها أوضحَ ممّا كانتا حين فقدتْ بصرَها تمامًا.
ومع ذلكَ ظلّتا ضبابيّتَينِ مقارنةً بأوّلِ مرّةٍ رآها فيهما.
‘لو كانَ مرضًا، إمّا أن تموتَ الرؤيةُ تمامًا أو تعودَ كاملةً.
يبدو أنّ السببَ ليس المرضَ إذًا.’
خطرَ في بالِه هايدن، الذي سيصلُ قريبًا، ومعهُ سؤالٌ لم يفكّرْ فيهِ من قبل.
ماذا لو وجدَ الجوابَ بشأنِ عيني الأميرة؟
وماذا لو فُتحتا بالكاملِ، أو أُغلقتا إلى الأبد؟
لم يُرِدْ روشان أن ينتزعَ منها فرحتَها بهذه الرؤيةِ الجزئيّة.
لكنّهُ كانَ يخشى أكثرَ أن تستعيدَ بصرَها تمامًا.
‘لا يجبُ أن ينكشفَ الأمر.’
فإن تعافتْ وتعرّفتْ عليهِ…… لم يُرِدْ حتى تخيّلَ ما بعدَ ذلك.
لعلّها أحسّت بنظرِه الحادِّ، إذ التفتتْ إليهِ.
لمسةُ النظرِ وحدَها أوجعتْ يدَه، لكنّها سرعانَ ما أشاحتْ بوجهِها ببرودٍ.
‘ألهذا الحدِّ تكونُ قاسيةً عليّ؟
أليسَ هذا المكانُ تحكمُهُ أختُها غيرُ الشقيقة، التي نبذَتْها؟’
كانَ روشان يعرفُ تمامًا سببَ فتورِها.
بعدَ سقوطِها، لم تكفَّ عن الاعتذارِ لعائلتِها.
وخلالَ مرضِها، لم تنطقْ سوى مرّةٍ واحدةٍ باسمٍ كاذبٍ: “كيان”، ثم أقسمتْ ألّا تهتمَّ به.
كانَ وطنُها، سيداس، هو العائقَ.
ذلكَ الاسمُ البغيضُ، وتلكَ المملكةُ الصغيرةُ التي لم تجلبْ لها سوى الألم.
‘انسِيها.
أستطيعُ أن أمنحَكِ ما هو أفضلُ بكثيرٍ ممّا نلتِه هناك.’
شدَّ قبضتَه وهو ينظرُ إلى ظهرِها وهي تمضي مع جين.
كانت لا تزالُ جميلةً ومحبوبةً كما كانت.
‘ثمّ، أليست هي مثلَهم؟
من رعايا الإمبراطوريّة، فلماذا…….’
لكنّ من بجانبِها لم يكنْ هو.
ومع مرورِ الوقتِ، أخذَ وجودُ الخادمةِ المرافقةِ لها يُزعجُهُ كحبّةِ رملٍ في العين.
كانَ واضحًا لكلِّ من يرى.
ييرينا تُحبُّ تلكَ الخادمةَ وتعدّها من خاصّتِها.
وحين ابتلعتْهُ مشاعرُ مظلمةٌ طفوليّةٌ، التفتتْ جين إلى الخلف.
أشاحَ روشان بصرَهُ عنها تلقائيًّا، وقد بدتْ على وجهِها الدهشةُ من تعابيرِه.
“جين؟ ما بكِ؟”
“آه، لا شيء.”
سألتْها ييرينا حين رأتْ ارتجافَها.
هزّتْ جين رأسَها بابتسامةٍ متكلّفةٍ مؤكّدةً أنّهُ لا شيء.
لكنّها، بعدَ أن رأتْ وجهَ روشان، كانت شاحبةً كأنّها أبصرتْ شبحًا.
—
جثتْ لونا، وصيفةُ الإمبراطورةِ ليليانا، على الأرضِ غيرَ عابئةٍ بفسادِ فستانِها.
ثم سألتْ المرأةَ المجاورةَ لها، التي كانت في الحالِ نفسِها.
“أليس كذلك؟
لم تخدعني عيناي، أليسَ كذلك؟”
“……نعم.
إنّهُ فعلًا سموُّ وليِّ العهدِ الإمبراطوري.”
“يا للسماء…….”
شدّتْ لونا، كبيرُ وصيفاتِ الإمبراطورةِ ليليانا، ملامحَها بغيظٍ وهي ترى زميلتَها تُومئُ بقلقٍ.
ثم فتحتْ فمَها وأغلقتهُ مرارًا بلا صوتٍ، قبلَ أن تنهضَ بحذرٍ، وهي لا تزالُ تختبئُ بينَ الشجيراتِ.
“لنذهب.”
“ماذا؟”
“علينا إخبارُ صاحبةِ الجلالةِ بما رأيناه.”
بدتْ لونا وكأنّها ستُسرعُ بنقلِ كلِّ شيءٍ إلى سيّدتِها.
لكنّ الوصيفةَ الأُخرى تردّدتْ وقالت.
“لكن، إن علمتْ صاحبةُ الجلالةِ بهذا، فستغضبُ لا محالة.”
حين تغضبُ الإمبراطورةُ، لا بدّ أن يُصابَ أحدٌ.
قد تنجو لونا، بحكمِ ثقتِها ومكانتها، لكنّ العاقبةَ على من ينقلُ الخبرَ معها كانت مجهولةً.
“ما الذي تقلقينَ منه؟
سأتولّى الشرحَ تقريبًا، وأنتِ أجيبي فقط عمّا تسألُكِ عنهُ صاحبةُ الجلالة.”
“نعم…….”
كانت لونا تعرفُ ذلك، ومع ذلكَ وبّختْ الوصيفةَ متجاهلةً تردّدَها.
أومأتِ المرأةُ، وعلى وجهِها ملامحُ بكاءٍ وشيكٍ.
غادرتا المكانَ هاربتَينِ، غيرَ مكترثتَينِ بالأوراقِ العالقةِ بثيابِهما.
وبعدَ قليلٍ، هبطَ في الموضعِ نفسِه فارسٌ أشقرُ.
كانَ فريدريك، الذي نزلَ من فوقِ الشجرةِ دفعةً واحدةً.
ومنذُ حادثةِ تسميمِ ليليانا، كانَ يراقبُ محيطَ البرجِ سرًّا بأمرِ روشان.
‘لماذا أمرَنا بالاكتفاءِ بالمراقبة؟’
ظنّت وصيفاتُ الإمبراطورةِ أنّهنّ لم يُكشفن، لكنّ فريدريك ورجالَه كانوا يراقبونَهنّ منذُ زمنٍ.
غيرَ أنّهم تظاهروا بالجهلِ تنفيذًا للأوامر.
أدارَ فريدريك رأسَه نحوَ الفراغِ بينَ الشجيراتِ، ونظرَ إلى الأشخاصِ الواقفينَ بعيدًا
امرأتانِ تتنزّهانِ، ورجلٌ يتبعهما.
تتبّعَ بعينِه المرأةَ الشقراءَ، قبلَ أن يشعرَ بنظرٍ يخترقُه.
تقاطعَت عيناه مع عينينِ حمراوينِ.
انحنى فريدريك بخفّةٍ، ثم اختفى مجدّدًا فوقَ الشجرةِ.
التعليقات لهذا الفصل " 55"