كان وجهُ الكاهنة، عن قرب، شاحبًا شحوبَ من استُنزِف.
وبقدر ما كان الضوء الذي انبعث منها عظيمًا، بدا أنّ مقدار القوّة الإلهيّة التي أُنفِقَت كان هائلًا.
ومع ذلك، لم يُبدِ روشان أيَّ اكتراثٍ بهيئتها التي توحي بأنّها قد تسقط في أيّة لحظة، بل سألها مباشرةً:
“ماذا فعلتِ بالأميرة؟”
“……”
“سبق وأن رأيتُكِ تستخدمين القوّة المقدسة مرّاتٍ عدّة.
لكنّكِ، حتّى حين كان السيف على عنقكِ، لم تُطلقي ضياءً عظيمًا كهذا الذي أطلقتِه للأميرة.
كنتِ دائمًا تقولين إنّ هذا هو الحدّ الذي أذِنَت به لقوّتكِ، ثمّ تنسحبين.”
“……”
“قال الطبيب إنّ حالة الأميرة لا يمكن تفسيرها إلّا بمعجزة.
وفوق ذلك، قالت إنّ ضوءًا ذهبيًّا يرسم لها ما أمامها.
الضوء الذهبيّ… أليس رمزًا لحاكم النور بذاته؟
لذلك، من الصواب أن نرى أنّكِ تدخّلتِ فيما آلت إليه حالُها.”
“مولاي، أنا حقًّا لا أعلم شيئًا.”
كان صوته حادًّا، لا يحمل شكًّا بل يقينًا.
غير أنّ أليسيا هزّت رأسها، وظهرُها مستقيم.
“أنا لم أفعل سوى ما أمرت به، واستخدمتُ القوّة المقدسة على السيدة يِيرينا.
أمّا ما عدا ذلك، فلا بُدَّ أنّه إرادة الإلهة.”
كان من العسير قراءة تعابير الكاهنة المعصوبة العينين.
بدت وكأنّها تقول الحقيقة، وكأنّها تكذب في آنٍ واحد.
نقر روشان بأصابعه على مسند الكرسيّ، وضيّق عينيه.
تفحّص وجهها، ثمّ تمتم وهو ينظر إلى الزخرفة المطرّزة على عصابة عينيها:
“إرادة الإلهة…
إنّه كيانٌ لم أره قطّ، فلا أستطيع أن أصدّقه بسهولة.”
“……”
“سنرى مع الوقت.
أهو حقًّا إرادة الإلهة، أم إرادة شخصٍ آخر.”
انحنت أليسيا انحناءةً عميقة دون أن تقول شيئًا.
ومن تلك الهيئة، تيقّن روشان أنّها لَن تُفصِح عن الحقيقة مستقبلًا أيضًا.
‘وضعتها بقربها لأنّهما من سِيداس… فإذا بها…’
كان قد شعر بذلك من قبل.
الكاهنة العمياء التي أمامه كانت تُخفي أمرًا ما.
مهما كان، لم يكن روشان ليهتمّ.
لكن إن كان هدفها يتعلّق بالأميرة، فالأمر مختلف.
“ما حدث قد حدث، ولا يمكن إرجاعه، لذلك لَن أُحاسبكِ عليه.
لكن…”
نهض ببطء، واقترب منها بنفسه.
ثمّ مال على أذنها وهي لا تزال منحنية، وهمس محذّرًا:
“…إن كنتِ تُقدّرين حياتكِ، فيجب ألّا تتحسّن عينا الأميرة أكثر من هذا.”
لم تُبدِ أليسيا أيّ ردّ فعل.
غير أنّ روشان لاحظ، بطرف عينه، ارتجاف يدها الخفيف.
—
بعد أن اكتسبت ذلك البصر الغريب، باتت يِيرينا تُغمِض عينيها في أيّامٍ كثيرة.
فالعالم الذي ينفتح أمامها عند فتح عينيها كان عالمًا ذهبيًّا.
ورغم غرابة أشكاله، ورغم أنّه يسمح لها برؤيةٍ تقريبيّة، إلّا أنّه كان مُرهِقًا على نحوٍ بالغ.
إن أبقت عينيها مفتوحتين طويلًا، داهمها الدوار، وشعرت بتعبٍ يشبه إرهاق الجري الطويل.
لم تكن تلهث، لكنّ جسدها يثقل، ويغلبها النعاس.
‘أشعر بالدوار.’
كان الحال كذلك الآن أيضًا.
فتحت عينيها وأغمضتهما مرارًا محاولةً الاعتياد على هذا البصر الجديد، لكنّ الإرهاق أقبل سريعًا.
“جين، أنا مُتعبة…
سأنام قليلًا.”
قالت ذلك ودخلت غرفة نومها.
ابتسمت جين ابتسامةً باهتة وهي تنظر إلى يِيرينا التي تمشي بخطى سريعة.
‘تقول إنّها مُتعبة، لكنّها في الحقيقة تتحرّك أكثر من ذي قبل.
لا بُدَّ أنّ الأمل عاد إليها لأنّها باتت ترى.’
كانت جين سعيدةً لأنّ يِيرينا تستطيع، بأيّ شكلٍ كان، أن ترى ما أمامها.
وقد قال الطبيب المرموق إنّه معجزة من الإلهة، فلا بُدَّ أنّ الأمر كذلك.
همّت جين أن تدعو كي تُفيض رحمتها أكثر، علّ يِيرينا تستعيد بصرها كاملًا يومًا ما، ثمّ توقّفت.
فإن عادت ترى كما في السابق، فستدرك حتمًا واقعها الحاليّ.
ولم تكن جين واثقةً أنّ ذلك سيكون خيرًا لها.
‘ليت أخي إيثان يستطيع المشي مجدّدًا أيضًا.
لكنّ هذا مستحيل، أليس كذلك؟’
خطرت ببالها عائلتها خارج القصر.
الأخ الذي فقد ساقه.
كم سيكون جميلًا لو نال هو أيضًا رحمة الإلهة.
ومع أنّ جين رأت أنّ مثل هذه المعجزات لا تقع على أمثالها من العامّة، إلّا أنّها ركعت أمام التمثال المقدس الخشبيّ.
وبخلاف تردّدها في شأن يِيرينا، توجّهت فورًا بالدعاء.
رنّة.
عندما نهضت بعد الصلاة، سقطت قطعة نقديّة من جيبها.
التقطتها بسرعة، ثمّ توقّفت.
رغم الأجر الجيّد وما نالته مقابل حفظ الأسرار، عاد جيبها يخفّ في الآونة الأخيرة.
فالمرض الشديد الذي ألمّ بأمّها، ومتاعب أخيها، استنزفاها.
‘دواء أمّي قد لا يكفي…
وزفاف ويدنا بات قريبًا.
إن لم أستطع تجهيز الفستان، ستغضب.’
كان معظم راتبها يذهب لثمن الدواء.
وفوق ذلك، تسبّب أخوها بمشكلاتٍ أخرى.
منذ فقد القدرة على المشي، أدمن الخمر، ومع محدوديّة حركته، كان يفتعل الشجارات ويُحطّم الأشياء.
‘وماذا عن رسوم دراسة كال؟
قالوا إنّ القبول صعب…’
وحين تحسّنت أحوالها قليلًا في السابق، لعلّها أسرفت دون وعي، فإخوتها الصغار لم يفكّروا في تقليل مصروفهم حتّى بعد سوء الأوضاع.
وبُعدها عنهم جعلها عاجزةً عن توبيخهم.
ثقلُ المعيشة كان يضغط على كتفي جين يومًا بعد يوم.
‘…سأُحدّثهم بجدّ حين أعود في الإجازة.’
نهضت جين عازمةً على شرح الوضع لعائلتها، وعلى تنبيههم بحزم.
ثمّ حاولت طرد كآبتها، فمدّت ذراعيها وتثاءبت، والتقطت خرقةً جافّة.
وبينما تمسح الغبار عن النافذة، قالت لنفسها بصوتٍ قويّ:
“لقد سددتُ الديون، ولدينا بيت.
لا بأس.
مررنا بأوقاتٍ أشدّ قسوة.
سأتحمّل.
نعم، يا جين.”
—
كانت يِيرينا مُتعبة، لكنّ النوم لم يأتِ.
استلقت على السرير، تحدّق في الشمعدان الذي يرسمه الضوء الذهبيّ، ثمّ أغمضت عينيها.
حتّى بعد إغلاقهما، ظلّ أثر الضوء عالقًا لبعض الوقت.
وبعد نحو عشر ثوانٍ، حين حلّ الظلام أخيرًا، تنفّست الصعداء.
‘سِيداس…’
ما إن خيّم الظلام، حتّى تزاحمت الأفكار في رأسها.
تذكّرت وطنها، والمبعوث الذي التقت به، والإمبراطور، فقبضت حاجبيها.
وزفرت زفرةً عميقة محاولةً تخفيف ما في صدرها.
‘القلق لَن يُغيّر شيئًا الآن.
الأجدى أن أعتني بنفسي وأنتظر المستقبل.’
كان الإمبراطور، حين التقته قبل مرضها، يصرخ بكلمة “اللعنة” كالمهووس.
ومن صوته وحده، كان واضحًا كم هو أسيرٌ لها.
وبالنظر إلى ردّ فعله، لن تنال رضاه ما لم يُعلَن زوال اللعنة على يد كبير الكهنة.
اعترفت يِيرينا بأنّه لا شيء بيدها الآن، وحاولت تهدئة قلقها.
وعلى الأقلّ، كان من حسن الحظّ أنّ الإمبراطور لم ينسَها بعد.
‘لم ينسَني تمامًا.
إن اقتنصتُ الفرصة…’
عضّت شفتها.
فقد تذكّرت صراخ المرأة التي كانت تُسحَق تحت عنف الإمبراطور.
وما جدوى أن تكون محظيّته؟
قد ينتهي بها المصير ذاته.
وبخوفٍ، وبّخت نفسها لجبنها، لأنّها لم تفعل شيئًا سوى السماع.
وضمّت يديها، وصلّت بلغة سِيداس من أجل سلامة تلك المرأة المجهولة.
‘أنا آسفة.
لأنّي لم أفعل شيئًا.’
ثقل قلبها بالذنب، وازداد جسدها وهنًا.
ورغم دفء الجوّ، تشبّثت باللحاف، واستلقت على جانبها منكمشةً كجمبريّ.
حين لم تسمع سوى أنفاسها، خطر ببالها شخصٌ ما.
بل بالأحرى، كانت تحاول عبثًا طرده بسيلٍ من الأفكار الأخرى.
‘أفيقي يا يِيرينا.
غبيّة عديمة الجدوى!’
سدّت أذنيها، وسبّت نفسها، محاوِلةً إدراك وضعها وتجاهل ذلك الرجل.
‘السيدة يِيرينا، ألن تتفضّلي بقبول تحيّة الفارس كِيان؟’
‘……’
‘لقد كان قلقًا عليكِ جدًّا حين كنتِ طريحة الفراش.’
لكنّ القلب هكذا دائمًا.
كلّما حاولت نسيانه، ازداد حضورًا.
وتذكّرها لكلام جين عن قلقه جعلها تدفن وجهها في الوسادة.
ربّما بسبب الأمر الذي نطقت به قبل مرضها، لم يعد الحرّاس يدخلون الغرفة.
كانوا يطرقون الباب مرّتين يوميًّا للسلام، وهذا كلّ شيء.
وفي الأيّام الأخيرة، كانت تتجنّب حتّى ذلك.
تردّ على تحيّة فريدريك بإيماءة، لكنّها تهرب إلى غرفة نومها إن أقبل الرجل الذي تريد تفاديه.
ومع ذلك، كان يطرق الباب، يدخل، يحيّي جين، ثمّ ينصرف.
حين كانت تسمع صوته في الخارج، كانت ترغب في رؤيته، ولو على هيئةٍ ذهبيّة مشوّهة.
أرادت أن تعرف كيف يبدو، هل طوله كما تخيّلته، وكيف يتحرّك.
لكنّها لم تستطع.
فقد أدركت، خلال مرضها، مشاعرها تجاهه.
‘يِيرينا. ابنتي.’
‘يِيرينا. أختي.’
ظهر أفراد عائلتها في حلمٍ اعتادت عليه، لكنّهم هذه المرّة كانوا مختلفين.
لم ينظروا إليها بحنانٍ وهم يحتضرون، بل رمقوها ببرودٍ، وأشاروا إليها باتّهام.
‘كيف تفعلين هذا؟
كيف استطعتِ؟’
لم يذكروا ذنبها صراحةً، لكنّها كانت تعرفه.
أن تحمل في قلبها فارسًا من إمبراطوريّة بِستيوس، فارسًا شارك في غزو وطنها.
حتّى بعد الموت، كانوا يوبّخونها على ذلك.
‘لا… أنا…!’
حاولت الإنكار، لكنّ صوتها اختنق.
‘أنا آسفة.’
لم يخرج صوتها إلّا عند الاعتذار.
وعندها أدركت الحقيقة كاملةً.
كما هو حاله، هي أيضًا أحبّته.
‘أنا آسفة.
لقد أخطأت.’
وما دام الأمر كذلك، فلم يبقَ لها سوى طريقٍ واحد.
أن تتوب، وتمحو هذا الحبّ، وتُخرجه من قلبها.
‘يِيرينا، كيف تفعلين هذا بنا؟’
كانت أصواتهم تدور في أذنها رغم أنّها لم تنم.
وحين أدركت أنّها تفكّر بالرجل الواقف خارج الغرفة، ضغطت وجهها في الوسادة حتّى كاد نفسها ينقطع.
كلّما أنكرت وجوده في قلبها، خفتت أصوات العائلة.
ابتسمت، مقنعةً نفسها بأنّ هذا هو الصواب، وواصلت خنق أنفاسها.
“لَن يحدث هذا مرّةً أخرى.
حقًّا.
حقًّا… أنا آسفة.”
الأميرة الأسيرة في البرج ظلّت تكرّر كلمات التوبة طويلًا، مبلِّلةً الوسادة كطحلبٍ رطب.
ومع ذلك، فإنّ صوتها المكبوت، الذي تسلّل بين وجهها والوسادة، لم يستطع أن يُخفي صدق ما في أعماقها تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 53"