وصل هايدِن إلى مملكة سِيداس، فَلَفَظَ لسانه دهشةً من بذخ داخل القصر الملكيّ.
قبل نصف عام فقط، كان هو وجيش الإمبراطوريّة قد اقتحموا المكان، ونهبوا معظم الكنوز والذهب بوصفهم غزاةً منتصرين، لكنّ آثار ذلك كلّها قد اختفت دون بقايا.
بل إنّ الزينة بدت أكثر عددًا، من تحفٍ ومنحوتاتٍ وصفائح ذهبٍ تُغَطّي الجدران والأرضيّات، وأحجارٍ كريمةٍ مُثبَّتةٍ في السقف كأنّها تُحاكي نجوم اللّيل، مع ثريّاتٍ فاخرةٍ تبهر الأبصار.
كان المشهد يُشبه تمامًا الجناح المركزيّ في القصر الإمبراطوريّ حيث يُقيم الإمبراطور.
‘خلال سنواتٍ قليلة، لا بُدَّ أن ينفجر الأمر.’
أدرك هايدِن ذلك بحدسه.
أيقن أنّ مملكة سِيداس في هيئتها هذه لَن تدوم طويلًا.
فكي يبلغ قصرُ دولةٍ صغيرةٍ أنهكتها الحرب هذا الحدّ من الترف، لا بُدَّ أن تكون أرواحُ عددٍ هائلٍ من الرعيّة قد استُنزفت.
في طريقه، كان قد لاحظ اضطراب أجواء القرى.
قرب العاصمة بدا الوضع أفضل نسبيًّا، أمّا سائر المناطق، فحتى المرور الخاطف بها كان كافيًا لكشف بؤس الحياة فيها.
وبين الوجوه الشاحبة من الجوع، وُجدت—وإن كانت قليلة—نظراتُ تمرّدٍ واضحة.
ومثل هؤلاء سيزدادون يومًا بعد يوم، إلى أن يشتعلوا في لحظةٍ ما كحريقٍ لا يمكن احتواؤه.
‘…لا شأن لي بهذا.’
الحرب الأهليّة التي ستعقب الحرب الكبرى كانت مأساةً مرعبةً، يكفي تصوّرها لإثقال الصدر.
عبس هايدِن، محاولًا تجاهل الأمر، مقنعًا نفسه بأنّه خارج نطاق تدخّله.
لكنّ شخصًا ما خطر بباله فجأةً: الأميرة التي عاشت حياةً نبيلة في هذه البلاد ثمّ اقتيدت أسيرةً إلى الإمبراطوريّة، يِيرينا سِيداس.
‘الحُبّ من النظرة الأولى… لم أكن أُصدّقه.’
كانت امرأةً لا شكّ أنّ سيّده قد وضعها في قلبه.
وما إن أدرك هايدِن ذلك، حتى محا شعوره القصير العنيف تجاه يِيرينا.
غير أنّ حرارة الإعجاب السريّ كانت تعود لتتّقد كلّما اقترب من وطنها.
صحيح أنّها مشاعر ستُدفَن مجدّدًا عند عودته، لكنّه هنا، بعيدًا عن أعين سيّده، أراد أن يسمح لنفسه بالتفكير فيها كما يشاء.
‘لو رآني نوكس الآن، لبدأ بتأنيبي فورًا.’
كان يتخيّل بوضوح وجه نوكس الجامد وتعليقه اللاذع إن علم بما يجول في صدره.
ابتسم هايدِن بمرارة وتابع سيره.
وكان أحد الخدم، وقد ارتدى ثيابًا أنيقة، يسير أمامه بخطوتين تقريبًا، فالتفت عند سماعه ضحكته الخافتة.
سارع هايدِن إلى ضبط ملامحه.
“هنا المكان.”
بعد مسافةٍ من السير، توقّف الخادم أمام مبنى يقع في طرفٍ قصيّ من القصر.
كان المبنى متواضعًا وصغيرًا إلى حدٍّ يُقارن بسائر الأبنية التي يقطنها الملك والملكة الأم.
دخل هايدِن خلف الخادم، فعَبَس من غبارٍ أبيض تساقط من الأعلى.
ما إن تجاوزا ممرًّا خشبيًّا عتيقًا يئنّ صريرًا، حتى انكشفت أمامه آلافُ الكتب.
وعلى خلاف المدخل، كان الرَّدهة مُعتنىً بها جيّدًا، تُشبه قاعة مكتبةٍ واسعة.
“هذا هو أمين السجلّات الملكيّة.”
عرّف الخادمُ هايدِنَ على شابٍّ تفوح منه رائحة الورق العتيق.
كان نحيل الجسد، يرتدي ثيابًا واسعةً لا يُحكم منها سوى الأكمام.
وبإشارةٍ من الخادم، انحنى أمين السجلّات تحيّةً، غير أنّ عينيه خلف النظّارة كانتا تحملان تمرّدًا غير قابلٍ للإخفاء.
“سأنصرف الآن، فهو ضيفٌ كريم، فاحرص على خدمته جيّدًا.”
قالها الخادم بتعالٍ ثمّ استدار.
نظر أمين السجلّات إلى ظهره بازدراء، ثمّ التقت عيناه بعيني هايدِن فارتجف.
“تفضّل باتّباعي.”
قاد أمين السجلّات هايدِن إلى وسط القاعة.
كانت على المكتب الكبير كتبٌ وأوراقٌ ومحبرة.
مسح يديه الملطّختين بالحبر بعناية، ثمّ سأل:
“قيل إنّ لك ما تبحث عنه، فاذكرْه لأجلبه لك.”
“إذًا… أحتاج أوّلًا إلى سجلاّت أميرات سِيداس، وكلّ ما يتعلّق باللعنة المرتبطة بهنّ.”
بناءً على كلامه، أخرج أمين السجلّات عدّة مجلّداتٍ سميكة من درج المكتب.
تكدّست ثمانية كتبٍ ثقيلة على الطاولة، ففتح أحدها وراح يبحث بجدٍّ، يدوّن الملاحظات على ورقٍ إلى جانبه.
راقبه هايدِن قليلًا قبل أن يشعر بالملل، فالتفت حوله.
ثمّ اقترب من أقرب رفّ، ومدّ يده إلى كتابٍ لفت نظره.
“توقّف.”
جاءه صوتٌ حادٌّ متوتّر من الخلف.
استدار هايدِن، فرأى أمين السجلّات وقد قبض يده بقوّة.
التعليقات لهذا الفصل " 52"