كانت ييرينا تتحسّن تارةً وتنتكس تارةً أخرى.
تكاد تستعيد وعيَها بفضل دواءِ الطبيب، ثم لا تلبث أن يخذلها الجسد فتخورُ قواها وتستسلم.
قلق الطبيب لأنّ المريضة لا تكاد تقوى على تناول الطعام أصلًا.
وقال إنّ ما تبقّى من قوّتها، إن استُنزِف أكثر، فسيُصبِح الأمر خطرًا حقًّا.
“أخلوا المكان قليلًا من فضلكم.”
لحسن الحظّ، وقبل بلوغ الحدّ الحرج، قالت أليسيا إنّها تستطيع استعمالَ القوّة المقدسة.
أمر روشان الطبيبَ وجين بالابتعاد، وتنحّى عن جوار ييرينا.
وقفت أليسيا في الموضع الذي كان فيه روشان، ثم جثت على ركبتيها وأمسكت يد ييرينا بكلتا يديها.
وعلى غير عادتها، لم تستخدم القوّة الإلهيّة بصمت، بل بدأت تتلو صلاةً مسموعة.
“يا ألهي، استجيب لدعائي….”
ارتفع من جسد أليسيا كلّه وهجٌ من الضوء.
وبعد لحظات، أخذت تشعّ كأنّها شمسُ الظهيرة.
كانت أليسيا منتميةً إلى معبد القصر الإمبراطوريّ، وهي كاهنةٌ عليا، وواحدةٌ من قلّةٍ تملك القوّة المقدسة، بل ولا يُضاهيها أحد في قدرة الشفاء.
ولهذا كانت شخصًا لا يُستدعى ولا يُشاهَد كيفما اتّفق.
لكنّ روشان، بصفته وليَّ عهد الإمبراطوريّة، شاهدها تستخدم قوّتها مرارًا، إذ إنّ مَن يحتاجها كُثُر، من الإمبراطور إلى كبير الكهنة وكبار النبلاء.
‘إلى هنا فقط. ما بعد هذا لا أستطيع.’
كانت أليسيا تصرّح بحدودها بوضوح.
لم تُغْرِها التهديدات، ولم تهزّها الرجاءات، وما لا تستطيع فعله كانت تقول إنّه مستحيل.
ولهذا كان روشان قَلِقًا حين أمرها باستخدام القوّة على ييرينا.
خشي أن تعجز حتّى أليسيا.
لكن في اللحظة التي رأى فيها ذلك الضوء المتدفّق، أدرك أنّ ييرينا ستُشفى.
كان الضوء أشدّ إشراقًا من أيّ شيءٍ رآه من قبل.
اتّسعت عينا جين والطبيب خارج الغرفة.
فالوهجُ الذهبيّ كان ساطعًا إلى حدٍّ لم تحجبه ستائر قوس المدخل.
ضوءٌ يُجبر المرءَ على الابتهال، بدأ يتجمّع حول ذراعي أليسيا، ثم في يديها.
تحوّل إلى موجٍ ذهبيّ، كأنّه كائنٌ حيّ، والتفّ حول ذراع ييرينا بإحكام.
انتقل الضوء من يدٍ إلى يد، ثم انتشر في جسد ييرينا كلّه.
بلغ شعرها، وراح ينساب كأنّه يقلّد خصلاته.
حتّى روشان، الذي نادرًا ما يُفاجأ، فتح عينيه على اتّساعهما.
ومضى وقتٌ لا يُدرى مقداره، ثم انفجر الضوء مرّةً عند يد ييرينا المصابة، وانسحب بعدها نحو عينيها المغمضتين.
تجمّد روشان.
كان في الأمر شيءٌ غيرُ طبيعيّ.
أزعجه الضوء العالق عند مقلتيها.
“أيتها الكاهنة.”
ناداها، لكنّ أليسيا لم تُجِب.
وحينها لاحظ متأخّرًا أنّ الدمَ يتقاطر من بين شفتيها المطبقتين.
“آه…!”
دار عقربُ الدقائق أكثر من نصف دورة.
تنفّست أليسيا بصعوبة، كأنّها ستسقط في أية لحظة، ثم أفلَتَت يدَ ييرينا.
وبالتزامن، خبا الضوء تدريجيًّا، وانفرجت ملامح ييرينا المتشنّجة بالألم.
تنفّس روشان الصعداء حين رأى الدمَ يعود إلى وجنتيها وشفتيها.
كان تنفّسها أبطأ وأكثر استقرارًا.
“أحسنتِ.
كما قلتُ سابقًا، سأنفّذ لكِ أيَّ طلبٍ أقدر عليه.”
قال ذلك وهو يلتفت إلى أليسيا.
لكنّها لم تستطع الردّ.
اكتفت بالانحناء، قابضةً على وجهها بكلتا يديها.
—
كان رأسُها يكاد ينفجر ألمًا.
لم تستطع ييرينا رفعَ جفنيها الثقيلين كأنّهما من حديد، وتاه وعيُها في ضبابٍ خانق.
بقايا الكوابيس ظلّت تطاردها بين الحلم واليقظة.
حاولت أن تتلوّى لتستيقظ، لكنّ الكابوس، كأنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة، أعاد إليها مشهدَ عائلتها الغارق بالدماء.
‘لا! أمّي! لا تذهبي!’
كانت تعلم أنّه حلم، ومع ذلك كان الألم حقيقيًّا.
صرخت إلى أمّها المنهارة، فنهضت الأخيرة بشكلٍ مشوّه، تتدفّق الدماء من محاجر عينيها الفارغتين.
شهقت ييرينا بقوّة، واستيقظت تمامًا.
‘هنا…؟’
رغم علمها بأنّها لا ترى، رفعت جفنيها مرارًا كما تفعل كلّ مرّة تستيقظ.
وفجأة، تناثر أمامها وميضٌ طقطق في الهواء.
كان شبيهًا بضوء اليراعات التي رأتها ذات ليلةٍ في الحديقة وهي تمسك أيدي إخوتها.
‘هاه؟’
ظنّت الأمر وهمًا، لكنّ الضوء لم يختفِ.
حدّقت فيه، وبدأت تميّزه.
‘أهذا…ضوء؟’
لم يكن الضوء ساكنًا.
كان يتحرّك بهدوء، مشكّلًا هيئةَ أشياء.
لم ترَ ألوانًا سوى ظلامِ ما بعد العمى ونقيضه، الذهب.
لكنّها استطاعت إدراك الأشكال.
حرّكت رأسها قليلًا، فرأت الضوء يتراقص إلى جانبها أيضًا.
‘ما هذا…؟’
حينها فقط بدأت تفهم ما جرى لها.
كان منظرًا غريبًا، لكنّها كانت ترى.
لم تكن التفاصيل واضحة، غير أنّها عرفت ماهيّة الأشياء.
وبينما كانت ترفّ بأجفانها المذهولة وتحاول تحريك أصابعها، سُمِع حفيفٌ إلى جوارها.
ثم جاء صوتٌ منخفض أيقظ ذهنها المشوَّش.
“…هل استفقتِ؟”
—
“أليسيا، إن كنتِ متعبةً إلى هذا الحدّ، فالأفضل أن تستريحي في الداخل.”
“صحيح، وجهكِ شاحبٌ جدًّا.”
هزّت أليسيا رأسها نفيًا، وقالت بصوتٍ متعب:
“جول. جال. أسنداني من فضلكما.”
وقف الاثنان إلى جانبيها وأمسكا بذراعيها برفق.
خرجت متكئةً عليهما، وكادت تتعثّر حين داست طرفَ ثوبها، لكنّ جال أمسكها في اللحظة المناسبة.
“انتبهِي.”
شدّد جول قبضته قليلًا، وسارا ببطء.
وقبل الدرج، توقّفت أليسيا فجأة.
“هل هنا يبدأ الدرج؟”
“هاه؟”
تفاجأ جال.
فرغم فقدانها البصر، لم تكن أليسيا تحتاج إلى مساعدةٍ تُذكر في حياتها اليوميّة.
كانت تستخدم القوّة الإلهيّة لترى.
لكنّها قالت بهدوء:
“لقد استنفدتُ القوّة تقريبًا. لا أرى شيئًا الآن.”
فهم الاثنان، وأمسكا بها بحذرٍ أشدّ.
“هنا الدرج.”
مدّت قدمها بحذر، لكنّها أخطأت.
صرخت وسقطت جالسة.
“آه!”
“أليسيا! هل أنتِ بخير؟”
كانت ترتجف، وغطّت وجهها بكفّيها.
وحين رفعت رأسها، انزلق القناع، وظهر موضع عينيها المغلقتين بالخرز.
التفتت نحو غرفة ييرينا، وهمست:
“اخترتُ هذا بنفسي، فلماذا…؟
يا ألهي، اغفر لي طمعي.”
—
ماتت وريثةُ الملكةِ المتألّقة.
الفتاة التي وُلدت أوّلًا بين هيلينا والإلفيّ ذي الشعر الأزرق راول، ومُنِحت تاجَ وليّة العهد، سقطت في بحيرةٍ وماتت يومَ بلغت السادسة عشرة.
‘كلّه ذنبكِ يا أمّي! موتُ أبي! وعمى عينيّ!’
كانت تلك آخر كلماتِ الابنة العمياء.
صرخت الملكة وهي تغلق عيني ابنتها الميّتة.
ثم عيّنت ابنتها الثانية وريثةً.
لكنّ اللعنة بدأت تتجلّى.
ابنةٌ بعد أخرى، عمى ثم موت.
رسائل انتحار، قفزٌ من هاوية، شنقٌ، وكلّها تنتهي باللوم.
‘اعثروا على الساحر! اكسروا اللعنة!’
حينها فقط تذكّرت الملكةُ لعنةَ الساحر الأعمى.
‘ستعمين، وستعمى بناتكِ كلّهن، وتغرقن في دموع محاجرهنّ.’
توسّلت الملكة.
لكنّ اللعنة لم ترحم.
وفي النهاية، رأت الملكة كلَّ شيءٍ بعينين لم تُطفأ.
التعليقات لهذا الفصل " 51"