5
كان الكون برمته مغمورًا في سواد دامس.
لم يستبن لعينَيها ايُّ مشهد، ولم يلوح لها امل في غد. استعصى عليها ان تدرك سر انقضاء الزمان او حقيقة انفاسها، بل انها ساورت الشكوك في اصل كيانها.
وفي غمرة هذا الوعي المعلق، اسندت ‘ييرينا’ جبينها الى ركبتيها وهي غارقة في شرود.
كان مسحة الشحوب على محياها تعكس فراغًا عظيمًا موحشًا. وقد بلغت من الهشاشة حدًا ينذر بتبددها لو انزاح ستائر المهجع المنسدلة وانساب شعاع الشمس، فمزق الركن الظليل الذي كان يؤويها.
تتابعت على ‘ييرينا’ وجوه لا عد لها، وامتدت اليها احيانًا اياد تحمل العون. بيد انها لم تبد ايَّ تفاعل.
بل لعل الاصدق هو انها غدت عاجزة عن ذلك، اذ لم يعد يلامسها ايُّ محفز او احساس.
ظلت جاثمة في صمت مطبق، تقيم حول ذاتها جدارًا خفيًا، متوحدة بانغلاقها في جحيم ذلك اليوم الغابر.
”ابي! امي!”
كان هذا اليوم المتجدد من البشاعة بحيث ان ‘ييرينا’ لم تعد تكترث لفقدان بصرها، ولم تجد فيه مصدر عذاب يُذكر.
ففي كل مرة كان يتجلى امامها مشهد احتضار ابيها وامها تباعًا، كانت روحها تنكسر، وتتلاشى، لتصير في الختام كحبيبات الرمل المذرورة.
ورغم شعورها بتهدم كيانها، كان قدرها ان تقيم في ذلك الجحيم. فلو انها استفلقت لاكتشفت الفراغ.
فنظرة الوجل في عيني ابيها وهو يتطلع خلف العرش قبيل سقوطه بفعل الرجل الشرير ذي الهيئة المظلمة، ونداء امها لها في رمقها الاخير، كل ذلك ما كان ليُسمع او يُرى الا في ذلك الجحيم.
بقيت ‘ييرينا’ راسخة في جحيمها، تُشرحها المشاهد المفزعة مرارًا وتكرارًا. فكل ذكرى حية في فؤادها كانت تمثل عذابًا مستديمًا في كل آن.
”يي… ييرينا. يا طفلتي… عليكِ… عليكِ وحدك ان تحيي. تصبري وابقَي حية…”
ولو ارادت ان تنتقي اشد ما اوجعها في سلسلة تلك الذكريات، لكانت وصية امها الاخيرة.
ان تحيا؟ وقد فقدت امها واباها واشقاءها جميعًا؟ ان تحيا متفردة؟
في واقع الامر، لو امكنها ذلك، للتحقت ‘ييرينا’ بعائلتها منذ زمن مديد.
بيد انه منذ استفاقها، لم يكن بوسعها ان تفعل شيئًا بمفردها.
فعينها المسلوبتان من النور عجزتا عن العثور على اي اداة لتطعن بها نفسها، وذراعاها المكبلتان حرمتاها حتى من التلمس لبلوغ نافذة.
لعل ما حدث كان افراغًا لما تبقى من مدامعها؟ فقد بدأت ضحكة خافتة تتسرب منها. وعندما اطلقت ‘ييرينا’ ضحكات متتابعة كأنها زفير مكتوم، تجمدت محيا النساء اللواتي كن بجوارها.
كن جميعهن يتشاركن الظن ذاته.
”الاميرة قد جُنّت.”
كانت النسوة اللواتي يخدمن ‘ييرينا’ في الوقت الراهن كلهن من سلك الامبراطورية، وقد جلب بهن جيش الغزو.
ومنذ ان فتحت ‘ييرينا’ عينيها، اقصيت مرضعتها وخدمها السابقات خوفًا من ان يسعين الى سم لصالح سيدتهن.
كانت نساء الامبراطورية قد اتبعن الجيش الى ساحة الوغى القاسية املًا في المال، لذا كن اقسى قلبًا واكثر اتزانًا من النسوة الاخريات.
بيد ان رؤيتهن لحال الاميرة ايقظت فيهن شعور الرثاء.
”عليكِ ان تتناولي بعض الماء…” لم تحتمل احداهن رؤية شفتي ‘ييرينا’ الذابلتين، فبادرت بتقديم الماء لها.
لكن ‘ييرينا’ استشاطت شرسًا بمجرد ان اقتحم احدهم محيطها.
صوت ارتطام.
“آه!”
دفعت ‘ييرينا’ اليد المقتربة عنها بقوة.
تحطم كأس الماء بصوت مدو.
وفي اللحظة ذاتها، شظية متطايرة خدشت ظهر يد المرأة الواقفة، فسال منها الدم.
اما المرأة التي كانت تقدم الكأس لـ ‘ييرينا’ فقد جُرحت بعمق بفعل اظافر الاميرة.
انقبضت النساء حين شاهدن النزف، واعتلتهن علامات الاستياء.
لكن لم يغضب منهن احد.
بل شعرن بنوع من الارتياح كون رد فعل الاميرة الآن بدا اقرب الى الطبيعة البشرية من حالتها الساكنة التي لازمتها في الايام الخالية.
وبينما كانت النساء يتبادلن النظرات ويتنهدن وهن يجمعن شظايا الكأس، دخل فارس فجأة الى الغرفة، ولعله سمع جلبة الحادث في الخارج.
كان الفارس يتمتع بشعر اشقر يفوق شعر ‘ييرينا’ بهاء وزهوًا.
ورغم كونه رجلًا، بدا كزهرة متفتحة. وعلى هيئة الفرسان، كان ممشوق القامة حسن البنية، لكن انطباعه الاول كان يضاهي جمال النسوة.
بيد ان عينيه الزمرديتين المائلتين قليلًا نحو النهاية كانتا باردتين كالجمد، وكانت قسمات وجهه عابسة وهو يتنقل بنظره بين الكأس المهشم على الارض، والنسوة المصابات، والاميرة.
”تخدمونها برفق فتبدي الازدراء. ايتها الاميرة، الا تدركين حقيقة مقامك؟”
كانت الكلمات المنبعثة من شفتيه الحمراوين ماضية الحد. حاولت احدى النساء ان تعترضه، وقد بدا على وجهها التحدي.
”ايها السيد ‘فردريك’!”
لكن ‘فردريك’ لم يطرف له جفن رغم محاولة المرأة لردعه.
سار بخطوات واسعة نحو ‘ييرينا’، وتوقف امامها. ثم اسند ساقًا على اخرى وكتف ذراعيه.
”بلغني انك لم تتناولي وجبة كاملة.
على كل حال، لن يكون بوسعك الموت، اليس كذلك؟ لذا، كفي عن اثارة الضجيج وامتثلي للاوامر.
فهذا العناد الذي تبدينه قبيح المنظر.”
رغم انها لم تستطع رؤيته، الا ان ‘ييرينا’ استشعرت بوجود ‘فردريك’ قائمًا جوار مهجعها.
رفعت قليلًا وجهها الذي كانت تسنده على ركبتيها، مظهرة غيظها الواضح من كلماته.
لكن، ولأن عينيها كانتا بلا تركيز لتطلق نظراتها صوب خصمها، تقلصت هيبتها.
سخر ‘فردريك’ ضاحكًا بصوت مسموع من هيئتها.
ولأنها كانت لا تبصره، كان صوته يصلها بحس اشد حساسية. غمر الغضب الحاد راسها، فعضت ‘ييرينا’ شفتها السفلى بقوة. وبفعل جفاف شفتيها، تمزقتا بسهولة وسال منهما الدم.
تغير محيا ‘فردريك’ فجأة عند رؤية قطرات الدم المنسابة على شفتيها. بدا وكأنه استرجع شيئًا، فتقبض حاجباه و تمتم بصوت خفيض جدًا.
”…انه لامر محزن. حتمًا، لو كانت الاميرة على هذا الحال، فلربما كان اهل سيداس واهنين الى هذا الحد.”
عندما انبعثت كلمات من فم العدو الذي سحق المملكة وازهق والديها، وتجرأت على اهانة اهل البلاد، دفع الغضب اليأس جانبًا.
شدت ‘ييرينا’ قبضتها بقوة حتى غاصت اظافرها في راحة كفها، وهي ترمق خصمها بنظرة خفية.
”اصمت.”
”لم؟ هل نطقت بخطأ؟ اليس كذلك؟ انهم اشخاص يرثى لحالهم اذ لم يستطيعوا حماية بلادهم.”
لقد شهد ‘فردريك’ بعينه نبلاء سيداس وهم قابعون اسفل المنصة خلال تنصيب الملك الجديد.
كان معظمهم يحنون رؤوسهم بعجز، وقليل منهم كانوا على وشك الانقضاض بقبضات مشدودة، لكن استجداء ابائهم سلبهم قوتهم، فصاروا يقفون كالجثث الخامدة، ويا له من مشهد مثير للضحك والشفقة.
وكاد ‘فردريك’ ان يشير اليهم ويشتمهم في تلك اللحظة.
”لو ان سيدهم قتل، لكان عليهم ان ينتحروا، لكنهم جميعهم يقفون و يذرفون الدموع فحسب. تس.”
”امرتك ان تغلق فمك القذر!”
صوت سلاسل.
تحركت ‘ييرينا’ كأنها توشك ان تقفز مباشرة نحو الموضع الذي انبعث منه صوت ‘فردريك’.
لكن، قبل ان تتمكن من الحركة كما يجب، قيد حركتها السلاسل المتصلة بالسرير.
رنين سلاسل، رنين سلاسل.
رغم ادراكها لاستحالة قطعها، لم تستطع ‘ييرينا’ السيطرة على هيجانها، فواصلت هز ذراعيها.
انفجرت كل المشاعر المتراكمة، وتصرفت كوحش مقيد بفخ.
بيد ان حركة ‘ييرينا’ التي بذلت فيها قصارى جهدها، لم تكن في نظر ‘فردريك’ سوى خفق جناح طائر صغير. فمد جسده نحو ‘ييرينا’ المندفعة امامه، ووجه محياه المنحوت نحوها ساخرًا.
”آه؟ بخلاف مظهرك، تتمتعين بشيء من العزم. ظننتك فقدت عقلك، لكن يبدو انك بخير تمامًا. اليس كذلك؟”
كانت ‘ييرينا’ تصر اسنانها، وهي تستشعر اقتراب ‘فردريك’ منها. عندئذ، دلج فارس الى الغرفة، وامسك بكتف ‘فردريك’ بقوة.
”يا ‘فردريك’. كف عن هذا.”
نظر ‘فردريك’ الى الوراء بانزعاج، ثم رأى الشخص الذي ثناه، فابتعد بهدوء عن ‘ييرينا’. كان ‘هايدن غيلتا’. ب
بشعره الفضي الطويل المتلألئ وعينيه الرماديتين المزرقتين الفاتحتين، كان صديقًا مقربًا لـ ‘فردريك’ وواحدًا من القلائل الذين يمكنهم ردعه.
”الامر الذي اصدره صاحب السمو هو مراقبة الاميرة، وليس استفزازها.”
”همف! اتثار الاميرة ببعض الكلمات العابرة؟”
رغم ابتعاده عن ‘ييرينا’ استجابة لكلمات ‘هايدن’، الا ان لسان ‘فردريك’ ظل منطلقًا. نظر الى ‘ييرينا’ التي كانت تتنفس بعنف، وادار راسه، متمتمًا بكلام يسمعه الجميع.
”لعلها لا تفكر في اي مشقة يعانيها اتباعها. هكذا هم اولئك الذين نشأوا في قمقم زجاجي…”
”كفى. انته عند هذا الحد يا ‘فردريك’.”
وبخ ‘هايدن’ ‘فردريك’ واشار على النسوة اللاتي يحيطن بالاميرة بالانصراف.
وسرعان ما غادرت النسوة اللواتي كن منحنيات الرؤوس في الركن بسبب الاجواء المتوترة.
راى ‘فردريك’ النسوة وهن ينصرفن، ثم وجد صديقه المقرب يقترب من الاميرة ويتفحصها، فظهر على محياه تعبير غريب. ضيق عينيه وقال لـ ‘هايدن’.
”يا ‘هايدن’، تبدو مختلفًا عن عادتك. هل انت ايضًا مهتم بالاميرة؟ صاحب السمو، و’نوكس’، وانت… انها حقًا امراة كفيلة بافساد بلاد.”
”…كف عن هذا النزاع السخيف، واستخدم الالقاب اللائقة مع الاميرة. هيئتك ليست حسنة.”
”اية اميرة؟ انها اسيرة، مجرد جارية مغلفة بغلاف جميل في غرفة مهجع.
وفي صباح اليوم، انت ايضًا كنت فظًا جدًا مع ملك سيداس الجديد.”
”يا ‘فردريك’!”
عندما اشير الى تصرفه في مراسم تنصيب ملك سيداس الجديد، رفع ‘هايدن’ صوته، وراقب ‘ييرينا’ دون وعي منه. لم يكن الصوت خافتًا، لذا كان من المحال الا تسمع.
ارتجفت ‘ييرينا’ التي كانت متصلبة الجسد من الغضب، وعاودت السؤال بتلعثم عن الحقيقة التي بلغتها للتو.
”…ملك سيداس الجديد؟”
”لم تكن الاميرة تعلم، وهي في غياب ذهني عما يدور حولها. ايتها الاميرة، في صباح اليوم تم تعيين اخيك غير الشقيق ملكًا جديدًا لسيداس.
على الاقل، قدمي له التهاني، فهو من دمك.”
”‘بيريك’؟”
لم تتفاعل ‘ييرينا’ مع ‘فردريك’ كما فعلت منذ قليل. بدلًا من ذلك، تركت جسدها يرتخي، وهو يرتعش بشدة كشجرة الآس. انحسر الغضب في لحظة كالجزر، وحل محله الصدمة واليأس.
”ليس صحيحًا. الملك… ملك سيداس هو ابي…”
تساقطت المدامع الغزيرة، فترك ‘فردريك’ ذراعيه المكتفتين.
وضعت ‘ييرينا’ يدها لتتحسس وجهها وتواريه.
كانت تتمنى لو انها تفقد وعيها، لتهرب من هذا الواقع الذي يستعصي قبوله.
”آه… هففف… آه.”
عندما بدأت ‘ييرينا’ تطلق بكاء موجعًا كالصارخ، بدا على ‘فردريك’ شيء من الارتباك. كان محياه يوحي بانه لم يكن يتجادل معها منذ لحظات. القى بكلمة مقتضبة وهو يتطلع لوجه ‘ييرينا’، ثم استدار.
”…هذا ممل.”
بدا وهو يغادر الغرفة بخطوات سريعة كأنه يفر.
رمق ‘هايدن’ ظهر صديقه الذي احدث الفوضى ثم انصرف بتحديق، ثم اقترب من ‘ييرينا’.
Chapters
Comments
- 5 منذ 18 ساعة
- 4 منذ 18 ساعة
- 3 - كانت الفَجيعةُ مُروِّعةً. منذ يومين
- 2 - الأميرة العمياء. منذ يومين
- 1 - المُقدمة. منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 5"