“سيداس…… أنا مخطئة، مخطئة. سامحيني.
أمّي، أنا…….”
ما إن عادت الأميرة إلى البرج حتّى سقطت طريحة المرض.
اشتعلت الحُمّى في جسدها، وانفلت لسانها بالهذيان، فيما كانت الدموع تنهمر بلا انقطاع من عينيها.
“ما الذي تقفان تنظران إليه؟ افعلا ما تستطيعان فعله.”
“……الأمر صعبٌ الآن.”
إزاء حالتها المقلقة، أمر روشان أليسيا باستخدام القوّة الإلهيّة.
غير أنّ أليسيا هزّت رأسها قائلةً إنّها لا تملك في الوقت الراهن ما يكفي من القوّة.
فقد استنزفت معظمها قبل أيّامٍ حين استخدمتها على ييرينا، ثمّ امتثالًا لأمر الكاهن الأعظم على الإمبراطور وعددٍ من كبار النبلاء.
“بما أنّه أمرُ وليّ العهد، راقِبوا الأميرة جيّدًا.
وإن تجرّأ أحدٌ على الحديث عمّا جرى هنا، أو خالف ما حُذِّر منه، فلن تعود تلك اليد صالحةً لمعالجة المرضى.”
في النهاية، وبأمرٍ من روشان، أدخل فريدريك طبيبًا إلى البرج سرًّا.
كان الطبيبُ قد أُسكت، فتولّى فحص ييرينا تحت نظرات العيون الحمراء المتلألئة، وكأنّها تراقبه عن كثب.
“هذا أمرٌ مقلق…… جسدها ضعيف أصلًا، ويبدو أنّ الصدمة كانت كبيرة.”
لم يكن الطبيب قادرًا على صنع المعجزات كأليسيا، لكنّه كان بارعًا في تشخيص أسباب العلل.
وأشار إلى حالة جسد ييرينا الواهنة، ثمّ دلّ على جرحٍ بعينه.
“الجرح في راحة يدها هو المشكلة.”
كان جرحًا صغيرًا في الكفّ.
لا هو واسع ولا عميق، من ذلك النوع الذي يُصاب به المرء مرّاتٍ عدّة في اليوم في ساحات القتال.
لو عُقِّم وأُحسن الاعتناء به لما شكّل مشكلة، حتّى في ميدانٍ قذر.
غير أنّ جرح ييرينا، التي تعيش في مكانٍ نظيف، كان قد تعفّن وتسبّب بالتهاب.
“لو كانت بصحّةٍ جيّدة لشفِي وحده، لكن في حالة الأميرة الحاليّة فهو أشبه بجرحٍ غائرٍ بسيف.”
قال الطبيب إنّ هذا الجرح ليس سبب المرض بقدر ما هو شرارته.
فجسدٌ ضعيف لا يقدر على شفاء نفسه، تلقّى صدمةً عنيفة، فانهار أمام جرحٍ يتحمّله حتّى الأطفال.
“فهمتَ، إذن أنقذها.”
“سأبذل قصارى جهدي، لكن…….”
“مصيرُ عنقك سيتحدّد بالنتيجة.”
عندها، خطرت لروشان صورةُ زنبقة.
زهرةٌ بيضاء هشّة، يكفي أن تُصاب خدوشٌ صغيرة في بتلاتها حتّى تصفرّ أطرافها ثمّ تذبل.
كان قد نقر بلسانه يومًا حين رآها تذوي قبل أن تتفتّح، قائلًا إنّها لا تصلح حتّى للزينة.
لكن ما باله الآن؟
كما تلك الزهرة البيضاء، كانت المرأة الراقدة عاجزةً عن التعافي من جرحٍ صغير……
وكانت تلك الأميرة التي جلبها بيده إلى هذا المكان تبعث في قلبه الشفقة والألم.
ساوره القلق، وضاق صدره خشية أن تعجز عن اجتياز المرض.
“……اشرحي بالتفصيل ما الذي حدث.”
قال روشان وهو ينظر إلى وجه ييرينا الملتوي ألمًا.
فبدأت أليسيا، التي لازمتها طوال الوقت، تروي ما جرى منذ تلقّي حكم اللعنة، ولقاء الإمبراطور.
كان يعلم على نحوٍ مقتضب أنّ ييرينا واجهت الإمبراطور.
وبحسب طبع أخيه غير الشقيق، استطاع أن يتوقّع كيف عوملت.
ومع ذلك، أخذ وجهه يزداد قتامةً كلّما استمع.
تردّدت أليسيا، وقد خنقتها هيبته، فأطبقت فمها لحظة.
عندها، نظر روشان إلى يد ييرينا المضمّدة وسأل:
“كيف أصيبت بهذا؟”
“بعد انصراف جلالته، حين كانت تتحدّث مع رسول سيداس…….”
“…….”
“……يبدو أنّها جلست على الأرض، وخُدِشت براحة يدها من صدأ القضبان التي كانت تمسك بها.”
“جلست على الأرض؟”
“…….”
“وماذا قال ذلك الرجل؟”
كانت أليسيا تشرح تصرّفات الإمبراطور بهدوء، لكنّها تردّدت هنا.
تصرفُ رسول سيداس، وهو ينظر إلى ييرينا بتعالٍ، كان فظيعًا.
قرأ رسالةً قال إنّها من وصيّة سيداس، بحجّة أنّه مأمور، وكان محتواها دنيئًا إلى حدّ يصعب نقله.
بل إنّها حمدت الله لأنّ جول وجال لا يفهمان لغة سيداس.
“تكلّمي.”
حثّها روشان حين طال تردّدها.
ففتحت فمها أخيرًا وقالت ما سمعته.
“نقل إليها، شفهيًّا، رسالةً من وصيّة سيداس.
لكنّ مضمونها كان…….”
“…….”
“يبدو أنّ أمّ ملك سيداس طردت الوصيفات اللواتي كنّ على صلةٍ بييرينا من العاصمة، وضغطت على عائلات خُطّاب بعضهنّ…….”
اختصرت أليسيا الرسالة الطويلة والبشعة قدر استطاعتها.
في الحقيقة، كانت الكلمات اللطيفة تمزّق ييرينا إربًا.
اضطرّت لسماع كيف سقطت وصيفاتٌ كنّ صديقاتها، وكيف لم يحتمل بعضهنّ فأنهين حياتهنّ.
ولم تقف الرسالة عند هذا الحدّ.
فكلّما تقدّمت، تخلّت حتّى عن نبرتها اللطيفة، وصارت أقبح ممّا يُقال.
“أكملي.”
“……غالبيّتها كانت تسخر من حال ييرينا في الإمبراطوريّة.
اعذرني يا مولاي، يصعب عليّ استرجاع الكلمات أمامك.”
لم يعد ممكنًا لا اختصارٌ ولا تلطيف، فتوقّفت أليسيا.
سكت روشان قليلًا، ثمّ قال:
“أين الرسالة؟”
“لم يُسلّمها.”
“لا يهمّ.”
“…….”
“فذلك الرجل لم يغادر الإمبراطوريّة بعد.”
كان مصيرُ رسول سيداس واضحًا.
سيدفع ثمن استخفافه بالأميرة الأسيرة، وبمظهرها البائس، وبموقف الإمبراطور.
“متى تستطيعين استخدام قوتك؟”
سأل روشان وهو يجثو عند رأس ييرينا، واضعًا يده على جبينها الملتهب.
لكنّ أليسيا عجزت عن الإجابة من شدّة ذهولها.
لم يكن أيّ رجل، بل روشان ڤيستيُوس نفسه.
المعروف بغروره وبروده تجاه الجميع.
ومع ذلك، ها هو يجثو بسهولة، يمسك يد مريضةٍ تهذي، في مشهدٍ يصعب تصديقه.
التفت إليها، مطالبًا بالجواب.
فقالت أخيرًا، وقد انفصلت شفتاها بصعوبة:
“بعد ثلاثة أيّام. عندها سأتمكّن من مساعدتها.”
“……سأكافئكِ بقدر ما أستطيع.”
كان يعلم أنّ استخدام القوّة يُرهق الجسد.
ومع ذلك، فوجئت أليسيا، إذ جاء صوته متوسّلًا من شدّة القلق.
لم يهتمّ روشان بما تفكّر به، وأعاد تركيزه على ييرينا.
نظرته إلى المرأة الراقدة كانت موجعةً في صدقها.
ندم على اليوم الذي أجبرها فيه على ابتلاع السُّمّ.
كان كلّ شيءٍ محسوبًا بدقّة، من الكميّة إلى قوّة أليسيا والأدوية، لكن ربّما زاد ذلك من ضعفها.
كلّما فكّر، ازداد الغضب الذي لا مفرّ منه.
وحين سمع أنينها، نهض ببطء، وملامحه قاتمة.
“سأُبقي فريدريك هنا.
إن حدث شيء، أبلغيه فورًا.”
قال ذلك وخرج من الغرفة.
في الخارج، كان الطبيب وجين ينتظران.
وبإيماءةٍ منه، دخل الطبيب مسرعًا.
وقبل أن يتجاوز جين، قال:
“اعتني بها جيّدًا إلى أن أعود.”
تجمّدت جين، وقد نسيت خوفها منه لانشغالها بييرينا، ثمّ أومأت بصعوبة أمام هيبته المفترسة.
—
“ماذا عليّ أن أفعل؟”
بعد خروج الطبيب وجين، مدّت أليسيا يدها فوق وجه ييرينا.
اشتعل ضوءٌ ذهبيّ كالنار، واتّخذ شكل سراب.
لم تكن تملك قوّةً تكفي لشفائها الآن، لكنّها كانت قادرةً على تخفيف عذاب الحُمّى مؤقّتًا.
غير أنّها بعثرت القوّة في الهواء، ولم تمنح ييرينا شيئًا منها.
وضعت يدها على جبينها وهمست:
“يداكِ باردتان، ومع ذلك تتألّمين من الحرارة…… لكن هذا القدر محتمل.
فهو أهون من ألم الاحتراق حيّةً.”
معبدٌ مشتعل، أصدقاء يتحوّلون إلى رماد، وامرأة تضحك بقهقهةٍ تتلاشى في ضوءٍ ذهبيّ.
انحنت أليسيا، وألصقت شفتيها بأذن ييرينا.
“كان منظرُكِ وأنتِ تموتين ببطء سيئًا للنظر.
لكن هذا غير كافٍ يا أميرة. غير كافٍ أبدًا.”
تغيّر لقبها، وتبدّل جوّ أليسيا.
نزعت يدها، وتصلّبت ملامحها كفارسٍ مقدّس.
“حين سمعتُ أنّكِ ما زلتِ حيّة، كدتُ ألوم.
لكن الآن أفهم.
لقد أبقتكِ حيّة لأجلي، لأحمل بيدي سيف الانتقام.
إنّها رحيمة حقًّا.”
وضعت يدها على عنق ييرينا وضغطت قليلًا.
ثمّ غطّت فمها، وقالت ببرود:
“حاكم النور يختلف عن حاكم سيداس التي تؤمنين به.
لم تتخلَّ عن البشر لتتبع الوحوش.
ما زالت هنا، تحمي مَن يؤمنون بها.”
اهتزّ جسد ييرينا بعنف.
لكنّ أليسيا تابعت، وعصابة عينيها تلمع كحدّ نصل.
“الآن أعرف كيف أستخدم سيفي.
ستأخذين عينيّ أوّلًا، يا أميرة.
وبعد ذلك بقليل…….”
أنزلت يدها عن عنقها، وسحبت سيفًا ذهبيًّا غير مرئيّ، وهمست بصوتٍ مرعب:
“……ستبصرين النور من جديد.”
التعليقات لهذا الفصل " 49"