تمتم الرجلُ ذو اللحية التُّيسية بإعجابٍ وهو يلتفت حوله.
كان المبنى، بفخامته وهيبته، كفيلًا بأن يُنسيه ألم ساقيه بعد طول السير، إذ بدا بديعًا من الخارج والداخل على حدٍّ سواء.
‘أكلُّ هذا صُنع من جزيّات الدول الأُخرى؟’
كان يلسع لسانه ساخطًا وهو يتأمّل الزخارف المذهَّبة على الأعمدة، حين توقّف الخادم الشابّ الذي يتقدّمه أمام بابٍ هائل، ثمّ استدار، ومسحه بنظرةٍ من أعلى إلى أسفل، وقال بلهجةٍ لا تخلو من ازدراء وهو يمضي:
“انتظر هنا.”
‘يا لهذا الغِرّ!’
غلت الدماء في صدر الرجل، لكنّه سرعان ما كبح نفسه.
ففي سيداس كان من كبار النبلاء، يتقدّم بخطى ثابتة، أمّا هنا، في الإمبراطوريّة، فلم يكن سوى رسول دولةٍ مهزومة.
ثمّ إنّ خادمًا شابًّا في القصر الإمبراطوري، وخاصّةً في خدمة الإمبراطور، لا بدّ أن يكون من بيتٍ لا بأس بمكانته.
“تفضّل بالدخول.”
كان الرجل قد عدّل ثيابه مرارًا، حين عاد الخادم بعد أن تلقّى إشارةً من خادمٍ آخر، وأبلغه بذلك.
أومأ الرجل، وسوّى طيّات ردائه للمرّة الأخيرة.
انفتح الباب، وانسدل بساطٌ طويلٌ أحمر.
وفي نهايته، على منصّةٍ مرتفعة، ظهر العرش الذهبي، وجالسٌ عليه من يعتمر تاجًا من ذهب.
“مولاي، رسولُ سيداس.”
تقدّم الخادم خطوةً أمام الرجل، وانحنى بخشوعٍ عند أسفل المنصّة.
كان الإمبراطور يلفّ خصلات شعره الأسود الطويل بإصبعه، فلم يلتفت إلا حينها إلى الرجل، أي إلى الكونت ويبلّي، رسول سيداس.
“أحيّي شمسَ الإمبراطوريّة العظمى.
أتشرّف بالمثول بين يدي جلالة الإمبراطور.”
انحنى الكونت ويبلّي انحناءةً عميقة قبل أن يلتقي نظره بنظر الإمبراطور.
ولأنّه لم يرفع رأسه دون إذن، ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتي الإمبراطور.
“ارفع رأسك.”
قال الإمبراطور كيدريك بنبرةٍ متسامحة.
رفع ويبلّي رأسه ببطء، غير أنّ ظهره بقي منحنِيًا قليلًا.
ضحك الإمبراطور، وقد راق له هذا التزلّف، ثمّ قال:
“حسنًا. هات ما جئتَ به.”
“أحضرتُ الجزية التي أُمِرنا بها.
هذه قائمتها، تفضّلوا بالاطّلاع.”
قدّم الكونت كتابًا كان يحمله بكلتا يديه.
وبإيماءةٍ من الإمبراطور، تناوله أحد الخدم ورفعه أمامه.
تصفّح كيدريك الصفحة الأولى، حيث كُتِب إجماليّ الجزية.
كمّيّةٌ يصعب على دولةٍ صغيرة كسيداس توفيرها.
“اهتممت بالأمر.
حسنٌ.”
كان واضحًا كم من الشعب سُحِق ليُجمَع هذا القدر من الجزية بعد الحرب.
غير أنّ الإمبراطور، ولا الكونت ويبلّي، فكّرا في ذلك لحظةً واحدة.
‘جيّد. يبدو أنّ الإمبراطور راضٍ.
ستطمئنّ جلالة الملكة الأمّ.’
لم يكن الكونت ويبلّي سوى نبيلٍ وضيعٍ كان يدور في فلك بيانكا، أمّ الملك بريك.
لكن بعد أن صار بريك ملكًا، صعد نجم ويبلّي، فنال لقب الكونت بدعم بيانكا، وأصبح من أصحاب النفوذ في سيداس.
‘في المرّة القادمة، يمكنني أن أُهرّب المزيد.
يبدو أنّه يرضى بهذا القدر.’
كان من أكفأ أتباع بيانكا، لكنّ جشعه جعله لا يهتمّ إلا بمصلحته وحياته.
ولذلك، لم يكن ليعبأ بحياة العامّة، الذين كان يحتقرهم حتى حين كان مجرّد نبيلٍ صغير.
“وهذا، إلى جانب الجزية، عربون إخلاصٍ نقدّمه لجلالة الإمبراطور.”
“قطعةٌ لا بأس بها.”
قدّم ويبلّي صندوقًا فاخرًا.
فتح الخادم الصندوق، فظهر حزامٌ ملوّن مرصّع بالجواهر.
نظر الإمبراطور إلى الحرير المطرّز بالخيوط الذهبيّة، وابتسم أوسع.
“بلّغ ملكَ سيداس أنّني أقدّر إخلاصه.”
“نعم، سأبلغه فور عودتي.”
رفع الإمبراطور يده إشارةً إلى انصرافه، إذ لم يعد له حاجةٌ به.
لكنّ خاطرًا خطر له فجأة.
“سيداس، تقول…… آه، تذكّرت.
ألم تجلب من هناك امرأةً تُغري النظر؟
كانت عمياء، لكنّ وجهها لا بأس به…….”
لعق شفتيه وهو يتذكّر ييرينا.
كان خوفه من التغيّر الغامض في روشان قد خفّ قليلًا، لعدم صدور أيّ فعلٍ واضح منه.
وحين يشتدّ توتّره، كان الإمبراطور يفرغه غالبًا في إيذاء الضعفاء.
وغالبًا ما كانت الضحيّة إحدى خليلاته، أو خدمًا من أصولٍ وضيعة.
“أنتَ.”
“ن، نعم؟”
“أفي سيداس كثيرٌ من الجميلات مثل تلك الأميرة؟”
“…….”
“أعني، أهناك كثيرٌ من الزهور لتُقطَف وتُهدى إليّ؟!”
سأل الإمبراطور، وهو يبحث عن ضحيّةٍ لغضبه.
تأخّر ويبلّي في الفهم، ثمّ قال على عجل:
“لا تُقارَن بإمبراطوريّتك، ولكن إن رغبت، نختار ونرسل.”
“فكرةٌ جيّدة.
مللتُ رؤية الزهور نفسها كلّ يوم.”
كان حديثًا فاحشًا، لا يليق بإمبراطورٍ ورسول دولة.
قطّب بعض الخدم حواجبهم، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على الاعتراض.
“اختَر فتياتٍ رقيقات، بيضاوات البشرة، كالأميرة.”
“بكلّ تأكيد.”
“ويجب أن يكنّ عذراوات، طبعًا…….”
“نعم، نعم.”
تمادى الطاغية في فُحشه، وشاركه ويبلّي التزلّف.
“ولا أريد بضاعةً معيبة، مثل الأميرة.”
“…….”
“أفكّر الآن، أليس في ذلك قِلّة أدب؟
كيف تجرؤون على إرسال معيبةٍ ملعونة إليّ؟”
تغيّر وجه الإمبراطور فجأة.
شعر ويبلّي بقشعريرة، فسجد على الفور.
“أعتذر، جلالة الإمبراطور.
لم نكن نعلم أنّ الأميرة…….”
كان خبر لعنة ييرينا قد وصل إلى سيداس.
وقد ضحكت بيانكا ملء فمها حين علمت بحبسها في برج.
“احمدوا أنّكم أبقيتموها حيّة ببعض الإخلاص.”
“نحن ممتنّون لعفوك.”
رضي الإمبراطور بتذلّله، وراح يفكّر في أيّ خليلته سيُفرغ شهوته الليلة.
“همم……
سيستغرق الأمر أشهرًا ليأتوا بأخريات.
فمن تطيب لي الليلة؟”
لكنّه لم يجد بديلًا مناسبًا.
فقطب حاجبيه، ثمّ استشاط غضبًا من فكرة الانتظار.
“لا، لا…… لقد انشغلتُ كثيرًا ونسيتُ أمر الأميرة.
هينري!”
“نعم، مولاي.”
“اعرف حال لعنتها فورًا.
وإيّاك أن تتأخّر عن نصف ساعة، وإلا قطعتُ عنقك.”
كان الخادم يعلم أنّ الإمبراطور لا يخلف وعده في القتل.
ضحك كيدريك وهو يراقبه يركض، ثمّ لعق شفتيه.
وما هي إلا لحظات، حتّى عاد الخادم لاهثًا.
“هوه…… لقد ذهبت إلى المعبد.”
“جيّد.
أعلمني فور صدور النتيجة.”
ابتسم الإمبراطور، والتفت إلى ويبلّي.
“سيكون يومًا سعيدًا لك.
أميرة مملكتك الصغيرة ستنال شرف خدمة الإمبراطور.”
فكّر ويبلّي في قرارة نفسه، وهو ينظر إلى هذا الطاغية:
‘ملكٌ أحمق يتعثّر بالكلام ويجري إلى أمّه خيرٌ من خدمة مجنونٍ كهذا.’
—
لم تستطع ييرينا أن تنبس بكلمة.
كانت تسير ورأسها منكّس، تُمسِك بها جول وجال.
‘على المذنبة أن تُكثِر من العبادة.
فاللعنة النجسة لم تُرفَع بعد، هكذا قال الحاكم.’
وبّخها نائب الكاهن بصرامة.
لم تنفعها صلواتها ولا إخلاصها.
كانت تظنّ، قبل المثول أمامه، أنّها ستُسلَّم إلى الإمبراطور.
لكنّ توقّعاتها خابت، وعادت إلى البرج تنتظر مصيرًا مجهولًا.
التعليقات لهذا الفصل " 47"