“عَيْنايَ زَرْقاوانِ.”
“آه…… ومِمَّن وَرِثتَهُما؟”
“……مِن أُمّي.”
راحت ييرينا تُعيد تقليب ذلك الحوار القصير، وتُكمِل خيالها.
صحيحٌ أنّها لا ترى الآن، لكنّها في الماضي رأت من الزُّرقة ما لا يُحصى.
بحيراتٌ غامضة بلون الزُّمُرُّد، وسَماءٌ صافية لا يُدرَك علوُّها، وغابةٌ ساكنة عند الفجر يلفّها الضباب الخفيف.
كانت ذاكرتها محفورةً بكمٍّ هائل من الألوان الزرقاء الجميلة.
‘فأيُّها يُشبهه أكثر؟’
ندمت لأنّها خجلت من السؤال بتفصيلٍ أكبر.
راحت ييرينا تُلبِس الرجلَ الذي لا تعرفه إلّا بصوته أجمل الألوان التي تعرفها.
في خيالها، لم يكن ثمّة لونٌ لا يليق به.
وفي النهاية، لم تستطع كبح فضولها، فسألت جين.
“جين، أيُّ درجةٍ من الأزرق لونُ عيني السيّد كيان؟
هل هو أزرق داكن؟
أم ذاك الذي يمتزج فيه الرماديّ؟”
كانت جين تبتسم لِما بدا على ييرينا من تحسُّنٍ في المزاج، لكنّ ملامحها تصلّبت عند السؤال.
الأميرة العمياء خُدِعَت مرّةً أخرى.
فلونُ عيني الرجل الذي تُسمّيه فارسًا كان على النقيض تمامًا من الأزرق.
لكن كيف لها أن تُخبِرها بالحقيقة؟
تلعثمت جين قائلةً.
“لم أُدقِّق النظر فيه جيّدًا…….”
“يبدو أنّكِ تتحفّظين كثيرًا مع السيّد كيان.
هل لأنّ طبعه صارم بعض الشيء……؟”
“…….”
“في الحقيقة، أنا أيضًا في البداية كنتُ…….”
توقّفت ييرينا عن الكلام، وقد كانت تبتسم وهي تُفكِّر فيه.
تغيّر تعبيرها، وأظلم وجهها فجأة.
‘ما الذي أفكّر فيه الآن……؟’
أن تقضي يومها كلّه وهي تفكّر برجل، لا بسِداس المتداعية،
وفوق ذلك رجلٌ من فرسان الإمبراطوريّة……
اجتاحها اشمئزازٌ من نفسها.
عضّت ييرينا شفتها حتّى سال الدم، ثم قالت لجين.
“……جين، أظنّ أنّه حان وقت النوم.
اذهبي أنتِ أيضًا واستريحي.”
أجابت جين بالموافقة دون تعليق، متأثّرة بجدّية صوت ييرينا، وغادرت.
ما إن خرجت حتّى دخلت ييرينا غرفة نومها واستلقت.
كانت تريد أن تنام سريعًا.
أن تُنهي هذا اليوم، وأن تُنهي نفسها اليوميّة.
لكنّ النوم أبى أن يأتي،
وظلّت العيون الزرقاء تُبدِّل ألوانها وتطفو في رأسها بلا انقطاع.
—
“ليس ثمّة ما يدعو لقلقكِ، السيّدة ييرينا.
يكفي أن تلتزمي بالدعاء كما يأمر نائب الكاهن…….”
“أعلم.
في النهاية، سيُتَّخَذ القرار، أليس كذلك.”
نهضت ييرينا فجأة وهي تستمع، ثم جلست من جديد.
لم تهدأ يداها لحظة، وكان قلقها ظاهرًا للعيان.
“لكن……
أليس هناك شيءٌ ينبغي أن أنتبه له؟
مثلًا، لو أخطأتُ في نصّ الدعاء، هل قد يسبّب ذلك مشكلة؟”
سألت ييرينا بعد طول تردّد.
غدًا ستغادر هذا المكان لتخضع للفحص بشأن اللعنة.
وإن قيل لها إنّ اللعنة زالت، فستُساق مباشرةً إلى الإمبراطور، لا محالة.
“وما جدوى ذلك؟”
كانتأليسياتعرف سبب قلق ييرينا،
لكنّها أجابتها ببرود.
تجمّدت ييرينا لحظة، غير أنّأليسياتابعت دون اكتراث.
“أنتِ لا تؤمنين بحاكمالنور ولا باللعنة أصلًا، أليس كذلك؟
فما الذي سيتغيّر إن أخطأتِ في دعاءٍ واحد؟”
كان سؤالًا في الظاهر، غير أنّه في حقيقته أقرب إلى التوبيخ.
أشارتأليسياإلى تناقض ييرينا التي ترغب في زوال اللعنة، ومع ذلك لا تؤمن بها ولا بالحاكم.
ولأنّها لم تكن على خطأ، آثرت ييرينا الصمت.
“أعلم أيَّ نتيجةٍ تتمنّين.
لكن لا شيء يمكنكِ فعله بنفسكِ.”
“…….”
“لذلك انتظري.
فأيًّا كان ما سيحدث، فهو إرادةُ.”
قالتأليسياإنّه لا شيء بيد ييرينا تجاه قرار الغد سوى الانتظار.
وكان كلامها صحيحًا، ومع ذلك عضّت ييرينا شفتها بغيظ، ثم أرخَت كتفيها.
كان فريدريك يستمع من بعيد وقد عقد حاجبيه.
كان قد لاحظ منذ زمنٍ برودةأليسياتجاه ييرينا، لكنّها اليوم بدت أشدّ قسوة.
“لقد تجاوزتُ حدّي.
أرجو أن تعذري فظاظتي.”
لعلّها شعرت بنظرات فريدريك، إذ تنفّستأليسيابعمق واعتذرت.
هزّت ييرينا رأسها قائلةً.
“……لا بأس.
ليس في كلامكِ خطأ.”
غير أنّ صوتها كان واهنًا.
ووجهها الشاحب الخالي من الدم جعلها تبدو كمريضة.
كان نقشُ العين المعصوبة على عصابةأليسياموجّهًا نحو ييرينا مباشرةً.
“أعطيني يدكِ.”
مدّتأليسيايدها.
تردّدت ييرينا لحظة، ثم أطاعتها.
وحين أمسكتأليسيابيدها، أطلقت زفرةً عميقة.
كانت يدُ ييرينا باردةً كالجليد.
“جين.
أحضري شايًا دافئًا.”
انحنت جين وهرولت.
حاولت ييرينا سحب يدها، لكنّأليسياأوقفتها.
“ابقِي هكذا قليلًا.”
اشتدّ قبضأليسياحتّى شعرت ييرينا بالألم وقطّبت حاجبيها.
“أليسيا.”
وفي اللحظة التي نطقت فيها باسمها،
شعرت ييرينا بشيءٍ ينساب عبر اليد الممسوكة.
كالماء، كنسمةٍ عابرة.
وفجأة، أضاء أمامها شيء.
‘هاه؟’
تراءى لها وميضٌ ذهبيّ في عينيها العمياء،
ثمّ تشكّل ضوءٌ غامض.
لم يكن لونًا ولا شكلًا واضحًا،
لكنّه بدا كضوء قمرٍ محجوب بالغيوم في ليلٍ دامس.
رمشت ييرينا مرارًا،
فعاد الظلام الذي اعتادته.
أغمضت عينيها وفتحتهما، لكنّ العتمة بقيت.
‘وهمٌ لا أكثر.’
أسقطت الأمر،
وبعد قليل، أفلتتأليسيايدها.
“السيّدة ييرينا، اعتني بنفسكِ.
أن يُستنزَف هذا القدر من القوّة يعني أنّ صحّتكِ ليست على ما يُرام.”
انقطع التيّار الغريب،
لكنّ جسدها دَفُئ،
وشعرت بنشاطٍ خفيف.
لم تكن ييرينا تؤمن بإلهة النور،
لكنّها لم تستطع إنكار قوّة أليسيا.
“شكرًا لاهتمامكِ.
أشعر براحةٍ أكبر.”
“إنّها قوّة لا أستطيع استعمالها كثيرًا.
على أيّ حال، حان وقت الطعام.
سأستأذن الآن.”
نهضتأليسياعلى عجل.
لاحظت ييرينا استعجالها، لكنّها لم تُعلّق.
“سأراكِ غدًا باكرًا.”
انحنتأليسياوغادرت فورًا،
حتّى إنّها لم تردّ تحيّة جين التي جاءت بالشاي.
—
“السيّدة أليسيا؟”
تفاجأت جال وجول برؤيتها عند مدخل البرج.
أشارت لهماأليسياأن تتبعاها، ثم اندفعت خارجةً بسرعة.
في المعبد داخل القصر، وقد وصلن أبكر من المعتاد،
سألتها جال وهي تلهث.
“ما الأمر؟
لماذا كلّ هذا العَجَل؟”
“لا شيء.
أريد أن أكون وحدي.
عودوا.”
تابعتاها بقلق.
“لكن…….”
“عودوا!”
صرخت أليسيا.
تبادلت جال وجول نظرة، ثم انسحبتا.
دخلتأليسيامقرّها،
وأغلقت باب غرفة الصلاة بقوّة.
فتحت درجًا، وأخرجت صندوقًا خشبيًّا.
في داخله أوراقٌ متفحّمة.
ركعت أمام التمثال.
وأضاء نورٌ ذهبيّ جسدها، مركّزًا عند عينيها.
أزالت العصابة، وراحت تقرأ.
وحين انتهت من نصفها، انهارت.
زحفت، جمعت الأوراق، ونظرت إلى التمثال.
“…
الآن فهمتُ إرادتكِ.”
كان صوتها مرتجفًا،
لكنّ مشاعرها كانت نشوةً وجنونًا.
“لقد منحتِني الفرصة.
أبقيتِه حيًّا لأُعاقِبه بيدي.”
انحنت،
وشبكت يديها كمن يصلّي،
وهمست.
“على المنتقِم أن يكون مستعدًّا لخسارة كلّ شيء،
وللسقوط في قاع الجحيم…….”
التعليقات لهذا الفصل " 45"