الفصل السادس: الإدراك.
أدركت ييرينا، وهي تنظر إلى النساء اللواتي ينهَرْنَ يأسًا أمامها، حقيقةً واحدة.
إنّها الآن تحلم.
منذ متى بدأ ذلك؟
منذ فترةٍ غير بعيدة، بدلًا من عائلاتها الراحلة، صار أسلاف سيداس—وبالتحديد الأميرات—يظهرن في أحلامها.
“أمّاه! أمامي… لا أرى! لا أرى شيئًا!”
“عينيّ… عينيّ غريبتان! أحضروا الطبيب حالًا!”
“لا أستطيع العيش هكذا! لماذا يحدث لي هذا… آه، امنحيني الرحمة!”
“آآآه! هذا غريب! لا أرى شيئًا!”
على عكس ييرينا التي كانت ترى في الحلم، كانت الأميرات كلّهنّ عميَات، يجهلن ما يفعلن.
إحداهنّ أسقطت تاجها الذهبيّ الفاخر وبكت بانهيار.
وأخرى تمسّكت بطرف فستانها الأنيق، متظاهرةً بالتماسك، لكنّ وجهها كان شاحبًا أزرق.
وكانت هناك أميرة صغيرة، بالكاد بدأت تمشي، انفجرت بالبكاء.
بدون تدقيق، بدا أنّ لا قاسم مشترك بينهنّ.
لكن عند النظر مليًّا، كان هناك أمرٌ واحد يجمعهنّ جميعًا.
كلهنّ كنّ صغيرات السنّ أو شابّات.
غالبتهنّ لم يبدُ أنّهنّ بلغن العشرين أصلًا، فضلًا عن الثلاثين.
حين قاست ييرينا ذلك على عمرها، وقد تجاوزت العشرين، اجتاحها شعورٌ بالقشعريرة.
“كلّ هذا ذنب أمّي!”
“وفاة أبي! وعمى عينيّ!”
بينما كانت تحدّق في الأميرات الغارقات في اليأس، تغيّر المشهد أمامها دون أن تشعر.
هذه المرّة، كانت ترى حياة الأميرة التي أسقطت تاجها وبكت.
رأت تلك الأميرة تصرخ في وجه امرأةٍ بدت وكأنّها أمّها، تشتمها وتنهار.
كان حلمًا رأته من قبل.
وتعرف ما سيأتي بعده.
“لا!”
صرخت ييرينا.
لكنّ صوتها لم يصل إلى أحد.
والأميرة التي فقدت تاجها أقدمت على الانتحار أمام شجرة لوبيو المقدّسة.
رأت ييرينا الدم يتدفّق من صدرها المطعون، ويتسرّب إلى جذع الشجرة، فعضّت شفتها.
كانت نهايات الأميرات اللواتي رأتهنّ في الأحلام كلّها بهذه البشاعة.
عيونٌ بيضاء جامدة، دمٌ أحمر، نعيق غربان…
تساقطت أوراق شجرة لوبيو الحمراء كالمطر.
أغمضت ييرينا عينيها وهي ترى إحدى السلف محجوبةً جزئيًّا بالأوراق.
ثمّ استفاقت فورًا من الحلم.
‘حلمٌ مشابه مرّةً أخرى…’
الغريب أنّ الحلم، الذي كان واضحًا إلى هذا الحدّ قبل لحظات، تلاشى بسرعةٍ مخيفة.
لم يبقَ في ذاكرتها سوى أنّه يتعلّق باللعنة الموجّهة إلى الأميرة المتلألئة،
وأنّها حين تحلم، تتذكّر أحلامًا سابقة داخل الحلم نفسه.
أمّا التفاصيل الأخرى، فقد اختفت على نحوٍ مريب.
لكن أثر المشاعر بقي كما هو.
أمسكت ييرينا صدرها المتألّم، وعضّت شفتها بقوّة.
‘هل لأنّي متوتّرة أحلم بمثل هذه الأحلام الغريبة…؟’
بعد أسبوع، قيل إنّها ستغادر البرج مؤقّتًا لتخضع لفحصٍ على يد الكاهن الأعظم، ليتأكّدوا إن كانت اللعنة قد زالت.
وإن ثبت زوالها، فستُستدعى لمقابلة الإمبراطور.
“بعد أسبوع، ستغادرين هذا المكان مؤقّتًا.”
“لماذا؟”
“صدر أمرٌ من الإمبراطور، للتحقّق ممّا إذا كان الحاكم قد منحتكِ الرحمة وأزال اللعنة.”
“…”
“سيتولّى الكاهن الأعظم بنفسه فحص اللعنة.”
“وبعد صدور الحكم، سيُقرَّر إن كنتِ ستبقين هنا أو تُنقَلين إلى مكانٍ آخر.”
أيّ تعبيرٍ ارتسم على وجهها حينها؟
لم تستطع ييرينا تعريف شعورها في ذلك الوقت.
من أجل المملكة، كان عليها أن تتقرّب من الإمبراطور دون تردّد.
لكنّ نفورها من تلك الحياة كان يزداد يومًا بعد يوم.
كانت توبّخ نفسها، معتبرةً ذاتها أنانيّة.
لكنّ ذلك كلّه كان نابعًا من جهلها بالحقيقة.
الإمبراطور، الذي ظنّ أنّ روشـان يطمع بالعرش، نسي أمرها مؤقّتًا.
غير أنّ المعبد، خشية تقلّبات الإمبراطور، قرّر على الأقلّ إجراء فحصٍ شكليّ لها.
في الواقع، كانت نتيجة الفحص محدّدة سلفًا.
بعد إجراءٍ صوريّ، ستُعاد ييرينا إلى البرج.
لكنّها، وهي تجهل أنّ كلّ ما يحيط بها ليس سوى خدعة، تنهدت طويلًا، ثمّ أغمضت عينيها من جديد.
—
كان ضوء الشمس المتسلّل من النافذة دافئًا.
لكنّ ييرينا، الجالسة في مكانٍ مشمس، كانت ترتجف بوجهٍ شاحب.
وحين رأت جين حالتها المتعبة، لفّت حولها بطّانية وأشعلت المدفأة.
“سمعتُ أنّكِ بالكاد تناولتِ طعامكِ.”
“هل حالتكِ سيّئة إلى هذا الحدّ؟”
لم يكن كيان ممّن يكتفون بالمشاهدة.
اقترب منها وفحص حالتها فورًا.
ابتسمت ييرينا ابتسامةً باهتة، وهزّت رأسها.
“لا، ليس كذلك.”
“أنا فقط أشعر بدوارٍ بسيط… ومتعبة قليلًا.”
“…هل سريركِ غير مريح؟”
همّت بهزّ رأسها نفيًا، ثمّ غيّرت رأيها وأومأت.
ودعته أن يجلس أمامها، وفتحت فمها بصعوبة.
“لديّ سؤال، أيّها الفارس.”
“ما هو؟”
“ذاك… هل يمكنك أن تخبرني عن إمبراطور الإمبراطوريّة؟”
“كما تعلم، أليشا لا تخبرني إلّا بأمورٍ تتعلّق بالحاكم، وجين لا تعرف الكثير عن شؤون القصر.”
قالت ذلك وهي تراقب تعابير وجهه.
فتجمّد وجه الفارس الجالس أمامها.
وحين طال صمته، شعرت ييرينا بالقلق، فسارعت بالكلام.
“سأخضع لفحصٍ على يد الكاهن الأعظم بعد أسبوع.”
“ليتأكّدوا إن كانت اللعنة قد زالت أم لا…”
“…”
“وإذا تأكّدوا من ذلك، فسأقابل إمبراطور الإمبراطوريّة… جلالة الإمبراطور.”
“أردتُ فقط أن أعرف عنه قليلًا مسبقًا.”
“أيّ نوعٍ من الرجال هو، وما الذي يجب أن أحذره… هذا كلّ شيء.”
خشيت أن يكون منزعجًا من طريقتها في الإشارة إلى الإمبراطور، فغيّرت اللقب قسرًا، وتابعت أسئلتها.
لكن كلّما أطالت الكلام، ازداد وجهه برودة.
“لا أستطيع الإجابة.”
“كيف لي، وأنا مجرّد فارس، أن أتحدّث عن جلالة الإمبراطور بطيش؟”
قالها ببرود، موجّهًا كلامه إلى ييرينا المتوتّرة
بدت عليها علامات الجرح للحظة، ثمّ غيّرت تعبيرها وأومأت.
“كان طلبًا غير لائق.”
“أنا آسفة.”
“لم أفكّر جيّدًا.”
كان جسدها المنكمش يبدو هشًّا.
عضّ الفارس شفته السفلى، وقد تأثّر بصوتها الخافت وحركاتها الخالية من الثقة.
‘أيّ بلدٍ تافهٍ ذاك الذي أرسلها أسيرة…؟’
كان غاضبًا لأنّها لا ترفض الإمبراطور.
حتى لو كان من أجل الوطن، ومع ذلك…
كانت تكرهه لأنها، رغم اشمئزازها الواضح، تفكّر بأن تدخل غرفة نوم الإمبراطور بقدميها.
وحين تخيّلها إلى جانبه، فاض غضبه.
نهض فجأة.
تحرّكت الأريكة بصوتٍ حادّ، فارتعبت ييرينا، ورفعت عينيها العمياء على اتّساعها.
“كـ، كيان.”
“هل أنت غاضب إلى هذا الحدّ؟”
“…”
“سيدي؟”
لم يُجب، واكتفى بالنظر إليها.
رأى في ملامحها قلقًا من أن يرحل.
فهدأ قليلًا، ثمّ عاد وجلس.
“ييرينا.”
“…”
“ألا يوجد ما تودّين معرفته عنّي أنا؟”
—
“عينيّ… لماذا…؟”
“أخي… أرجوك، اعثر على طريقة.”
“أعد إليّ بصري.”
كانت الأميرات العميَات يظهرن حتّى في غفوةٍ قصيرة.
غلبها النعاس وهي تجلس تخرز الخرز، فانحنى رأسها، وسقطت في كابوس.
ثمّ استفاقت مذعورة حين لمستها يدٌ برفق.
“بدوتِ وكأنّكِ ترين كابوسًا.”
“فتجاوزتُ حدودي ولمستُكِ.”
لو كان فارسًا عاديًّا، لأمر جين بذلك.
لكنّ ييرينا، التي كانت تعاني من كوابيس طوال الليل ثمّ نامت نهارًا، لم تكن في وعيها الكامل.
وفوق ذلك، كان هو كيان.
فابتسمت له وقالت:
“سيدي.”
“قلتَ لي سابقًا إنّ سبب عمى أميرات سيداس قد يكون مرضًا، أليس كذلك؟”
“…”
“هذا خطأ.”
“إنّه لعنـة.”
“…”
“أسلافنا جميعًا انتهَينَ عميَات وبنهاياتٍ مأساويّة.”
“رأيتُ ذلك.”
“حتّى قبل قليل… آه.”
ربّما لأنّها لم تستفق تمامًا، بدأت بعض التفاصيل تتشكّل في ذهنها.
لكنّها تلاشت وهي تتكلّم، فلم تستطع إكمال الحديث.
“…هذا غريب.”
“لا أتذكّر مجدّدًا.”
“هل أصاب رأسي شيء؟”
ضحكت بخفّة وهي تتحدّث عن حلمٍ نسيته.
وكان الفارس يحدّق في تعابيرها الغارقة في نعاسٍ حلو.
عينان نصف مغمضتين، رموش تُلقي ظلًّا، شفتان منفرجتان قليلًا، وجسد مسترخٍ بلا قوّة.
لم يكن فيها شيء غير آسر.
وفي اللحظة التي عجز فيها عن صرف نظره، سعلت ييرينا فجأة.
نهض وكأنّه أفاق.
“سأجلب لكِ ماءً.”
“انتظري.”
هزّت رأسها نفيًا، وأشارت إليه ألّا يذهب.
ثمّ ما إن توقّف سعالها حتّى نادته.
“سيدي.”
“تفضّلي.”
“قد لا أتذكّر.”
“لكن هناك أمرًا واحدًا أنا متأكّدة منه.”
“أنا…”
كان صوتها مبلّلًا.
فقد أنهكتها الكوابيس، جسدًا وروحًا.
وكان الأشدّ وطأةً أن ترى موت الآخرين، وربّما موتها المستقبليّ، مرارًا في أحلامها.
“سأموت.”
“ربّما وأنا عمياء هنا كأسيرة…”
“أو ربّما يُقطَع عنقي في غرفة نوم إمبراطورك اللعين…”
“…”
“لكن المؤكّد أنّني سأموت عمياء وبصورةٍ بائسة.”
غطّت وجهها بيديها، وتفوّهت بسبابٍ لا تكاد تصدر عنها.
وتسرّبت دموعها الشفّافة بين أصابعها.
صرّ الفارس على أسنانه، وقد بدا وكأنّه تلقّى ضربةً على رأسه.
قبض يده حتّى ابيضّت، وهمس بصوتٍ منخفضٍ قاتم:
“…أما زلتِ تتناسين الوعد الذي قطعتِه لي؟”
التعليقات لهذا الفصل " 43"