كان الناس يتهامسون بأنّه فُتن بليليانا وارتكب أفعالًا حمقاء، غير أنّ ما في صدر كيدريك كان مختلفًا قليلًا.
صحيح أنّ مظهر ليليانا، كوردةٍ ورديّة، قد سحره فعلًا، لكنّ ما طمع فيه أكثر كان قوّة النبلاء التي يملكها والدها، دوق داي.
فلو وقف ذلك الدوق في صفّه، لظنّ أنّه سيتمكّن أخيرًا من الوقوف في مواجهة روشان، ولو بدرجةٍ ما، كأميرٍ شرعيّ.
ومع ذلك، حتّى بعد أن صار إمبراطورًا ونال ليليانا زوجةً له، لم تخفّ عقدته، بل تعمّقت يومًا بعد يوم.
مدّ كيدريك يده وأمسك معصم ليليانا التي نهضت، وجذبها نحوه.
رمقته ليليانا بنظرةٍ حادّة وقد تقلّص وجهها دهشةً وغضبًا.
قبّل كيدريك قفّازها قبلةً سريعة، ثمّ لوى شفتيه بابتسامةٍ مشوّهة.
“صحيح. أنا أحمل نصف الدم نفسه الذي يحمله روشان، لكنّ بيننا اختلافاتٍ كثيرة.
غير أنّ ثمّة أمرًا واحدًا أنا واثقٌ أنّنا نتشابه فيه.”
“…….”
“أنا أكره النساء الخفيفات.
تلك الأنواع لا يليق بها سوى قطع الرؤوس وتعليقها على الرماح.
ولم أسأله مباشرة، لكنّ روشان بدوره سيشمئزّ من مثل تلك النساء.
وخاصةً امرأةٌ خانت خطيبها، طمعت في أن تصبح إمبراطورة، ثمّ ارتمت في أحضان أخيه غير الشقيق. امرأةٌ قذرة كهذه.”
عضّت ليليانا شفتها السفلى بقوّة، وانتزعت يدها بعنف.
شعرت بنظرات الناس تتجمّع شيئًا فشيئًا على شجار الإمبراطور والإمبراطورة.
ألقت ليليانا نظرةً جانبيّة على من يراقبون، ثمّ ابتسمت ابتسامةً متكلّفة وقالت:
“أتمنّى ألّا نلتقي بوجوهنا بعد الآن هذا اليوم.”
ولم تنتظر ردًّا، بل استدارت على الفور.
جلس كيدريك على العرش، يراقبها وهي تتّجه نحو أخيه غير الشقيق، وهمس في داخله:
‘سأقتلهم جميعًا يومًا ما.
كلّهم بلا استثناء!’
—
ابتعد ضجيج الوليمة شيئًا فشيئًا.
كان روشان ينزل الدرج الذي يصل الممرّ بالحديقة، يتأمّل زنابق من النوع نفسه متفتّحة في أرجاء المكان.
وحين تذكّر أنّه لم يرَ هذه الزنابق في موسمها المعتاد، خمن أنّها من الأنواع النادرة التي لا تزهر إلّا في هذا الوقت.
‘لا بأس بها. يجب أن أطلب جمعها.’
كانت أزهار الزنابق أصغر من المعتاد، وأسديتها طويلة، وبتلاتها شبه شفّافة.
غير أنّ كثرتها على الساق الواحدة جعلت منظرها لطيفًا للنظر، كما أنّ عطر الزنبق الثقيل كان خافتًا للغاية، ممّا جعلها أنسب للتأمّل.
“……إلى أين تنوين متابعتي؟”
توقّف روشان عند مكانٍ ازدحمت فيه الزنابق، فنطق بهدوء.
ومن خلفه، خرج شخصٌ ببطء من بين أشجار السرو المشذّبة.
حين استدار روشان، تقدّمت المرأة بخطواتٍ رقيقة، ويداها مشبوكتان.
تألّق على شعرها الورديّ، الذي يلفت النظر حتّى في الليل، حليٌّ شبكيّ مرصّع بالجواهر، كأنّه نجوم.
[حَتخليني أكره الشعر الوردي 🚶♀️]
“منذ متى لم نلتقِ هكذا على انفراد…….”
همست بصوتٍ واهنٍ مبلّلٍ بالعاطفة، حتّى بدت الدموع معلّقة في عينيها.
لكنّ روشان، وقد قُطع عليه هدوؤه، اكتفى بالنظر إليها بوجهٍ خالٍ من التعبير.
“هل تعلم كم اشتقتُ إليك؟
وكم قلقتُ عليك؟
لم أستطع حتّى أن أنام ليلًا، وأنا أفكّر في وليّ العهد.”
تقدّمت خطوةً أخرى، وأطلقت زفرةً طويلة.
بدت، في حديقة الليل، كزهرة نسيان.
لكنّ روشان ظلّ صامتًا.
تردّدت ليليانا لحظةً، ثمّ نادت اسمه بعينين دامعتين:
“روشان.”
“…….”
“أما زلتَ تكرهني؟
أما زلتَ عاجزًا عن مسامحتي؟”
“…….”
“أفهم إن كرهتني.
لكن كم مضى من السنين الآن؟”
وقد تعلّقت به تمامًا، رفعت رأسها نحوه.
تراجع روشان خطوةً وهو يقطّب جبينه قليلًا أمام عينيها الزيتونيّتين اللتين التصقتا به بإلحاح.
“أنت تعرف كم أشعر بالذنب. أليس كذلك؟”
لم يكن هذا المشهد جديدًا على روشان.
فحين يكونان وحدهما، كانت ليليانا دائمًا تتصرّف كعاشقةٍ مفجوعة افترقت عن حبيبها ظلمًا.
“ثمّ إنّ الأمر آنذاك لم يكن بيدي.
كنتُ صغيرة…… ولم يكن أمامي سوى طاعة أمر أبي.”
لكنّ الحقيقة كانت شاذّة.
فليليانا، التي تظاهرت بأنّها انفصلت عن روشان مكرهةً وتزوّجت كيدريك، كانت، في زمن خطوبتها لروشان، تلتقي كيدريك سرًّا.
وحين أصبح مؤكّدًا أنّ روشان سيتنازل عن ولاية العهد، وأنّ كيدريك سيصير إمبراطورًا، سارعت بالزواج منه.
بل إنّ أعلى الأصوات المطالبة بزواجها من كيدريك كانت صوتها هي.
أمّا والدها، فكان متردّدًا، راغبًا في تأجيل زواج ابنته الوحيدة ريثما يتّضح لمن ستكون الغلبة.
“أنا آسفة، حقًّا.
لكن ألا يمكنك أن تسامحني؟”
غير أنّ زواجها من كيدريك بدأ يتصدّع منذ أيامه الأولى.
وحين أوشك على الانهيار، راحت تتقمّص دور بطلةٍ مأساويّة.
امرأةٌ نبيلة أجبرتها الظروف على ترك من تحبّ والزواج برجلٍ آخر.
وكانت تؤمن بذلك من أعماقها.
“مهما كان الوضع، قلبي لم يتغيّر.
آنذاك والآن، أنا…….”
“صاحبةَ الجلالة الإمبراطورة.”
حين مدّت ليليانا يدها المرتجفة، تراجع روشان خطوةً كبيرة، مناديًا إيّاها بلقبها.
وضعت ليليانا يديها المتشابكتين على صدرها، ونظرت إليه بوجهٍ حزين.
“ما الذي تطلبينه منّي؟”
“آه، أنت تعرف.”
تلوّت ليليانا قليلًا، متلعثمةً، وقد بدت خجلى في الظاهر، لكنّ إشاراتها كانت واضحة.
كانت امرأةً متزيّنة ترسل دعوةً مريبة.
“ألا تخشين ما سيحدث لو علم الإمبراطور؟”
“ذلك الرجل……!”
“…….”
“أما سمعتَ الشائعات؟
لم أعد امرأةً له.
وهو لم يعد رجلًا لي.
حديقته مليئة بالنساء، لكنّي لا أريد أن أستلقي في الفراش نفسه مع أولئك القذرات.
يا روشان…… ألا تستطيع أن تواسيني قليلًا؟”
“يبدو أنّ المقعد الذي تجلسين عليه الآن هو الأثمن لديكِ.
هل جئتِ وأنتِ مستعدّة للتخلّي عنه؟”
“ذلك…….”
للمرّة الأولى، انعقد لسان ليليانا.
لم تستطع أن تجيب عن سؤال التخلّي عن لقب الإمبراطورة.
لكنّها، في الوقت نفسه، لم تستطع أن تتخلّى عن الرجل الذي كان يومًا لها.
إذًا، لم يبقَ سوى طريقٍ واحد.
إمّا أن يصبح روشان إمبراطورًا ويتّخذها زوجةً، أو أن يبقيا في علاقةٍ سرّيّة.
‘لو صار روشان إمبراطورًا…… فسوف تضعف قوّة عائلتي.’
لذلك رأت أنّ الخيار الثاني هو الأصوب.
“يقولون إنّ من يقع في الحبّ لا يفكّر في غيره.
فلنكن كذلك نحن أيضًا.
دعنا نفكّر في حاضرنا فقط.”
قالت ذلك بصوتٍ حلوٍ يقطر عسلًا.
لكنّ روشان تمتم، غير معنيٍّ بها:
“حبّ…… كلمةٌ مثيرة للخجل.”
ارتسمت ابتسامةٌ ناعمة على شفتيه.
وفي اللحظة التي تغيّر فيها جوّه، مدّت ليليانا ذراعيها لتعانقه.
“لا تخجل…… آه!”
لكنّها لم تعانقه.
تفادى روشان عناقها بخطوةٍ جانبيّة، ونظر إلى زنابق تتمايل مع النسيم وقال:
“كلام الإمبراطور صحيح.”
“ماذا تقصد؟”
“كنتُ أظنّ أنّه لا شيء يجمعني بالإمبراطور.
لكن يبدو أنّ ثمّة قاسمًا مشتركًا واحدًا.
وهو أنّنا لا نهتمّ بامرأةٍ تتنقّل بين الإخوة.”
تجمّد وجه ليليانا لثوانٍ، ثمّ احمرّ فجأة.
‘لكنّه كان بعيدًا…… كيف سمع؟’
تحوّل الارتباك والعار في ملامحها إلى غضبٍ عارم.
ارتجفت وهي تصرخ:
“تريدني أن أعود بسبب تلك المرأة، أليس كذلك؟”
توقّف روشان نصفَ استدارة.
وأضاءت عينا ليليانا بجنون.
“تلك الأسيرة من سِيداس، التي أخفيتها في البرج.
قد تخدع الإمبراطور، لكنّك لن تخدعني.”
“…….”
“غنيمة حرب، ومع ذلك تتنزّه برفقة فارسٍ رفيع داخل القصر.
هل ما زال السير فريدريك يحرسها؟”
كانت الغيرة تلتهم ليليانا.
لكنّها لم تكن تعلم أنّ الرجل الذي أمامها كان يتردّد عليها عبر ممرٍّ سرّي، متنكرًا، حارسًا لها.
“حتى حديث اللعنة لم يجعلك تقتلها…… لا بدّ أنّها جميلة جدًّا.
لكنّ تلك الخرافات لا تنطلي عليّ.
إنّها ساحرة! اقتلها فورًا……!”
“صاحبةَ الجلالة الإمبراطورة.”
تقدّم روشان بخطوة، فنظرت إليه ليليانا مذعورةً حين رأت عينيه الحمراوين عن قرب.
لم يتغيّر تعبيره، لكنّ قشعريرةً سرت في جسدها، وصاح صوت البقاء في داخلها: اهربي.
“أمّي كانت تقدّركِ كثيرًا.
أكثر ممّا قدّرتني أنا.”
قالها فجأة.
كانت كاميلّا، الإمبراطورة السابقة، تحبّ ليليانا حبّ ابنة، وتستدعيها إلى القصر يومًا بعد يوم، بينما كانت تكره روشان بلا رحمة.
وبفضل ذلك، صارت ليليانا خطيبة روشان بسهولة.
غير أنّ كاميلّا كانت تعتذر لها مرارًا لأنّها ربطتها بـ’وحش’.
منذ طفولتها، نشأت ليليانا معتدّة بنفسها، ترى ذاتها كاملةً لا تليق إلّا بأن تكون مطلوبة من الجميع.
وكانت ترى بعينيها كاميلّا تضرب روشان ضربًا وحشيًّا، لا يشبه تأديب ابن، بل تعذيب حيوانٍ جامح، حتّى تتناثر الدماء واللحم.
التعليقات لهذا الفصل " 41"