4
”إن شمس إمبراطورية فيستيوس العظيمة الخالدة، الإمبراطور، قد أجزل العطاء بجوده، ليبقى صيت سيداس شامخًا. بيد أن مملكة سيداس باتت مأمورة بالنظر إلى إمبراطورية فيستيوس بعين التبجيل من الآن فصاعدًا، ولزام على ملك سيداس أن يقسم يمين الولاء والطاعة لجلالة الإمبراطور.”
انبعث صوت ‘هايدن’ كالرعد، يدوي من فوق المنصة المحتلة في قلب القاعة.
كان منظره يوحي بالصّلابة والعناد، بشعره الفضي المنسدل على هيئة باردة، وتلك العينين الطويلتين والحادتين. وحين نطق بنبرة جليدية، ارتفعت زفرات الأسى والعويل من شتى أرجاء المكان.
”آه، لِم التجرع المر..؟”
“الهي، اغث سيداس برحمة من لدنك.”
كان النبلاء وبلاط مملكة سيداس هم من اطلق صرخات الالم تلك. لكن الناطقين بمشاعرهم كانوا قلة، فمعظمهم اعتراه الذعر، فنكس رأسه في صمت مهيب، ولم يغادر عيونهم سوى الدمع الهتون.
لم يستطع بعض الفرسان الذين استولوا على منصة القاعة، ومن ضمنهم ‘فردريك’، اخفاء ابتسامة الازدراء تجاه الحاضرين. كانوا ينظرون الى اهل الدولة المهزومة وهم محمولون بنشوة العلو ولذة الانتصار.
قبض بعض فتيان المملكة اليافعين ذوي الحماسة على قبضاتهم احتجاجًا، لكن لم يجرؤوا على المضي ابعد من ذلك.
فآباء فقدوا ابناءهم الكبار تشبثوا بأبنائهم الصغار الذين نجوا بشق الأنفس، خشية ان تسقط اجسادهم الهزيلة تحت سيوف فرسان الامبراطورية.
مر الزمان، وخفت صوت البكاء القليل ايضًا.
تمسح ‘هايدن’ حلقه، ثم التفت الى ما ورائه. في المقعد الاعلى في القاعة، ذلك الذي كان ذات يوم عرشًا لملك سيداس، اتخذ قائد الغزاة ‘روشان’ مقعده.
بنظرة سئمة، اومأ بيده لتابعه الذي يرنو اليه، آمرًا اياه باستكمال المهمة.
”فليتقدم ملك المملكة الجديد.”
انحنى ‘هايدن’ بتوقير عميق لـ ‘روشان’، ثم استدار من جديد. نادى صوتًا جهوريًا على شخص ما.
اثر ذلك، شق اثنان طريقهما بين حشود نبلاء مملكة سيداس المجتمعين اسفل المنصة.
شاب ذو شعر احمر، وامراة كهلة تحمل الشعر ذاته. كان الشبه بينهما باديا للعين.
”من هما هذان…؟”
“…اليست هي امرأة آل ويرغو وابنها الذي لم ينسب لأبيه؟”
كان الشاب صاحب الشعر الاحمر هو ‘بيريك’، الابن غير الشرعي لملك سيداس الراحل، وكانت المرأة الكهلة هي ‘بيانكا’، ام ‘بيريك’ والأخت غير الشقيقة للملكة.
تنادى نبلاء سيداس متهمسين حين عرفوهما.
ارتعش ‘بيريك’ والقى كتفيه قليلًا تحت وقع النظرات، لكن امه كانت تقف بهامة مرفوعة.
ثم خاطبت ابنها بلهجة حازمة.
”سر بخطى واثقة. ألست انت ملك هذه الديار الآن؟”
“…اجل، يا اماه.”
على النقيض من ‘بيريك’ الذي بدا متوترًا مترقبًا، لم تستطع ‘بيانكا’ اخفاء غبطتها.
يا لها من لحظة طالما انتظرتها بشغف! صرت على اسنانها وهي تسترجع ذكريات المهانة الغابرة.
’ابني هو ملك هذه الديار الآن!’
في سالف الزمان، دست ‘بيانكا’ نفسها في مخدع ملك سيداس المخمور، وتجرأت على التظاهر بأنها اختها غير الشقيقة وسرقت منه ليلة.
لكن الملك، الذي كان على وفاء لزوجته، ارتجف خزيا وطردها على الفور.
’اضربوا عنقها حالًا! بل سأضربه بنفسي!
ائتوني بالسيف، على عجل!’
كان غضب الملك عارمًا لدرجة ان رأسها كاد يجز في الصباح الباكر من مخدعه.
لكن الملكة دافعت عن اختها غير الشقيقة ناكرة الجميل، وبذلك نجت ‘بيانكا’ بحياتها.
ومن تلك الليلة الوحيدة ولد ‘بيريك’.
’زوجتي هي ‘ادورا’ وحدها، وابناؤنا هم ‘آلان’ و ‘انطونيو’ و ‘ييرينا’ الذين ولدتهم.’
لكن الملك لم يعترف لا بـ ‘بيانكا’ ولا بـ ‘بيريك’ الذي انجبته. ولذلك اضطرا ان يعيشا في مملكة سيداس وكأنهما غير موجودين لسنوات طوال.
’ادورا، لقد ظفرت! لقد قهرتك يا اختي. لقد هلك ابناؤك جميعًا، لكن ابني نجا وتولى خلافة ذلك الرجل!’
كانت ‘بيانكا’، التي اشتعلت عيناها السوداوان وهي ترمق اختها غير الشقيقة الراحلة بازدراء، لا تزال جميلة رغم تقدمها في السن.
لكن عيناها المائلتين نحو الاعلى بحدة، وتعبير وجهها المتأجج حقدًا، لم يضفيا عليها جاذبية للاِقتراب.
”اخط بسرعة اكبر. هذا التباطؤ لا يليق…!”
وبخت ‘بيانكا’ ابنها المتلكئ مرة اخرى.
تردد ‘بيريك’ قليلًا وهو يحاول النطق لامه، لكن سرعان ما اسرع خطواته وكتفاه متدليتان.
”تقدما الى هذا الموضع.”
عندما دنا الاثنان من المنصة، دلهما احد الفرسان الى صعودها. ارتعش ‘بيريك’ مجددًا لصوت الفارس القاسي وصعد المنصة.
”صاحب الجلالة، ملك سيداس الجديد، ‘بيريك سيداس’.”
نادى ‘هايدن’ ‘بيريك’ بـ “الملك”. لكن رغم رؤيته لملك دولة اخرى، لم يبد ‘هايدن’ اي احترام او لياقة تذكر.
ولم يعترض احد حوله على سلوك ‘هايدن’ ذاك.
”احقًا اسمك ‘بيريك سيداس’؟”
“اجل، اجل. انا، انا ‘بيريك سيداس’.”
سأله ‘روشان’ وهو لا يزال متربعًا في مقعده امامه.
اجاب ‘بيريك’ بصوت خافت، وهو يخفي رأسه بخجل، وكأن لقب ‘سيداس’ الذي حرم منه طويلًا قد غدا غريبًا عليه. انفجرت ضحكات ازدراء من الفرسان على المنصة. لولا ان حذرهم ‘نوكس’ الرزين عادة، لكانت تلك الضحكات قد استمرت لوقت اطول بالتأكيد.
”انقل اليك مرسوم الامبراطور النافذ، انا ‘روشان فيستيوس’.”
حين ساد السكون، نطق ‘روشان’ بلهجة توحي بالضجر الشديد. وبموازاة ذلك، سلم ‘هايدن’ على عجل ورقة مطوية وأمر ‘بيريك’.
”ليجثو ملك سيداس على ركبتيه وليتلق مرسوم جلالة الامبراطور.”
ارتعد ‘بيريك’ وسقط جاثيًا على ركبتيه. وخلفه، اتبعته ‘بيانكا’ وجثت ايضًا، بعد ان استطلعت الاجواء.
”نمنح ملك سيداس لقب كونت الامبراطورية. هذا اشارة الى ان ملك سيداس بات تابعًا يجب عليه اعلان الولاء للامبراطور العظيم، وهو في الوقت ذاته تحذير صارم بعدم التجرؤ على الامبراطورية مجددًا.”
تلا ‘روشان’ النص المدون على الورقة دون ان يلقي بنظرة واحدة على ‘بيريك’.
وبمجرد انتهائه من القراءة، سلم الورقة الى ‘هايدن’. تلقاها ‘هايدن’ بلطف وناولها لـ ‘بيريك’.
استلم ‘بيريك’ المرسوم من ‘هايدن’، لكنه لم يعرف ما يجب فعله تاليًا. وقد ازعجها تململ ابنها، فبادرت ‘بيانكا’ بالقول.
”انه لشرف عظيم. سنكرس الولاء للامبراطورية ولجلالة الامبراطور من الآن فصاعدًا.”
عندئذ فقط انتبه ‘روشان’ لوجود ‘بيانكا’، ووجه نظرة متغافلة نحوها. سارع ‘هايدن’ بالافصاح لسيده.
”انها والدة ملك سيداس.”
لم يبد ‘روشان’ اي رد فعل لشرح ‘هايدن’، ثم نهض بهدوء من مقعده.
احمر وجه ‘بيانكا’ حرارة لشعورها بالاهمال. لكن كان الخصم هو الشقيق الاوحد لامبراطور الامبراطورية والفاتح للمملكة. لذا لم تنبس ‘بيانكا’ ببنت شفة واخفضت رأسها.
”صاحب السمو…!”
كان ‘روشان’ يهم بالمغادرة دون قول اي شيء بعد انتهاء المهمة. عندئذ، وبشجاعة غير معهودة، نادى ‘بيريك’ -الذي كان صامتًا طوال الوقت- ‘روشان’ اولًا.
ادار ‘روشان’ رأسه فقط، ونظر الى ‘بيريك’ الذي لا يزال جاثيًا.
”هل لي ان استفسر عن مكان اختي… اعني، الاميرة ‘ييرينا’؟”
عند سماع اسم ‘ييرينا’، توهج نور لأول مرة في عيني ‘روشان’ الراكدتين.
استدار بجسده كليًا نحو ‘بيريك’ وسأل.
”لِمَ هذا السؤال؟”
التقط ‘بيريك’ انفاسه بصعوبة، مشدودًا بهيبة الرجل الواقف امامه. لكنه شد قبضته، واسترسل في الكلام عن ‘ييرينا’، رغم ارتعاشه.
”اختي… هي فلذة كبدي من عائلتي.
سمعت انها كانت معتلة الصحة، وانا قلق عليها…”
رغم الغربة التي كانت تفصله عن والده واخوته غير الاشقياء، الا ان ‘ييرينا’ -التي تصغره بعام- كانت تغمره باللطف والمودة برفقة الملكة الراحلة.
لم يسعها ان تعامله كأخ، لكنها على الاقل اعتبرته ابن عم ووفرت له العناية.
ابوه الذي يتجاهل وجوده، وامه التي لا تكف عن العصبية، ونظرات الآخرين الباردة… لم يكن ‘بيريك’ يحظى بلقاء ‘ييرينا’ كثيرًا بسبب اخوته غير الاشقياء، لكنه احبها كثيرًا وتعلق بها لاهتمامها بشأنه.
لذا، رغم اصفرار وجهه من الفزع، ثبت بصره في ‘روشان’ حتى النهاية.
”…الاميرة في امان.”
استشاط ‘روشان’ غيظًا من ملك الدمية الجديد هذا.
لم يرق له ان يخاطبه رجل لا يستطيع التغلب على هيبة الفرسان، ويتمحور حول امه، ويطلب منه الايضاح.
”آه… اذن، هل يسمح لي سموك ان اسأل متى سيكون بوسعي رؤية اختي؟”
سأل ‘بيريك’ بنبرة ابتهاج، دون ان يدرك اضطراب مزاج ‘روشان’ المتزايد سوءًا.
نظر اليه ‘روشان’ وقذف بجملته.
”لن تراها.”
”ماذا؟”
اتسعت عينا ‘بيريك’ ذهولًا.
نظر ‘روشان’ الى عينيه اللتين تشبهان لون عيني الاميرة، واخبره بمصيرها المنتظر.
”الاميرة مغادرة معي الى الامبراطورية قريبًا. لذا لن يكون بوسعك رؤيتها مجددًا.”
”هذا… ما الذي تعنيه بذلك…؟”
لم يكن ‘بيريك’ يعلم، ولا ‘ييرينا’ نفسها، ان الباعث الاصيل لهذه الحرب التي اطلقتها الامبراطورية كان الاميرة ‘ييرينا’.
فبمجرد ان سمع امبراطور الامبراطورية شائعة عن اميرة سيداس، طلب من ملك سيداس ان يقدم ‘ييرينا’ كجارية للامبراطور.
لكن ملك سيداس، الذي لم يستسغ ان تتحول ابنته المدللة الى مجرد جارية، رفض وحاول البحث عن سبل اخرى.
شعر الامبراطور بالضغينة ازاء ذلك وأمر ‘روشان’ بغزو مملكة سيداس واقتياد الاميرة.
”ألن يستقر الولاء للامبراطورية الا بأسر فرد من سلالة سيداس المالكة؟ لذا، نأخذ الاميرة اسيرة الى الامبراطورية.”
”لكن، لكن اختي… لا، لا ينبغي ان تذهب اختي!”
”اذن، هل ترغب انت في الذهاب اسيرًا بدلًا من الاميرة؟”
ناشد ‘بيريك’ ‘روشان’ بلهجة عالية نسبيًا. لكن ‘روشان’ صد كلامه ببرود.
عند سماعه سؤالًا عن الاستبدال، نكس ‘بيريك’ رأسه وغاص في التفكر. في حقيقة الامر، لم يكن هذا المنصب له كابن غير شرعي.
رغم ان الامر لم يعد ذا شأن بعد الغزو، الا ان الاولوية في التولي الشرعي كانت للاميرة ‘ييرينا’، وليست له.
”لا يمكن ان يكون ذلك! محال!”
تدخلت ‘بيانكا’ التي كانت تراقب ‘بيريك’ من الجانب، وقد اعتراها القلق من تعابير وجه ابنها.
التفت ‘بيريك’ جانبًا الى صرخة امه المفاجئة.
رمقته ‘بيانكا’ بنظرة لوم للحظة، ثم غيرت ملامحها الى ابتسامة هادئة، وخاطبت ‘روشان’.
”اذا كان بوسعنا اثبات الولاء للامبراطورية باميرة واحدة، فبالطبع يجب ان نفعل ذلك. انه لتصرف صائب.”
”امي!”
نادى ‘بيريك’ امه، فلم يحتمل صمتها.
لكن بسبب صوت ‘بيانكا’ القارع، اغلق فمه سريعًا واخفض رأسه مجددًا.
”اخبرني متى يعتريك تغيير في الرأي.”
انعطف شدق ‘روشان’ بازدراء وهو يسخر من ذلك الموقف المؤسف.
نظر ‘هايدن’ الى سيده بوجه مندهش، اذ لم يكن ذلك مشهدًا مألوفًا.
لكن ‘روشان’ لم يبال، والقى نظرة باردة على شعر ‘بيريك’ الاحمر، ثم استدار ومضى.
Chapters
Comments
- 5 منذ 18 ساعة
- 4 منذ 18 ساعة
- 3 - كانت الفَجيعةُ مُروِّعةً. منذ يومين
- 2 - الأميرة العمياء. منذ يومين
- 1 - المُقدمة. منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 4"