“أأنا الإمبراطور، ولا أستطيع أن أُخضع امرأةً واحدة لإرادتي؟ هذا كلّه بسببكم! ماذا تفعلون على وجه الصواب أصلًا!”
كلّما قصرت المسافة، علا صوت الإمبراطور الهائج أكثر، فتبادل الخادمان الواقفان عند الباب نظراتٍ قلقة عندما اقترب روشان، وقد بدا عليهما الذعر خشية أن يأمر بفتح الباب.
غير أنّ روشان، على خلاف مخاوفهما، وقف قريبًا من الباب مكتفيًا بالإنصات إلى ما يجري في الداخل، حيث كان الإمبراطور يقذف الأشياء واحدًا تلو الآخر، يصبّ جام غضبه على شخصٍ لا يُدرى أهو كاهن أم خادم.
“كهنة الإمبراطوريّة وكاهناتها لم يفلحوا حتّى الآن في فكّ لعنةٍ واحدة……
فلماذا أمرتكم بجلب تلك المرأة من سِيداس؟ إن استمرّ الأمر هكذا فستنبت خيوط العنكبوت بين فخذيها!”
امرأة سِيداس…… لم يكن هناك شكّ في المقصود.
في كلّ مرّة يذكر فيها الإمبراطور ييرينا بعباراتٍ سوقيّة تقارب الإهانة، كان فم روشان يشتدّ تصلّبًا.
“ه!”
رفع الخادم الذي كان مطأطئ الرأس نظره ليتفحّص وجه وليّ العهد الصامت، فشهق دون قصد.
ملامح ضاغطة، وعينان حمراوان تثيران الرهبة بمجرّد النظر إليهما، وكأنّ شيئًا غير مرئيّ يتقطّر من وجهه المظلّل.
“رو، روشان! ماذا تفعل؟ من سمح لك بالدخول؟ ألم آمرك بالانتظار؟!”
كان كيدريك قد تعمّد إبقاء روشان في الخارج وهو يعيث في الكاهن إذلالًا، ليثبت أنّ حتّى من نذروا أنفسهم للحاكم ينحنون إذا غضب الإمبراطور، وليُري أخاه غير الشقيق أنّه مهما علا شأنه، فلا بدّ أن ينتظر أمره.
“توقّف! أَلَا تسمعني أقول توقّف؟!”
غير أنّ روشان دفع الباب بعنف ودخل، داس شظايا الزجاج المكسور وتقدّم، فارتعد كيدريك رعبًا، أمّا روشان فتجاهل صراخه، واقترب حتّى وقف أمام العرش، ثم جثا على ركبةٍ واحدة.
انحنت الركبة، لكنّ الرأس ظلّ مرفوعًا بصلابة، وكان الأجدر بالإمبراطور أن يثور غضبًا، إلّا أنّ الخوف جعل جسد كيدريك يرتجف، إذ تذكّر الهمسات التي كانت تصف أخاه في ساحة المعركة بالإله، وبأنّه الموت ذاته حين يغمس سيفه في الدم.
“مولاي، لقد دخلتُ دون إذن لأنّ لي طلبًا أرجو ألّا يُرفَض.”
فتح روشان فمه أخيرًا، فاتّسعت عينا الإمبراطور الذي رفع قدميه على العرش. كلمة “أخوك”.
لم يسبق لروشان، منذ اعتلاء كيدريك العرش، أن خاطب نفسه بهذه الصفة، التزامًا بالأعراف التي ترى أنّ الجميع أمام الإمبراطور رعيّة.
وكسرُ هذا العرف لم يكن بلا سبب. إنّه تحدٍّ صريح لهيبة الإمبراطور، فشحبت ملامح كيدريك.
“بوصفي وليَّ عهد الإمبراطوريّة، حقّقتُ فتح مملكة سِيداس، وأرجو أن يتفضّل جلالتُك بتكريمي بنفسه.”
قال روشان ما أراد قوله دون اكتراثٍ بحال الإمبراطور، وبعد صمتٍ طويل صاح كيدريك.
“ما هذا الهراء؟ متى كان ذلك أصلًا! ثمّ ألم نقم بوليمة نصرٍ من قبل؟”
“وما قيمة وليمةٍ لم يحضرها جلالتُك.
لذا أطلب إقامة مأدبةٍ يتولّى جلالتُكم تنظيمها وحضورها.”
كان طلبًا في صورة تهديد، ومع ذلك لم يستطع كيدريك أن يوبّخه أو يسأله عن السبب، فما إن التقت عيناه الحمراوان بعيني روشان حتّى انهارت مقاومته.
“ح، حسنًا…… سأصدر الأمر فورًا.”
وأخيرًا هزّ رأسه متنازلًا عن كبريائه، فاهتزّ شعره الأسود المصقول مع ارتجافه.
“ألن تفعل ما تريد؟ إن لم يكن لديك ما تضيفه، فانصرف!”
صرخ كيدريك عندما لاحظ أنّ روشان لا يتحرّك، غير أنّ الأخير ابتسم ابتسامةً خفيفة وقال.
“ألم تستدعني يا مولاي وتتركني منتظرًا في الخارج؟ ظننت أنّ لديك ما تقوله.”
انقبض قلب كيدريك. هل كان هذا انتقامًا لإبقائه واقفًا كلّ هذا الوقت؟ هل جاء اليوم ليهدّد الإمبراطور نفسه؟
‘أمعقول أنّه غضب إلى هذا الحدّ……؟’
مرّ شبح صورةٍ في ذهنه: يُجرَّد من عرشه، ويُنفى، ثم يُقطع رأسه. نظر إلى أخيه غير الشقيق بوجهٍ شاحب.
“أنا…… أعني، إنّما استدعيتك لأنّ…….”
“إن لم يكن ثمّة ما تقوله، فسأنصرف.
ألقاك في المأدبة، مولاي.”
استدار روشان بعد أن أطال التحديق في تلعثم أخيه، وكان خروجه فظًّا كما دخوله، غير أنّ كيدريك لم يشعر إلّا بالارتياح لذهابه.
رنّ صوت تحطّمٍ من الداخل ما إن أُغلِق الباب، لكنّ روشان، وقد حقّق غايته، مضى دون اكتراث.
‘لفترةٍ لن يستطيع التفكير في شيءٍ آخر.’
وكما توقّع، انشغل الإمبراطور بالحفاظ على عرشه حتّى عن النوم، وغابت عن ذهنه تمامًا أسيرة البرج.
—
كانت الطيور الحرّة التي تجوب السماء تحطّ أحيانًا في أعلى طبقات البرج، وحين يقترب زقزقتها، كانت ييرينا التي لا ترى العالم تنادي جين وتسألها عن نوع الطائر.
لم تكن جين مهتمّة كثيرًا بالطيور، فتذكر ما تعرفه كالقُرقُف أو القُبَّرة، أمّا غير ذلك فتصف شكله قدر المستطاع.
“زوجٌ صغير أصفر اللون، لطيف جدًّا، يبدو أنّهما اتّخذا عشًّا في شقّ الجدار أسفلنا…… آه، أظنّ أنّ هناك فراخًا.”
“حقًّا؟ لا بدّ أنّها ناعمة ولطيفة.”
“همم…… لا، ليست كذلك، لعلّ ريشها لم ينبت بعد، الأمّ ألطف بكثير.”
لعلّ اعتدال الطقس هو السبب، فقد كان القلب أكثر سكونًا.
‘مرّ وقتٌ طويل منذ غادرتُ سِيداس…… ومع ذلك لم أقدّم للمملكة أيّ نفع.’
لكنّ القلق في أعماق ييرينا لم يُحلّ، فكانت تجلس قرب النافذة تشرب الشاي، ثم تعبث بالكوب الفاتر بملامح قاتمة.
‘انتهى التعليم تقريبًا…… وسيدعوكِ الكاهنُ الأعظم قريبًا ليتحقّق من زوال لعنة المملكة برحمة الإلهة.’
كانت أليثيا قد أخبرتها بذلك، غير أنّ ييرينا شكّت في حدوث أيّ تغيير، بل تساءلت إن كانت هناك لعنة أصلًا.
‘وإن زالت اللعنة، فما الذي ينتظرني سوى…….’
سرير الإمبراطور.
مكانٌ لا تريده، لكن لا مفرّ منه. عضّت ييرينا شفتها بقوّة، ثم خطرت لها صورة شخصٍ ما فتصلّب وجهها.
‘لماذا؟’
لا تعرف ملامحه، ولا لون شعره أو عينيه، سوى صوته المنخفض البارد وبنيته القويّة، ومع ذلك، منذ خطر احتمال دخولها مخدع الإمبراطور، لم يفارقها طيفه.
هزّت ييرينا رأسها لتطرد الأفكار.
“جين، كم الساعة الآن؟”
كانت تنوي أن تتدرّب أو تصنع حليًّا، فنظرت جين إلى الساعة وقالت.
“تجاوزت الثانية قليلًا، سيّدتي.”
“حقًّا؟ لكن لماذا لم يأتِ الفارس كيان؟”
بدت ييرينا مستغربة، فمنذ شهرٍ لم يتخلّف يومًا عن القدوم قبل الثانية.
أترى حدث له مكروه؟ تسلّل القلق إلى قلبها، ثم عضّت شفتها حين أدركت أنّها تفكّر فيه مجدّدًا.
“إنّه…… كحّ! الفارس كيان خرج من القصر لأمرٍ يخصّ عائلته، وسيعود بعد يومين، وخلال هذه المدّة سأتولّى حراستكِ بعد الظهر.”
أجاب فريدريك وهو يراقب ملامحها.
كان قد بدأ أخيرًا يبادر بالكلام معها، لكنّ الحرج بينهما لم يزل. بل إنّ ييرينا باتت تخشاه أكثر من كيان.
“هكذا إذًا…… لم يخبرني.”
قالت بصوتٍ خافت وقد تسلّل إليها شعورٌ غامض بالخيبة. لماذا لم يُخبرها؟ عضّت شفتها مرّةً أخرى، لكنّ المشاعر فاضت.
“كنّا قد اتّفقنا على الخروج معًا…….”
خرجت الكلمات كأنّها شكوى طفوليّة، فتبادلَت جين وفريدريك نظراتٍ متفاجئة.
‘تبًّا!’
شتم فريدريك في سرّه.
كان يظنّ أنّه تخلّى عن اهتمامه بها بعد لقائه سيّده، لكنّ دفء الطقس أو إشراقة ملامحها المتزايدة جعلت أقفال قلبه ترتجّ.
لم يستطع تجاهل خيبة الأمل على وجهها، فتقدّم ووقف أمامها.
التعليقات لهذا الفصل " 39"