لم يكن عرضُ الدرجِ الحلزونيّ الذي يلتفّ نازلًا حول البرج واسعًا.
صحيحٌ أنّه لا يُوصَف بالضيق، لكنّ حدودَ البنية كانت واضحةً بلا مواربة.
ذلك الدرجُ الذي كان يتّسع بصعوبةٍ لييرينا ومعها راهبتان تُمسكان بها من الجانبين، بدا الآن مكتظًّا بامرأةٍ واحدةٍ ورجلٍ واحد.
كانت ييرينا تتحسّس الجدارَ الخارجيّ للدرج، وقد ارتجفت ساقاها، ثمّ خاطبت الرجلَ الذي يتمركز في الداخل.
“لا، لا أستطيع. لا أشعرُ بأنّ قدمي تلمس شيئًا.”
عند قولها هذا، أطلق ‘كيان’ ضحكةً خفيفةً في سرّه.
كانت المرأةُ المرتجفةُ كمن يقف على حافةِ هاوية، قد أخرجت قدمَها قليلًا جدًّا خارج الدرجة التي تقف عليها، وهي ترتعش.
“كنتِ تنزلين قبل قليلٍ على ما يُرام، يبدو أنّ الخوف عاد إليكِ.”
وقد أخرجت قدمَها بمقدارِ مفصلِ إصبعٍ واحد، فكيف يُرجى أن تلمس شيئًا.
كان المشهدُ مثيرًا للشفقة، لكنّه لم يكن قبيحًا.
بل بدا أشبه بفرخِ طائرٍ خائفٍ من أوّل تحليق، وكان ذلك… لطيفًا على نحوٍ غير متوقّع.
وجنتان متورّدتان قليلًا، وجسدٌ متيبّس من التوتّر، وكتفٌ ويدٌ تستندان إلى الجدار.
كانت عيناها ميتتين، لكنّ كلّ ما عدا ذلك في جسدها كان حيًّا متحرّكًا، يبعث فيه المتعة.
“تفكّرين كثيرًا، وهذا سببُ الخوف.
سأكون لكِ عكّازًا، فتابعي الحديث.”
قال ذلك مبتسمًا بهدوء، ومدّ ذراعه إليها بحذر.
ارتجفت ييرينا قليلًا عند اقتراب دفئه، ثمّ أمسكت بذراعه بإحكام وقالت.
“إلى أين وصلنا في الحديث؟”
“كنتِ على وشكِ الكلام عن التعليم الذي تتلقّاه أميراتُ سِيداس.”
“آه…….”
تردّدت ييرينا لحظة.
ذلك التعليمُ السرّيّ المتوارث بين أميرات سِيداس.
لم يكن سرًّا خالصًا، لكنّه حديثٌ لا ترغب فيه، لذا قطعت الكلام عمدًا.
“……هل تذكر الأسطورة التي ذكرتها أمس، عن الأميرة المتلألئة والساحر الأعمى؟”
“نعم.
الأسطورة التي تقول إنّ الساحر الذي خانته الأميرة لعنها وهو أعمى.”
“تلك الحكاية…… لا يمكن اعتبارها مجرّد أسطورة.”
ومع ذلك، فتحت فمها وبدأت تسرد.
وفي الوقت ذاته، أنزل الرجلُ الذي كان يُمسك يدها قدمَه إلى الأسفل ببطء.
وتبعته ييرينا، فنزلت الدرجَ بصورةٍ طبيعيّة.
“الأميرة المتلألئة في الأسطورة هي في الحقيقة إحدى سَلَفي، منذ نحوِ ثمانمئة عام.
كانت ملكةً منزوعة العرش، لكن…… رغم ذلك، دُعيت في زمنٍ ما بالملكةِ المشرقة.”
“…….”
“في ذلك العصر، حيث وُجد التنانين والإلف وغيرهم من الأجناس المختلفة، كَثُر السحرة الأقوياء.
وكان الساحر الأعمى واحدًا منهم.”
“…….”
“وكانت لعنته قاسية، ولم تستهدف الأميرة وحدها.
بل طالت ذريّتها أيضًا.
وبالتحديد، أميرات سِيداس اللواتي يشبهن الأميرة المتلألئة.”
وقد لعن الساحرُ الأعمى الأميرةَ وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
أن تموت عمياء وبائسة مثله.
وبحسب لعنته، خسرت الأميرةُ المتلألئة مكانتها وأسرتها، ولقيت نهايةً مأساويّة.
لكن أن تمتدّ تلك اللعنةُ إلى الأحفاد أيضًا……
تنفّس الرجلُ الذي كان يصغي بتركيزٍ عميق تنهيدةً صادقة، وسأل.
“إذًا، هل فقدت أميراتُ سِيداس بصرهنّ فعلًا؟”
“……نعم. عددٌ غير قليل.”
“لو حدث أمرٌ كهذا داخل العائلة المالكة، فلا بدّ أنّهم حاولوا إيجاد حلّ.
ألا يمكن أن يكون مرضًا وراثيًّا يقتصر على نساء العائلة؟
على سبيل المثال، في مملكة دارِيتا الواقعة في الجنوب الغربيّ، يُقال إنّ أكثر من نصف الأمراء الذكور يعانون من نزفٍ لا يتوقّف.
وكانوا يسمّونه سابقًا لعنةَ شيطانِ الصحراء، لكنّ الأبحاث الحديثة أثبتت أنّه مرضٌ وراثيّ، وقد بدأ كهنةُ وأطبّاء دارِيتا بالعمل على علاجٍ له.”
“أظنّ هذا الاحتمالَ هو الأقرب.
لكنّ عائلة سِيداس الملكيّة لم تستطع دراسة هذه الحالة، سواء أكانت لعنة أم مرضًا، كما فعلت دارِيتا.”
“ولِمَ…….”
“لأنّ الأميرات توقّفن عن الولادة تقريبًا في سِيداس منذ وقتٍ ما.
فلو نظرنا إلى تاريخِ الخمسمئة عامٍ التي سبقتني، فلن تجد عددَ الأميرات المباشرات، حتى مع من توفّين وهنّ رضّع، يتجاوز السبع.”
“…….”
“وهناك من يقول إنّ الأميرة المتلألئة، وقد عجزت عن تحمّل موتِ أحفادها البائس، أنزلت لعنةً أخرى على سِيداس، تمنع ولادة الأميرات أصلًا……
لكنّ هذا، في النهاية، أقرب إلى خرافةٍ واهية.
لم يُذكر إلّا في هامشِ كتابٍ تاريخيٍّ قديم كتبه مؤرّخٌ مجهول.”
“…….”
“ومع ذلك، لم تكن كلّ أميرات سِيداس عمياء.
قيل إنّ بعضهنّ عشنَ حياةً طبيعيّة، ثمّ أغمضن أعينهنّ بسلام.”
“أليس معنى هذا أنّ من لم يكن منهنّ قليلًا……
فقدنَ بصرهنّ جميعًا؟”
التقط كيان ثغرةً في كلامها.
لم تُجب يرينا، وكان صمتُها إقرارًا.
ثمّ واصلت النزول بلا كلامٍ قليلًا، قبل أن تقول بوجهٍ مُرّ.
“ربّما لهذا السبب.
كان والدي يولي تعليمَ الأميرات اهتمامًا خاصًّا.”
“…….”
“كانت أميراتُ سِيداس يعشنَ مرّةً في العام، أسبوعًا على الأقلّ وقد يمتدّ إلى قرابة الشهر، وهنّ معصوباتُ الأعين.
تعليمٌ وُضع ليعوّدهنّ على احتمال فقدان البصر في أيّ وقت.”
“…….”
“حين وُلدتُ أنا، كان هذا التعليمُ شبهَ مهجور.
كنتُ أوّل أميرةٍ تُولد في العائلة منذ ما يقارب مئتي عام.
وقبل ذلك، لم تكن هناك أميرةٌ لتتلقّى التعليم لأكثر من مئة عام.”
كان كيان قد سمع بهذه القصّة سابقًا عبر فريدريك،
لكنّه تظاهر بأنّه يسمعها للمرّة الأولى، وقال بصوتٍ يوحي بالدهشة.
“إذًا، كان هناك سبب.
كنتُ أستغرب كيف أنّكِ، رغم حداثة فقدانكِ للبصر، تتحرّكين وتعيشين بهذه السلاسة.”
“لا أبدًا.
أنظر.
أنا الآن أخاف حتّى من صعودِ الدرجِ ونزوله.”
“…….”
“لو علمتُ أنّ الأمر سيؤول إلى هذا، لكنتُ التزمتُ بذلك التعليم بجدّيّة.
كان أبي دائمًا ليّنًا معي، لكنّه في هذا الأمر تحديدًا كان صارمًا.
كنتُ أعيش معصوبةَ العينين أمامه، لكن……
حين لا يكون موجودًا، كنتُ أفكّ العصابة.”
“…….”
“لو أنّني أطعتُه آنذاك، لربّما استطعتُ صعودَ مثل هذا الدرج بسهولة.”
ومع حديثها، خفّفت ييرينا سرعتها في النزول.
وكانت، أصلًا، تحسب خطواتها واحدةً واحدة، لكنّ وتيرتها تباطأت أكثر.
غير أنّ الرجل لم يُبدِ ضيقًا، بل وازن خطواته مع خطواتها، متفحّصًا الطريق أمامه خشيةَ أن تكون هناك درجةٌ مكسورة.
“كان الأمرُ مزعجًا آنذاك.
كنتُ أكرهه لأنّه يتشدّد في شيءٍ لا أراه إلّا أسطورة.
ولم أستطع تخيّل أنّني، وأنا أرى، قد أفقد بصري يومًا.”
وأثناء حديثها، عادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم القديم.
اليوم الذي ركضت فيه مرتديةً فستانًا أخضر داكنًا تزيّنه طيورٌ ذهبيّة، هديّة أبيها،
وحذاءً مريحًا مطرّزًا بيد أمّها،
وتاجًا من الزهور وخواتمَ من الزهر علّقها إخوتها على يديها.
“……مرّةً، ضبطني أبي وقد نزعتُ العصابة، فنالني عقابٌ شديد.
كنتُ في الثانية عشرة، على ما أظنّ.
كان ذلك أوّل يومٍ أتلقّى فيه الضرب بالعصا.”
كان منظرُ أبيها وهو يرفع العصا مرعبًا.
لماذا إلى هذا الحدّ؟
هل يكرهني حقًّا؟
حين سقطت الضربة الأولى على كفّها، راودها ذلك الظنّ.
“كانت عصا الخشب مؤلمة جدًّا……
لكنّني، رغم ذلك، لم أكره أبي في ذلك اليوم.”
“ولِمَ؟”
“لأنّه، بعد ضربتين أو ثلاث، عانقني بشدّة وقال لي.
إن حدث، لا قدّر الله، وفقدتِ بصرك، فلا تقلقي أبدًا.”
“…….”
“قال إنّه سيتكفّل بكلّ شيء.
وأنّه، حتّى بلا عينين، سيجعلني أعيش سعيدة كما أنا الآن،
وسيمنحني حياةً كاملةً كما أرادها الحاكم.
كان يبكي وهو يقول ذلك…… وكانت تلك أوّل مرّة أرى فيها أبي ضعيفًا.
لكنّ الغريب أنّ ذلك الضعف كان مطمئنًّا إلى حدٍّ لا يُصدّق.”
تذكّرت ييرينا كيف غفت وهي تبكي بين ذراعي أبيها.
ولا يزال لحنُ تهويدته الخافتة يرنّ في أذنها.
صوتٌ عذب، وحضنٌ دافئ دائمًا.
فترقرعت الدموع في عينيها.
‘……؟’
وقبل أن تسقط الدموع،
عادت إلى ذاكرتها قطعةٌ أقدمُ بكثير.
‘أبي. لا أرى. واه…… عيني، عيني…….’
‘لا، يا كنزي.
إنّما العصابة على عينيكِ هي ما يمنعكِ من الرؤية.
تحمّلي أسبوعًا فقط.
حين ينتهي التعليم، ستعودين لترَي، حسنًا؟’
كان صوتُ الطفلة الباكية صوتَها هي بلا شكّ.
لكنّ الغريب أنّ الذكريات، من ذلك الزمن الذي كانت ترى فيه، كانت مظلمة.
تمامًا كما الآن.
وانضمّت إلى تلك الذكرى أخرى.
هذه المرّة، كان البصر حاضرًا.
أعمدةُ رخامٍ شاهقة، نقوشٌ بارزة لآلهةٍ وجنياتٍ أسطوريّة، وضبابٌ يتماوج……
‘الأميرة…… اللعنة…… في سنّ العاشرة…….’
ثمّ ظهرت امرأةٌ غريبة، ملامحها باهتة.
وبينما تحاول ييرينا رسم هيئتها، خطر لها اسمٌ واحد.
‘أليسيا؟’
لم يكن لونُ الشعر، ولا الملامح، ولا حتّى الحاكم الذي تخدمه متشابهًا.
لكن ربّما لأنّها راهبة،
بدا اسمُ أليسيا، التي لم ترَها قطّ، حاضرًا على نحوٍ غير مبرَّر.
“آه!”
شتّتت الخواطرُ المتلاحقة حركةَ قدمها.
فقدت ييرينا تركيزها فجأة، وانزلقت قدمُها.
شعرت، لوهلة، وكأنّها تهوي من علوّ، فتقبّض قلبها.
لكن قبل أن تتدحرج على الدرج الخطر، أمسك بها أحدهم.
“انتبهِي.”
ضمّها الرجلُ إليه تقريبًا.
وبالرغم من ضيق الدرج، حافظ على توازنه، وسندها معه.
قالت ييرينا، ووجنتاها تحمرّان، وهي تتحسّس الطريق.
“ش، شكرًا.”
كان قلبها يخفق بسرعة.
لكنّ وقعه كان أخفّ بكثير من المرّة الأولى التي سقطت فيها أثناء التدرّب على النزول.
ظلّ الخوفُ من صعودِ الدرجِ ونزوله دون بصرٍ قائمًا،
لكنّه كان قد تقلّص منذ زمن.
والسبب، على وجه الدقّة، أنّ الرجل كان إلى جوارها.
كانت تتوقّع أنّه، إن سقطت، سيسندها.
لكنّ نبضَ قلبها تسارع لمعنى آخر.
دفعت ييرينا الرجلَ برفق، وخفضت رأسها.
ثمّ واصلت الحديث، وهي تتقدّم إلى الأسفل بساقين مرتجفتين.
التعليقات لهذا الفصل " 37"