“السيّدة ييرينا أرقّ ممّا تظنّ بكثير، فإذا نظرنا إلى حياتها في مملكة سيداس… فمن الطبيعيّ أن تكون كزهرةٍ في دفيئة.”
“…….”
“ثمّ إنّها، وإن لم تُظهر ذلك، فقد فقدت عائلتها كلّها، وجيء بها أسيرةً إلى إمبراطوريّةٍ لا تعرف فيها أحدًا، ووحدتها عظيمة.”
“…….”
“والإنسان كلّما اشتدّ ألمه، تضاعف شعوره بالوحدة، وكلّما كان الألم أشدّ، كان ذلك أوضح.”
“…….”
“أفلم تفعل ما فعلت لأنّك ظننت أنّ شخصًا رقيق القلب، بعد مرضٍ شديد، سيتعلّق حتمًا بمن يكون إلى جانبه؟ ثمّ إنّ الترياق الذي منحتمه للسيّدة ييرينا… كانت تفوح منه رائحة زهرة تيانّا، تلك التي يصعب العثور على زهرةٍ واحدةٍ منها في هذه الأيّام.”
“…….”
“يُقال إنّ شرب ماء زهرة تيانّا يجعل المرء يشعر بمودّةٍ غير مبرّرة تجاه من حوله، وقد ثبُت الآن أنّه أقرب إلى هلوسةٍ عابرة يسبّبها سمّ الزهرة، لكنّها في العصور القديمة كانت تُباع بثمنٍ باهظ بوصفها إكسير حبّ، فلا يمكن القول إنّ تأثيرها معدوم تمامًا.”
“…….”
“وفوق كلّ شيء، ونتيجةً لذلك كلّه، فقد اقتربت في النهاية من السيّدة ييرينا كما أردتم.”
“إذًا؟ لنفترض، كما تقولين، أنّني أتوق إلى اهتمام الأميرة، فما علاقة ذلك بطريقة تعاملك معها؟”
سأل روشان وهو يغيّر وضعيّته، مسندًا ذراعه إلى مسند الأريكة، ومع ازدياد حدّة حضوره قليلًا عضّت أليسيا شفتها ثم قالت.
“لو أنّها، في وضعٍ قاسٍ كهذا، فقدت فيه عائلتها وجيء بها أسيرة، وجدتْ جميع من حولها باردين إلّا شخصًا واحدًا، فكيف تتصرّف السيّدة ييرينا برأيك؟”
“…….”
“المعزول يتعلّق أكثر بمن يُظهر له لطفًا واحدًا.”
حدّق روشان فيها دون ردّ، ثمّ ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة.
كانت طريقة طفوليّة وخسيسة، تدفع من هو أصلًا على حافّة الهاوية خطوةً أخرى، لكنّها فعّالة.
إذا كان الجميع باردين، فستنجذب الأميرة، شاءت أم أبت، إلى دفء شخصٍ واحد.
وفوق ذلك… راق له الوضع.
تخيّل أميرةً لا تتعلّق إلّا به وحده، فشعر بوخزٍ في أطراف أصابعه، وارتفع طرف فمه دون وعي.
“اجلسي.”
قالها بعينين حمراوين ممدودتين وابتسامةٍ خفيفة، وكان في إذنه أمرٌ صامت بالاستمرار على هذا النهج مستقبلًا.
“ما غايتك؟”
سألها بعد أن جلست، وقد خفّ حدّته قليلًا، لكنّ نبرته الضاغطة ظلّت كما هي.
“أأبدو لكِ أحمق؟ أنتِ لا تتحرّكين بلا سبب، فلماذا تساعدينني؟”
“جلالتك شخصٌ مخيف، يمكن إدراك ذلك حتّى دون بصر.”
“لا أذكر أنّني أمسكتُ بطوقك.”
لم يُصدّق روشان، غير أنّ جواب أليسيا كان صادقًا.
كانت تخشاه حقًّا.
شعرت بوضوحٍ بذلك الأثر الهائل القابع في جسده، ذلك الأثر الذي يُقال إنّه من بقايا نعمة الإلهة التي نزلت أحيانًا على سلالة بيستيوس، أحفاد ابن الإلهة ومؤسّس الإمبراطوريّة.
“…أنت من أسقط مملكة سيداس.”
قالت ذلك بعد تريّث، فومض روشان بعينيه ثم أومأ مرّتين.
“صحيح، أليست تلك بلادك الأصليّة؟”
“اعتبر ذلك ثمنًا لما فعلت.”
كان يعرف على نحوٍ عامّ ماضي أليسيا، يتيمةً نجت من حريقٍ عظيم ونشأت في دار أيتام، ولم يكن يجهل أنّ كرهها لوطنها لا بدّ أن له سببًا.
حتى بين أتباعه من يكره بلده إلى حدّ العداء.
لكن مهما كان السبب، فليس هذا ممّا ينبغي أن يصدر عن شمّاعةٍ تطلب الرحمة.
ضحك روشان بسخرية وقال.
“أبدأ أشكّ في أنّ الحاكم التي تخدمينها هي فعلًا النور الرؤوف.”
—
كان الوقت أوائل الربيع، لكنّ الطقس اعتدل كثيرًا خلال عشرة أيّام.
وبالمقارنة مع إمبراطوريّةٍ أكثر دفئًا، رأت ييرينا، ابنة سيداس الباردة، أنّ هذا الطقس هو ربيعٌ مكتمل، فأطلقت زفرةً خفيفة.
‘لا بدّ أنّ البراعم قد نبتت في الوطن الآن.’
اشتاقت إلى بلادها، إلى العشب الممتدّ أمام قصرها، وإلى الأشجار العظيمة التي تفوح منها رائحة الحياة، وإلى الأزهار التي كانت تتفتّح في مثل هذا الوقت.
لكنّ أكثر ما اشتاقت إليه كان…
“بمَ تفكّرين؟”
سألها ‘كيان’، وقد حضر دون أن تشعر، قبل أن تغرق في كآبتها.
ارتبكت ييرينا وتراجعت عن النافذة، فاصطدمت بشيءٍ ما وكادت تسقط.
“انتبهِي، في الأرضيّة تجويف.”
“آه….”
أمسكت يدٌ قويّة بها في اللحظة الأخيرة.
وبعد أن استعادت توازنها حاولت الابتعاد، غير أنّه تمتم معتذرًا، وأبقى على قبضته، يقودها إلى الأريكة.
كان إرشاده طبيعيًّا لدرجة أنّها لم تستطع الاعتراض، وجلست حيث دلّها.
“سأصلح ذلك الموضع بحلول الغد.”
“شكرًا لك، لكن متى جئت؟ وأين ذهبت جال…؟”
سألت عن إحدى الشمّاعات، التي كانت حاضرة قبل قليل، غير أنّ أثرها اختفى.
“غادرت عند دخولي.”
“آه… يبدو أنّ الساعة صارت الثانية.”
“لا، الطريق ذاب جليده كلّيًّا، فوصلت أبكر من المعتاد.”
استغربت خروج الشمّاعة دون تحيّة، لكنّها لم تُعلّق، ومدّت يدها تتحسّس الطاولة بحثًا عن قارورة الماء.
“أأقدّم لك الماء؟”
لكن قبل أن تعثر عليها، كان كيان قد تناول القارورة.
فهزّت رأسها.
“…كنتُ أنوي أن أسقيك كأسًا.”
“لا بأس، حين أكون هنا، آمري فقط.”
كان قصده لطفًا، غير أنّ المرارة تسلّلت إلى قلبها.
منذ فقدت بصرها، صارت تعتمد على الآخرين أكثر، رغم كونها أسيرة.
التعليقات لهذا الفصل " 36"