“……يبدو أنّني ثرثرتُ بلا داعٍ، وقد قلتُ آنفًا إنّ هذا أمرٌ يحدث في كلّ مكان، فلا حاجة لأن تُظهري مثل هذا الوجه.”
لم تستطع ييرينا كبح غضبها بسهولة، فتمتم الرجل بصوتٍ خافت، وهزّت ييرينا رأسها وهي تضرب ركبتها بخفّة بقبضتها الصغيرة.
“ليس أمرًا يحدث في كلّ مكان! الأصل أنّ ذلك المقام كان يجب أن يكون من حقّك، فأنتَ الوارثُ الشرعيّ.”
“…….”
“لماذا لم تُقاتل؟ إنّه حقّك، أَلَمْ يظلمك ذلك؟”
“طلب منّي والدي، قبل أن يُفارِق الحياة، أن أتنازل عنه لأخي.”
“…….”
“ولَمْ يكن أمامي إلّا أن أوافق، فقد كنتُ قد قطعتُ معه عهدًا من قبل، أن أُلبّي له طلبًا واحدًا مهما كان.”
مع جواب الرجل الهادئ، أرخَت ييرينا قبضتها المشدودة.
أن يكون آخر طلبٍ لأبٍ يحتضر هو التنازل عن المقام لابنٍ غير شرعيّ… أيُّ شعورٍ خلّفه ذلك؟
وأيُّ قلبٍ امتلكه حين وفّى بذلك الطلب فعلًا؟
“أنا آسفة، تحمّستُ دون أن أعرف التفاصيل.”
“لا بأس، فقد قال لي جميع من حولي آنذاك إنّني كنتُ أحمق.”
كان الرجل يبتسم ابتسامةً عريضة وهو يتلقّى اهتمام المرأة، غير أنّ ييرينا التي لا ترى شعرت بأنّ صوته يحمل وحدةً خفيّة، وكأنّه خالٍ من أيّ تعلّق.
سكتت قليلًا تفكّر، ثم نادته.
“السير كيان.”
“نعم.”
“ذاك… عِشْ، عِشْ بجدّ.”
“…….”
“صوتك يوحي بالاستسلام، والاستسلام ليس أمرًا حسنًا، مهما كان الأمر صعبًا يجب أن تعيش، لتشعر بذوبان الثلج، وبقدوم الربيع.”
كانت كلماتها موجّهة إليه في البداية، لكنّها في نهايتها شعرت وكأنّها تخاطب نفسها.
حاولت ألّا تُظهر ذلك، غير أنّ شعور الذنب لفقدان عائلتها، والرغبة في ترك كلّ شيء واللحاق بهم، كانا يهجمان عليها بلا إنذار.
لذلك كانت تُحدّثه وتُحدّث نفسها في آنٍ واحد.
“ربّما بعد عامٍ أو عامين تأتي أيّامٌ جيّدة، وربّما يأتي يومٌ تستعيد فيه ما هو لك، أو حتّى إن لم تستعده، قد يأتي يومٌ تستطيع فيه أن تبتسم مرّةً واحدة على الأقلّ.”
“…….”
“أتمنّى أن تعيش بكلّ ما لديك من قوّة، وأنتَ تحمل هذا الشعور في قلبك.”
“…….”
“آه، أنا آسفة، لقد قلتُ كلامًا في غير موضعه…”
كانت تحبس دموعها وتُكمِل حديثها، لكن حين لم يأتِها أيّ ردّ، خجلت وظنّت أنّها أسهبت بلا داعٍ.
خفضت رأسها لتُنهي كلامها، غير أنّ الرجل سبقها وأجاب بعد برهة.
“لا.”
“…….”
“سآخذ كلامك على محمل الجدّ، ولكن…”
“…….”
“…يجب عليكِ أنتِ أيضًا أن تلتزمي به، مهما حدث.”
كان صوته جادًّا.
تردّدت ييرينا ثم أومأت برأسها وقالت.
“سأفعل.”
لكنّ الأمر كان غريبًا.
ما إن أجابت، حتّى شعرت بقشعريرةٍ وكأنّ نصلًا لامس عنقها.
ارتجف جسدها قليلًا وهي تتحسّس عنقها، أمّا الرجل الجالس أمامها فكان يحدّق فيها بوجهٍ غامضٍ لا يُقرأ.
—
دبّت نسماتٌ دافئة في القصر الأزرق بعد زمنٍ طويل.
جلس سيّد القصر مسترخيًا، لا يُخفي بهجته، وراح يرتشف خمرًا نفيسًا.
“مولاي، يبدو أنّ أمرًا حسنًا قد وقع.”
سأل لوك، كبير خدّام القصر الأزرق، الذي خدم روشان لأكثر من عشرين عامًا، بحذر.
لم يُجِبه روشان كعادته، واكتفى بإيماءةٍ يطلب بها المزيد من الخمر.
حتّى تلك الإيماءة الخفيفة أفصحت عن مزاجه، فابتسم لوك وصبّ الخمر الأحمر في كأس سيّده دون كلمة.
“انصرف الآن، وعندما يصل الضيف أدخله فورًا، لا حاجة لاستئذان.”
“نعم، مفهوم، مولاي.”
بعد أن شرب كأسًا آخر، ناول روشان الكأس الفارغة وأصدر أمره.
انسحب لوك حاملًا الصينيّة، فيما أسند روشان جسده إلى ظهر الأريكة وأغمض عينيه، ثم أدخل يده في الجيب القريب من صدره.
راح يُمرّر أصابعه على شريط الزينة المصنوع من الخرز.
رنّ الصوت رنّةً واضحة، وتسلّل معه صوت امرأة إلى أذنيه.
‘ليس أمرًا يحدث في كلّ مكان! الأصل أنّ ذلك المقام كان يجب أن يكون من حقّك، فأنتَ الوارثُ الشرعيّ.’
حين استعاد ملامحها وصوتها وهي تُركّز عليه وحده، امتلأ وجهه بابتسامةٍ عارمة.
‘لماذا لم تُقاتل؟ إنّه حقّك، أَلَمْ يظلمك ذلك؟’
لم يشعر يومًا بالحياة نابضةً في صدره كما شعر بها الآن.
أن تغضب امرأة لأجله، وأن تتعاطف معه… جعل الدم يغلي في عروقه، وأشعره برضاٍ لا يُضاهى.
سكر لم يعرفه من قبل داهمه بعد كأسين أو ثلاثة، فأرجع ذلك إلى الخمر، ومع ذلك نطق بما لم ينطقه من قبل.
“…بهذا لا يبقى لي خيارٌ سوى الاعتراف.”
اتّجه بصره نحو المرأة التي حبسها في البرج يومًا بعد يوم.
سواء كانت نائمة أم غارقة في اللاوعي، كانت صورة الأميرة الشقراء العمياء تسيطر على ذهنه.
تذكّر كيف استيقظ ذات مرّة من حلمٍ رآها فيه بثوبٍ خفيف، كيف داهمه رجفٌ خفيف بعد ذلك، فانفجر ضاحكًا.
ثمّ فجأة توقّف عن الضحك، وسحب يده من جيبه ومشّط شعره الأسود، فإحساسٌ آخر كان يتبعه دائمًا بعد نشوة الرضا.
‘لو علمتُ أنّني روشان ڤيستيوس…’
فكرة أنّه يخدع أميرةً عمياء، واحتمال انكشاف الأمر، وما قد يعنيه ذلك من ضياع هذا الرضا، كانت تثير اشمئزازه.
‘مولاي، لم أسمع قطّ عن شخصٍ في حالة الأميرة يستعيد بصره، إلّا في الأساطير.’
قال الطبيب بوضوح إنّ احتمال أن تُبصر الأميرة من جديد معدوم.
ثم إنّ من يستطيع الاقتراب منها في البرج لا يتجاوز أولئك الذين اختارهم بنفسه.
إذًا فاحتمال انكشاف الأمر ضئيل، غير أنّ عناصر القلق ما زالت قائمة.
‘جين، وتلك العاميّة، والإمبراطورة ليليانا، و…’
أخذ روشان يُعدّد في ذهنه العوامل التي قد تُربك خطّته.
‘…وقبل كلّ شيء، أخي هو الأخطر، فبإمكانه العثور على الأميرة في أيّ وقت.’
مرّر يده على مقبض سيفه القريب.
هل يقطعهم جميعًا؟
فتح عينيه وهو غارق في التفكير.
“مولاي، الشمّاعة التي طلبتموها وصلت.”
في تلك اللحظة، أُعلن وصول أليسيا، وتردّد صوت فتح الباب.
حوّل روشان نظره الأحمر إلى المرأة البيضاء التي كانت تتقدّم نحوه، وتلألأت خيوط التطريز الذهبيّ على العصابة التي تغطّي عينيها.
“أحيّي جلالتك.”
توقّفت أليسيا أمامه وانحنت باحترام.
راقبها روشان قليلًا، متعجّبًا من كيف تتصرّف كمن يُبصر رغم فقدانها للبصر، ثم قال.
التعليقات لهذا الفصل " 35"