“حتى لو كان إنقاذ حياة، كان عليكِ أن تعتني بجسدكِ أوّلًا. أنتِ مختارة خصيصًا من الإلهة، يا سيّدة أليسيا.”
وكان قلقهما في محلّه. فقوّة الإيمان، وإن كانت من أسرار المعبد التي لا يعرفها العامّة، متّصلة بالحياة ذاتها.
الإفراط في استخدامها لا يؤذي الجسد فحسب، بل قد يودي بالحياة. غير أنّ أليسيا كانت قد أنفقت مقدارًا هائلًا من القوّة دفعة واحدة من أجل ييرينا التي سقطت آنذاك، ولا تزال آثار ذلك تلازمها منذ أيّام.
“كان ذلك خياري، فلا بأس. لكن اسمعاني… ساعداني على النهوض. لا أقوى على الوقوف وحدي…….”
ابتسمت أليسيا ابتسامة خفيفة توحي بالطمأنينة، وطلبت مساعدتهما. لم تعودا تجادلانها، بل ساندتاها كما أرادت. وبخطوات متمايلة، اتّكأت عليهما ونهضت بصعوبة.
وبينما هي مسنَدة إليهما، انحنت مرّة أخرى أمام تمثال الإلهة، ترفع صلاة. وفي تلك اللحظة، دوّى في أذنها صوتٌ يستحيل نسيانه.
‘أليسيا.’
امتلأ بصرها الذي لا يرى بنيرانٍ حمراء متأجّجة، ولوّحت في اللهيب أطراف فستان أسود. ومن وسط النار، ضحكت امرأة قهقهة عالية وقالت:
‘أليسيا، أنا ساحرة. ساحرة. أليس هذا مدعاة للحمد؟’
أغمضت أليسيا عينيها العمياء، ودفنت صورة المرأة في أعماقها، ثم أدارت رأسها نحو الخلف، ورفعت في سرّها صلاة إلى الإلهة التي تؤمن بها.
‘هذا آخر رجاء لعبدتكِ.
امنحيني فرصة أن أرى نهاية الأميرة، لأطفئ النار المشتعلة في صدري.’
—
انقضى الشتاء العاصف بالثلوج شيئًا فشيئًا. ورغم بقاء البرد، أخذت الشمس تطيل زمن سيطرتها.
‘لقد صار أدفأ قليلًا. لعلّ الربيع بات قريبًا.’
جلست ييرينا قرب النافذة، وقد تحسّن جسدها كثيرًا، تُصغي إلى صوت قطرات الماء المتساقطة من أطراف الجليد المدبّبة. ومنذ فقدت بصرها، صارت تشعر بالطقس والفصول عبر مثل هذه التفاصيل الصغيرة.
“سيّدتي ييرينا، هل تتناولين بعض الحلوى؟”
سألت جين، بعدما انتهت من تنظيف خزانة نادرًا ما فُتحت، وهي تنفض الغبار عنها. ربّتت ييرينا على بطنها الممتلئة قليلًا، وهزّت رأسها نافية.
“ما زلت شبعانة.”
[هاي مني الشبعانة 😭]
بعد محاولة التسميم، تحسّنت وجبات ييرينا تحسّنًا ملحوظًا. فقد قُدّمت لها أطعمة غنيّة باللحم والجبن والمكوّنات الفاخرة، فضلًا عن سلّات كاملة من الحلويّات كلّ يومين.
‘إنّ ما حدث من محاولة تسميم كان تقصيرًا منّي. أعتذر.’
‘لا أظنّ أنّ اللوم عليكِ، يا أليسيا. لكن هل قُبض على الجاني؟’
‘المعبد يحقّق في الأمر سرًّا. وسأعلمكِ فور ظهور النتائج. وهذا أيضًا… من الآن فصاعدًا، قبل كلّ وجبة، المسوا الطعام بهذه الملعقة. إنّها مشبعة بالقدرة، وستتغيّر لونًا إذا لامست شيئًا ضارًّا. يا جين، أرجوكِ راقبي ذلك في كلّ مرّة.’
‘نعم، يا سيّدتي أليسيا.’
وبفضل الأداة التي تركتها أليسيا، خفّ القلق من السمّ. غير أنّ الجاني وهدفه ما زالا مجهولين، فكانت ييرينا تستيقظ أحيانًا من نومها على قلقٍ مبهم.
“إذًا، تناوليها لاحقًا. ما زال لدينا الكثير من الكعك.”
“سأفعل. بالمناسبة يا جين، كم الساعة الآن؟”
“شارفت على الثانية.”
لمع الترقّب على وجه ييرينا حين سمعت ذلك. لم تشعر هي بتغيّر ملامحها، لكن جين رأت مشاعرها مكشوفة، فاسودّ وجهها.
‘إنّها تنتظر.’
منذ أيّام، صارت ييرينا تحسب الوقت منتظرة قدوم شخصٍ ما، ولم يكن سوى فارسها الحارس، كيان… أي روشـان.
بدأت ييرينا تلقي التحيّة على الفارس الذي كانت تتجاهله كأنّه غير موجود، بعد حادثة التسميم. فقد سمعت من أليسيا أنّ له دورًا كبيرًا في إنقاذها، فصارت، وإن بحرج، تبادله الكلام. ثم، وبعد جدالٍ صغير مع أليسيا قبل أيّام، بدأت تنتظره.
‘لا يجوز.’
‘لكن…….’
‘أفهم قلقكِ على المملكة. غير أنّكِ، يا سيّدتي ييرينا، تنتمين الآن إلى معبد النور وتدرسين الإيمان. الاهتمام بالسياسة محرّم.’
‘سياسة؟ وماذا بوسعي أن أفعل؟ إنّما أقلق على وطني…….’
‘وهذا هو موضع الخطر. إن حدث شيء للمملكة، فلن تقدري على التركيز في إيمانكِ.’
قالت أليسيا ذلك بوجه لم تره ييرينا من قبل، بصرامة جعلتها تعجز عن الردّ. حتى جين حبست أنفاسها.
‘الآن، الدراسة الإيمانيّة أولى. يجب أن تنكسر اللعنة سريعًا بالرحمة، وإلّا فكيف تبلغين ما تريدين؟ أليس كذلك؟’
قالت أليسيا ذلك حتى وهي تغادر.
وبينما كانت جين تراقب وجه ييرينا الحزين بقلق، تكلّم الرجل:
‘قيل إنّ أولى القرابين من مملكة سِيداس وصلت بسلام.’
‘ماذا……؟’
‘لم يُذكر اسم المملكة في أيّ اضطراب. غير أنّ بعض الشائعات السيّئة دارت حول الملك الجديد.’
أدركت ييرينا أنّ الحديث عن وطنها، فأنصتت بكلّ جوارحها، بينما أخذ الفارس يحدّثها بهدوء عمّا تريد معرفته.
‘ألن يكون في هذا خطر عليك؟’
‘لا بأس، ما دمت تحافظين على السرّ، فلن يعلم أحدٌ أنّني أتحدّث مع نفسي.’
‘……شكرًا لك.’
ومنذ ذلك الحين، توثّقت العلاقة بين الأميرة وفارسها.
وشكّت جين في أنّ روشان وأليسيا رتّبا الأمر، لكنّها لم تستطع قول شيء.
‘وإن عرفتِ الحقيقة يومًا…….’
هزّت جين رأسها وهي تنظر بقلق إلى وجه الأميرة الجاهلة، ثم أقنعت نفسها بالصمت. فالتدخّل لا يعني سوى التهلكة.
—
كانت أوراق الشجرة المقدّسة لوبِـيـو، المشبعة بحقد التنّين الأحمر، سمًّا قاتلًا لسلالة سِيداس الملكيّة، أمّا عصارة الشجرة التي بقي فيها حبّ الأبناء والأحفاد، فكانت تملك قوّة تطهير السمّ.
التعليقات لهذا الفصل " 33"