‘ييرينا. هذا ليس حلمًا. إنّه واقعُكِ.’
قال الأبُ الراقدُ بوجهٍ شاحب، وهو ينهض فجأةً نصفَ نهوض.
كان جسدُه الذي بدأ يتعفّن ينساب منه الدمُ وقطعُ اللحم كأنّها تتساقط.
أغمضت ييرينا عينيها بإحكام، وأحاطت رأسَها بذراعيها، ثمّ سقطت جاثية.
‘لقد بقيتِ وحدَكِ، أيتها الأميرةُ المتلألئة.
بل الملكةُ المتوهّجة، وحدَها.
خسرتِ الجميع، وصرتِ وحيدة.
آه، ما أقسى وحدتكِ.
عشيقٌ ولا زوج، أربعُ بناتٍ ولا عائلة.
ملكةٌ مسكينةٌ فقدت كلَّ شيء.
لكن، أيتها الملكة.
يا أميري المضيئة.
كلُّ هذا كان من صُنعِكِ.’
أظلمَ البصرُ تمامًا.
صوتٌ كانت قد سمعتْه يومًا، ومع ذلك بدا غريبًا، أخذ يرنّ كأنّه أغنية.
كان اللحنُ عذبًا، غير أنّ الكلمات التي لم تفهمها بدت لييرينا ضجيجًا مرعبًا.
فتحت عينيها لتحدّق في مَن يُغنّي.
لكنّ الأمر كان غريبًا.
حتى بعد فتح عينيها، لم ترَ شيئًا.
المشهدُ ذاته، ظلامٌ دامس، سواء أغمضتْ عينيها أم فتحتهما.
وقبل أن تستسلم ييرينا لليأس، تسلّل بردٌ مفاجئ يسري في جسدها.
‘ب، بارد…’
كادت أطرافُها تتجمّد وتسقط.
الملابسُ التي ترتديها بدت كأنّها جليد.
بردٌ ينفذ إلى العظام، جعلها تنكمش وترتجف بلا توقّف.
لم يكن الخوفُ من الموت بردًا هو ما سيطر عليها، بل وحدةٌ قاسية.
رعبُ البقاء وحيدة، وإحساسُ أنّها وحدَها في هذا العالم، أخذ ينهشها ببطء.
“لا. لا أريد أن أبقى وحدي… ها.”
وفي تلك اللحظة، بينما كانت تتمنّى وجود أيّ شخص، انزلقت بجسدها الجالس إلى الأسفل فجأة.
تبِع ذلك صوتُ ارتطام، ثمّ لفحها عبقُ الدمّ النتِن.
“…مـمـ!”
قبل أن تدرك أنّها سقطت مجدّدًا في بركة الدم، امتلأ فمُها وأنفُها بالسوائل القانية.
وبينما فقدت البصر، استيقظت سائرُ حواسّها لتعذّبها.
راحت ييرينا تتخبّط، وتمُدّ يدها إلى الأعلى.
عند أقصى امتدادٍ لأصابعها، لمست شيئًا ناعمًا.
حاولت تحريك ساقيها ومدّ يدها أكثر.
فشعرت بملمسٍ يشبه الفرو تحت كفّها.
ما إن قبضت عليه بقوّة، حتّى انحسر الدم فجأة، ثمّ اختفى تمامًا.
أطلقت ييرينا أنفاسًا متقطّعة، وركّزت على ما تمسكه بيدها.
كان طويلًا.
يشبه الصوف، لكنّه أصلب منه قليلًا، ومع ذلك ناعم.
ولأنّها لا ترى، مدّت يدها الأخرى لتتحسّس الشيء بدقّة.
ششش.
وفي اللحظة نفسها، اخترق سمعَها صوتٌ مقزّز، صوتُ أفعى.
وعندما تحسّسته مجدّدًا، أدركت أنّ النعومة لم تكن سوى قشور زاحف.
ملمسٌ أملس، لكنّه بثَّ قشعريرةً في جسدها.
“آآآه!”
صرخت ييرينا فزعًا وأفلتت يدها.
وفي الوقت ذاته، ناداها أحدهم.
“سيّدة ييرينا.”
تبدّل الهواءُ المحيط بها تبدّلًا كاملًا.
رمشت بعينيها العمياء مرارًا، محاولةً إدراك مكانها.
إحساسُ الفراش المألوف، والرائحةُ التي اعتادت عليها.
أدركت فورًا أنّها في غرفة نومها داخل البرج.
مدّت يدها تتحسّس حولها، لكنّها أمسكت بشيءٍ دافئٍ في موضعٍ لم يكن ينبغي أن يكون فيه شيء.
“هل استعدتِ وعيَكِ قليلًا؟”
في اللحظة التي شعرت فيها بأنّها حرارةُ جسدٍ بشريّ، جاءها صوتُ رجلٍ من مسافةٍ قريبة.
وعندها فقط أدركت أنّها كانت تتحسّس الرجل نفسه.
انتفضت وسحبت يدها بسرعة.
لم تقصد ذلك، لكنّ إدراكها لما فعلت أربكها.
“ما زالت لديكِ حرارة.”
لذلك لم تقل شيئًا، وبقيت ساكنةً بينما يده تتحسّس جبينها.
وحين انسحب ذلك اللمس البارد، رفعت جسدها العلوي ببطء.
“هذا ماء.”
ناولها الرجل كأسًا من ماءٍ فاتر.
حرّكت شفتيها كأنّها ستتكلّم، لكنّ ألم حلقها جعلها تشرب بصمت.
كان حلقها يؤلمها كأنّه يُخدَش مع كلّ جرعة.
فكّرت أنّها لا بدّ أنّها صرخت طوال يومٍ كامل.
ثمّ أعادت الكأس.
“ما زال حلقكِ يؤلمكِ؟
هل أقدّم لكِ المزيد من الماء؟”
سألها بعدما رآها تفرغ الكأس دفعةً واحدة.
هزّت رأسها نافية، وأزاحت الخصلات اللاصقة بوجهها.
ثمّ أدركت فجأةً أنّ ما ترتديه هو ثوبُ النوم، فارتبكت ورفعت الغطاء إلى خصرها.
“الراهبة أليسيا والآنسة جين اضطرّتا إلى المغادرة قليلًا، فبقيتُ هنا مؤقّتًا.
خشيةَ أن تسوء حالتكِ.”
شرح لها سبب وجوده بجوارها.
لم تفهم ييرينا الموقف تمامًا، لكنّها اكتفت بهزّ رأسها.
ثمّ خطر لها سؤال.
“كم مضى وأنا على هذه الحال؟”
“…هل تتذكّرين إغماءكِ؟”
أومأت برأسها بوجهٍ قاتم.
لم ترَ، لكنّ شعور الدمّ المتصاعد من صدرها وصعوبة التنفّس كانا واضحين في ذاكرتها.
‘مَن فعل هذا… ولماذا؟’
منذ وصولها إلى الإمبراطوريّة، لم تفكّر ييرينا في التسميم.
فهي ليست بجوار الإمبراطور، بل أسيرةٌ محتجزة في برج.
أترى أنّ أمرًا سياسيًّا يتعلّق بمملكة سيداس وقع دون علمها؟
أم أنّ بيانكا، التي صارت أمّ الملك الجديد، دبّرت شيئًا؟
‘…ربّما كان الموتُ أرحم.’
قبضت على يدها ثمّ أرخَتها.
ما الجدوى من كلّ هذه التخمينات؟
ذكرياتُ أسرتها في الكابوس أعادت مشاعرها إلى القاع.
قرأ الرجلُ مشاعرها بسرعة.
نظر إلى وجهها الخالي من أيّ رغبة في الحياة، ثمّ قال:
“لم تستعيدي وعيكِ لمدّة أربعة أيّام.
ألا تشعرين بالجوع؟”
“أربعة أيّام؟”
بدلًا من الإجابة، ردّت بسؤال.
كانت تظنّ أنّها فقدت وعيها نصفَ يومٍ لا أكثر.
اتّسعت عيناها دهشة، ثمّ انحنت رأسها وهي تتخيّل حالها البائس.
لم تكن ترى، لكنّ ثوب النوم المبتلّ بالعرق كان ثقيلًا، وشعرها لا بدّ أنّه فوضويّ.
احمرّ خدّاها.
غير أنّه ليس شخصًا يمكنها أن تطلب منه المساعدة على الاغتسال، فاكتفت بالارتباك.
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة جدًّا على وجه الرجل.
لم تكن تعلم كيف ينظر إلى احمرار وجنتيها، فتماسكت متظاهرةً بالهدوء.
حدّق فيها طويلًا، ثمّ نهض بأسف.
“سأكون في الخارج.
إن احتجتِ شيئًا، نادي.”
ومع صوت احتكاك ملابسه، التفتت نحوه بلا وعي، ومدّت يدها.
وأمسكته قبل أن يتحرّك.
“هٰذا…”
لم تفهم ييرينا نفسها.
غير أنّ كلمة ‘وحدي’ لمعت في رأسها، فتحرّك جسدها من تلقاء نفسه.
“آسفة. لا أدري لماذا فعلتُ ذلك.
تفضّل بالخروج.”
قالت وهي تُبعد يدها وتشيح بوجهها تمامًا.
لم يُخفِ الرجلُ خيبةً عابرة حين ابتعدت يدُها ونظرُها عنه.
“إذن…”
تراجع ببطء كما أرادت.
لكنّ الأميرةَ العمياء لم تكن تعلم أنّه كان يبتعد دون أن يدير ظهره، مثبتًا بصره عليها حتّى آخر لحظة.
—
طق.
طق.
صوتٌ يثير الأعصاب دوّى في الغرفة.
كانت ليليانا تعضّ أظافرها المرتّبة، تمشي ذهابًا وإيابًا، ثمّ توقّفت فجأة.
التقطت مزهريّةً كريستاليّة صغيرة، وقذفتها بكلّ ما أوتيت من قوّة.
تحطّمت المزهريّة، وتناثرت شظاياها والزهورُ الورديّة.
ما كان زينةً جميلة تحوّل إلى حطامٍ غارقٍ في الماء.
لكنّ ليليانا، حين رأت الحوافّ الحادّة للشظايا، هدأت على نحوٍ غريب.
ركلت القطع بقدمها، ثمّ جلست على الأريكة قرب النافذة.
“هل أقدّم الشاي؟”
“نعم.”
أومأت لها، فتولّت لونا الأمر.
وبعد أن جاء الشاي، صرفت لونا الجميع، وصبّت لها بنفسها.
أغمضت ليليانا عينيها وهي تشرب، ثمّ فتحتهما بعد حين.
“لونا. ما الذي حدث؟
ما جلبتِه كان بلا شكّ خاليًا من الخطأ.”
كانت قد اختبرت السمّ بنفسها على الطيور والحيوانات الصغيرة.
وكانت تعلم، كما تعلم لونا، أنّها تجد لذّةً في مشاهدة الأرواح وهي تزهق بين يديها.
ومع ذلك، لم يصلها خبرُ موت أسيرة البرج.
“…هل انتبهتْ وألقت الطعام؟”
“لا أظنّ ذلك.
يقال إنّ الراهبةَ الكبرى المكلّفة بتعليمها مكثت طويلًا في البرج.”
“آه… تلك العمياء البشعة؟”
“نعم.”
“كان السمّ فوريًّا، حتّى نعمة القوّة يصعب أن تمنعه.
يبدو أنّها كانت معها لحظة ابتلاع السمّ.
يا لها من قذرةٍ محظوظة.”
كانت ليليانا تعرف مدى فتك السمّ الذي استخدمته.
غير أنّ الخطة فشلت، ولم يبقَ سوى القبول بالنتيجة.
“لا بأس. ستأتي فرصٌ أخرى.
طمستِ الآثار جيّدًا، أليس كذلك؟”
“بالطبع.
حتى الشخص الذي نفّذ الأمر تمّت تصفيته.
لن يُذكر اسمُ جلالتك. “
“أحسنتِ.”
لم يظهر على وجهها أيّ شعورٍ بالذنب.
صفّقت فجأة، وقد خطر ببالها حفلٌ قريب، وبالأخصّ روشـان.
“سأراه قريبًا.
كيف سيكون وجهه حين يراني؟”
كان صوتها هامسًا رقيقًا، وخدّاها محمران كلوحةٍ جميلة.
لكنّ الجنونَ الراقد في عينيها الزيتونيّتين كان كافيًا لبثّ القشعريرة.
التعليقات لهذا الفصل " 31"