لم تستطع يِيرينا أن تنهض بسهولة.
وكان ذلك طبيعيًّا، إذ إنّ الحساء الذي تذوّقت منه بضع ملاعق كان ممزوجًا بسُمٍّ قاتل.
كانت جين تتذكّر بوضوح لحظة تقيّؤ يِيرينا للدم.
اليدان والفم وقد غمرهما الاحمرار بالكامل.
مشهدٌ صادم لم تألفه، حتى شعرت بالبرد يسري في جسدها كلّه.
لكن لحسن الحظّ، نجت يِيرينا من الموت.
وذلك بفضل تدخّل أليسيا الفوريّ، التي دخلت الغرفة مباشرةً بعد سقوطها.
‘جين. تنحّي جانبًا.’
تذكّرت جين ملامح أليسيا في تلك اللحظة.
دخلت الكاهنة بوجهٍ هادئ، بلا أيّ أثر للذعر.
ثم وضعت يدها فوق صدر يِيرينا المغمى عليها، بينما كانت بين ذراعي روشان.
وفي لحظة، انتشر ضوءٌ ذهبيّ خافت.
وحين رأته جين، أدركت فورًا.
تلك هي القوّة الإلهيّة التي لم تكن سوى أسطورة على الألسن،
قوّة لا يُمنَحها إلّا عددٌ ضئيل جدًّا من الكاهنات المختارات.
ما إن تسلّل الضوء إلى صدرها، حتّى بدت ملامح يِيرينا أكثر ارتخاءً.
وقفت جين أمام المعجزة، عاجزةً عن الحركة لبرهة.
لكن ما إن تلاشى رهبة المشهد، حتّى امتلأ صدرها بالتساؤل.
‘…لم يكن هذا وقت مجيئها.’
دخلت أليسيا الغرفة فور انهيار يِيرينا.
بل وأكثر من ذلك، استخدمت قوّتها دون أيّ تردّد.
صحيح أنّها اىكاهنة المختارة،
وقد يكون في مقدورها صنع المعجزات.
ثم إنّ أليسيا، رغم فقدان بصرها، لم تكن تبدو يومًا عاجزة.
لذلك حاولت جين أن تقنع نفسها بأنّ أليسيا رأت كلّ شيء،
وحكمت عليه بقوّةٍ غامضة لا تعرفها.
‘كأنّها كانت تعلم أنّ هذا سيحدث.
والأمير أيضًا…
ما إن سقطت يِيرينا حتّى بادر وكأنّه كان ينتظر اللحظة، وأخرج الدواء…’
ومع ذلك، بدت مجريات الحدث مصطنعة على نحوٍ مريب.
شعرت جين وكأنّ كلّ شيء، باستثنائها،
يِيرينا المنهارة، والرجل الذي يحملها، وأليسيا التي ظهرت في الوقت المناسب،
لم يكن سوى مسرحيّة محبوكة بعناية.
‘لا يُعقَل…
هل تعمّدوا إعطاء يِيرينا السُّمّ…؟’
رفعت جين رأسها، الذي ظلّ منكّسًا طوال الوقت،
ونظرت نحو غرفة النوم حيث ترقد يِيرينا.
في الداخل، كانت الأميرة فاقدة الوعي،
وبجوارها غازٍ يتقمّص دور الحارس.
تذكّرت المشاهد القليلة التي رأتها داخل غرفة النوم أثناء خدمتها.
امرأة تهذي من شدّة المرض،
ورجل يراقبها في صمت…
‘تعالي. سأفعل أنا.’
تذكّرت جين الرجل الذي رمقته خلسة.
حين أخذ منها الماء والقماش، وبدأ يعتني بالمرأة المنهارة.
للوهلة الأولى، بدا خاليًا من أيّ شعور.
لكن يده التي وضعت القماش المبلّل برفق على جبينها المتعرّق،
وذقنه المشدودة قليلًا،
كانتا تحملان قلقًا لا يُنكَر.
وفوق ذلك، في عينيه الحمراوين،
كان يلوح، ولو لمحةً عابرة، شعورٌ بالرضا والترقّب.
‘كانوا يعلمون.
أليسيا، وسموّه أيضًا.
كانوا يعلمون أنّ طعام يِيرينا مسموم.’
تحوّل شكّ جين إلى يقين.
لم تعرف السبب،
لكنّ كلّ ما جرى كان جزءًا من خطّة ذلك الرجل المخيف.
‘لو أنّني أنا من تذوّقته…’
ندمت للمرّة الأولى على تولّي هذه المهمّة.
وأدركت، متأخّرة، أنّها وقعت في وضعٍ خانق يفوق توقّعاتها،
فرفعت يدها دون وعي تتحسّس عنقها.
“الآنسة جين.”
“نـ… نعم؟”
كان ذلك حين بدأت يدها ترتجف تلقائيًّا.
نادتها أليسيا، وقد لاحظت شرودها.
انتفضت جين، وتصلّبت، ونظرت إليها.
كانت تقف عند الباب،
ويبدو أنّها عادت لتوّها بعد أن خرجت لجلب الدواء.
“تعالي معي قليلًا.”
فتحت أليسيا الباب وأشارت بيدها.
وبعد قليل، وقفتا معًا في الممرّ.
تسرّب الهواء البارد عبر طبقات الفستان السميكة.
لكن جين لم تشعر بوخز البرد،
إذ كانت تحدّق بدهشة.
لم تكن قد لاحظت ذلك من قبل،
لكن ملامح أليسيا كانت شاحبة إلى حدٍّ مقلق.
بشرة باهتة، وإرهاق ظاهر للعيان.
وفي أقلّ من نصف يوم، بدت وكأنّها استُنزِفت تمامًا.
‘صحيح… قبل قليل…’
مرّ طيف صورتها بعد استخدام القوّة الإلهيّة في ذهن جين.
جذعٌ مائل إلى الأمام،
وكتفان هابطان،
لم يكن ذلك مجرّد وهم.
“هل أنتِ بخير؟”
سألتها جين بقلق.
ارتجفت زاوية فم أليسيا للحظة،
لكنّها سرعان ما تماسكت، وسألتها بدلًا من ذلك:
“لا تقلقي. إنّما أصابني بعض الإرهاق.
الأهمّ أنتِ.
صوتكِ يبدو واهنًا.
هل هناك ما يقلقكِ؟”
“أ…”
“…”
“أليسيا سيّدتي.
أنا… أنا خائفة.”
“ممَّ؟”
“ماذا؟”
تردّدت جين قليلًا، ثم كشفت عن مشاعرها بصراحة.
لكن الإجابة التي عادتها جعلتها تعجز عن الكلام.
“وما الذي يدعو جين إلى الخوف؟”
لم تكن أليسيا هنا لتستمع.
كانت قد استدعت جين لتقول شيئًا محدّدًا.
وأدركت جين ذلك، فأطبقت شفتيها.
“الآنسة جين.”
ساد صمت قصير،
ثم نادتها أليسيا من جديد.
ولمّا رفعت جين رأسها، قالت بصوتٍ ألين:
“يكفي أن تخدمي الآنسة يِيرينا كما تفعلين الآن.
إن التزمتِ بذلك، فلن يحدث أيّ سوء.
وبالطبع، ستعيش عائلتكِ برخاء.
هل سمعتِ؟
قيل إنّ عائلتكِ حصلت على منزل.
منزل جميل من طابقين في شارع لُويفه،
وسقفه أزرق.”
كان قصدها واضحًا.
لا تتدخّلي،
ولا تهتمّي إلّا بما كُلِّفتِ به.
وتيقّنت جين أنّ رسائل عائلتها التي لم تفتحها بعد
تحمل خبر المنزل الجديد.
‘نعم.
يكفيني أن أخدم يِيرينا سيّدتي،
وأطمئنّ على عائلتي.
ولا سبب لأن أهتمّ بما سواه.
بل لا ينبغي لي ذلك.’
ومع ذلك،
لم تشعر بالفرح.
بل بدا لها هذا الرخاء وكأنّه قيدٌ يطوّق عنقها.
—
رأت أمامها من جديد.
لكن يِيرينا لم تستطع أن تفرح باستعادة بصرها.
كانت غارقة في بركةٍ عظيمة.
سائلٌ لزج أحمر، يتماوج بشكلٍ مرعب.
“آااه!”
مهما صرخت، لم تستطع الخروج.
كانت البركة تمسك بها،
كما لو أنّ مئات الأيادي تشدّها إلى القاع.
بل والأسوأ،
أنّ منسوبها ارتفع ببطء،
حتّى بلغ صدرها.
“هـ… هل من أحد؟
أنقذوني!
أخرجوني من هنا!”
فكرة الموت غرقًا في هذا المكان وحدها كانت كافية لبثّ الرعب.
تخبّطت يِيرينا بكلّ ما أوتيت من قوّة.
‘يِيرينا.’
حين بلغ الدم عنقها،
أمسك أحدهم بيدها،
وجذبها بسهولة إلى الأعلى.
“أخي أنطونيو!”
رفعت رأسها بفزع،
فرأت وجهًا اشتاقت إليه حدّ الجنون.
أخوها الثاني، أنطونيو.
اندفعت تعانقه،
بين الذهول والفرح العارم.
‘أختي الصغيرة.’
“أخي ألآن!”
جاءها صوتٌ آخر،
ودود.
كان أخوها الأكبر.
فتحت عينيها على اتّساعهما،
ثم ظهر خلفه شخصان آخران.
‘طفلتي.
أغلى كنزٍ في حياتي.’
“أبي!
أمّي!”
أشرق المكان بضوء الشمس.
اختفت بركة الدم بلا أثر،
وقام القصر الملكيّ كأنّه مرسوم.
وقفت يِيرينا تحت شجرةٍ عظيمة في حديقة القصر،
تبتسم لعائلتها.
وكانوا يبادلونها الابتسام، كما اعتادوا دائمًا.
ضحكاتٌ تناسقت مع خضرة الصيف.
كدّرت الدموع بصرها،
فأغمضت عينيها.
وحين فتحتهما، تغيّر المشهد.
كانت مستلقية في صالون القصر،
رأسها على ركبة أمّها،
وأبوها وإخوتها ينظرون إليها.
صوت الحطب في الموقد
كان ينبئ عن فصل الشتاء.
‘ما الأمر؟
تستيقظين من القيلولة وأنتِ تصرخين؟’
تجمّدت ملامحها للحظة،
لكنّها ابتسمت وهزّت رأسها.
“لا شيء.
يبدو أنّني رأيت حلمًا سيّئًا.”
‘حلم؟’
“نعم.
كابوسٌ مروّع.
الجميع… باستثنائي…
لا، لا أريد قوله.
ولا التفكير فيه.”
توقّفت،
ودفنت وجهها في حضن أمّها.
قرصت الملكة أدورا خدّها برفق.
‘يا لكِ من مدلّلة.
إلى متى ستبقين هكذا؟’
“طوال حياتي.
سأبقى هكذا معكما.”
‘هاها.
انظري يا أبي.
يِيرينا لا تنوي الزواج.’
‘وما الضير؟
أنطونيو.
هي أختنا.
عيشي كما تشائين، يِيرينا.
أنا خلفكِ دائمًا.’
‘أيّها المشاغبون!
مع ذلك، يجب تزويج أختكم الوحيدة.’
تعالت الضحكات.
أغمضت يِيرينا عينيها،
وهمست:
“لن أتزوّج.
سأبقى هنا مع أمّي وأبي…”
لكن قبل أن تُكمِل،
انطفأت الشموع بصوت ريح.
وحلّ الظلام.
وحين فتحت عينيها،
تحوّلت عائلتها إلى ظلالٍ شفّافة،
ثم إلى دخانٍ تلاشى.
“أمّي؟
أبي؟
الأخ ألآن!
الأخ أنطونيو!
أين أنتم؟!”
نهضت فجأة.
لم يكن حولها سوى الظلام.
“إلى أين… آه!”
بدأت تركض.
ومن بعيد،
رأت عائلتها.
رفعت يدها،
لكن في اللحظة التالية،
سقطوا واحدًا تلو الآخر.
كان أوّلهم أنطونيو.
رمحٌ اخترق خاصرته.
ثم ألآن.
سهمٌ في ظهره،
وسيفٌ إمبراطوريّ أنهى حياته.
“لا!”
تذكّرت جثث إخوتها.
حاولت الاقتراب،
لكن المسافة لم تقصر.
اختفوا خلف دموعها.
ثم تكرّر المشهد ذاته.
كانت تشاهد فقط.
والرجل ذو العينين الحمراوين،
الوحشيّ،
أسقط والديها أمامها.
“توقّف!
أرجوك!
توقّف!”
لم يُجْدِ الصراخ.
وبينما كانت تصرخ،
امتدّ أمامها صفّ التوابيت.
كانت جثث عائلتها ممدّدة،
وكلّها تحمل تعبير ألمٍ واحد.
التعليقات لهذا الفصل " 30"