3
’أماه، أماه، لا أرتضي. لا أرتضي. وأنا كذلك…’
انقشعت الرؤى الحقيقية فجأة لتستحيل عتمة، وذابت في لججها الأجساد والمعالم. غير أن الأم، المكلومة، ظلت جاثمة بين ذراعيها. أطلقت ‘ييرينا’ صيحة مدوية في الرتاج القاتم، وهي تضم إلى صدرها جثمان الملكة التي ارتحلت إثر زوجها. نطقت الملكة المغمورة في حضنها، وثغرها يقذف العلق.
’يا ييرينا… يا كبدي… عليك وحدك أن تظلي على قيد الحياة. أنقذي ذاتك، ثم اثبتي وجودك حتما…’
ألحت عليها والدتها، بقلب قاس عليها لتركها، أن تستبقي حياتها، وهي تعتصر حنجرتها لتبث صوتا ما عاد يستجيب.
لوّحت ‘ييرينا’ برأسها كما كان في سابقة ذلك اليوم، مُطلقة صرخة الرفض، وتضرعت إليها ألا تتخلى عنها وترحل.
غير أن وهج الأمومة انطفأ رويدا رويدا، وتلاشى وراءه طيفها، حتى اضمحل تماما وأضحى هباء.
’أبي! أمي! أخي آلان! أخي أنطونيو!’
فاضت تضرعات الأميرة الملتاعة، متوالية بلا انقطاع.
استدعت روح والدتها ووالدها وإخوتها الذين غادروها وغابوا. وبطبيعة الحال، لم يكن بمقدور من مضوا إلى مملكة “هاديس” أن يجيبوها.
”لا تتركوني جميعا وحدي وتذهبون!”
شقت ‘ييرينا’ جفنيها صارخة في محاولة للهرب من فضاء لا يرتد إليه أي صدى لندائها.
ارتعشت أهدابها الذهبية كلون شعرها، دافعة قطرات الدمع الغزيرة.
”آه…”
لكن العتمة بقيت متجذرة. والفضاء لم يزل أسود قاحل. رمشت ‘ييرينا’ بدافع الغريزة، غير أن ناظريها الزرقاوين عجزتا عن استبيان أي شيء.
’ستعمين أيضا. لن تستطيعي الرؤية.’
دوى صوت قهقهة مفزعة من مصدر خفي، ثم تسلل همس ماجن إلى مسمع الأميرة.
ومع الرعب الذي استحوذ عليها آنذاك، انتفض الواقع الأليم المرفوض، الذي تجرعته بالأمس، كزخم موج عاتٍ قذف ‘ييرينا’ نحو العلاء ثم هوى بها ليصفعها.
تقرقع.
ارتجت قيود معصمها بقرقعة حادة إثر نهوضها المفاجئ. أطلقت الأميرة صرخة مفزعة، وهي لا تقوى على تثبيت وقوفها.
”آآآه!”
”أسرعوا! ائتوا بمزيد من السلاف!”
”ألم يشهد الجميع كيف حصدتُ رأس ذاك المارق حينها؟”
علَتْ ضوضاء صاخبة من مكان قصيّ. كان ‘روشان’ يقطع ممرا في الطابق الأول من القصر، يشرف على البستان، فاستشرف المشهد خارجا.
كان البستان البهيّ، الذي اكتظ بالزهور، قد نال منه وطء أقدام جنود الإمبراطورية، بما فيهم هو، لكن بعض رونقه ظل معقودا.
حوّر ‘روشان’ وجهته وارتاد البستان. كانت أجواء المملكة الواقعة في الشمال الشرقي من القارة تفيض اعتدالا، خلافا لقلب الإمبراطورية، حتى في وهج الصيف.
ولهذا السبب، ظلت ورود الصيف، التي كان قدرها أن تتفتح في القصر الإمبراطوري، تتراقص مع النسيم وهي بعدُ في كمائمها.
استقصى ‘روشان’ الأزاهير المتآلفة في جنسها، ثم استقر بصره على زنبقة بيضاء ذات طبقات مضاعفة، كانت قد تفتحت غضة بين البراعم. كانت تروي ببتلاتها المتعددة والمتراكبة جمالا آسرا ونقاء ساحرا. ‘روشان’، الذي لم يأبه يوما بالزهور، ارتأى أنها تستحق الانتباه، فاقتطف الزهرة اليانعة. وهكذا، جُنيت الزنبقة التي كانت تزهو بفتنتها الفردية دون اكتراث.
عبقت في خياشيمه رائحة قوية، غير أنها مألوفة. استعاد ‘روشان’ ذاكرته يستجلي موضع استنشاقه لهذا الأريج، فلما اهتدى إلى الجواب، اعتلت محياه تعابير مبهمة.
’أهي… الأميرة؟’
إنها ‘ييرينا’ أميرة سيداس الشهيرة. أسيرة المملكة المنهزمة والأنثى التي ستقدم لشقيقه من ذات الأب والأم. الحجة المعلنة لاندلاع هذا الصراع.
اختصر ‘روشان’ توصيف الأميرة التي تستثير أعصابه، وألقى بالزهرة التي كانت بين أنامله إلى الأرض ببرود.
تك. ومع خفوت صوت ارتطامها، تساقطت بعض بتلاتها وتبعثرت مع عطرها.
وفي غمرة تلك اللحظة، تجلت في خاطر ‘روشان’ ذكرى أول لقاء بالأميرة بوضوح ساطع.
في برهة إزهاق ‘روشان’ لروح ملك سيداس، تبينت له الأميرة المختبئة خلف العرش عبر الفضاء الذي انبثق لبرهة بين الرأس المنفصل والجسد.
كانت الأميرة، المتشبثة بمن تبدو مربية لها، تطلق صرخة صامتة بفم مطبق، وعيناها مشرعتان إلى أقصاهما، لحظة تطاير رأس أبيها.
ارتسم على مرآة روحه وجهها الشاحب حد الاصفرار، وارتسمت عليه تعابير الصدمة والهول جلية، كأنها حاضرة بين يديه.
وحينما بدأت الدموع الغزيرة تتساقط من مقلتي الأميرة، تراخت عضلات يده التي كانت تعتصر السيف دون قصد.
لم يفلت منه مشهد اندفاع الملكة نحوه وهي تطلق صرخات الفداء. غير أن تثبيت ناظريه على الأميرة جعل كل ما حوله يغدو مجرد خلفية شاحبة.
’أمي!’
عاد زمنه، الذي كان ينساب متثاقلا، إلى جريانه المعهود، وعادت الأجواء المضببة حوله لتتضح جليا.
قطب جبينه لا شعوريا حين رأى الأميرة تهرع نحو والدتها، ثم أمر أتباعه بالتوقف عن منعها.
ثم تلاقت الأنظار. استعاد ‘روشان’ وهج تلك اللحظة العابرة، فَتَقَلّص جسده دون وعي. لم يستبن السّر الكامن، لكن مزاجه تعكّر واعتراه اضطراب يطوف في فؤاده.
تقبض حاجباه إثر هذا الإحساس المستغرب. ضغط على قبضته قليلا، ثم أجهز على الزهرة البيضاء البائسة الملقاة على الثرى، ولوى عنقها حتى هشمت.
خَفّ وطأة كدره قليلا، لكنه استشاط ضجرا من التقلبات المستمرة في مكنونات روحه الغامضة. لعل الأجدى به أن يرتشف كؤوس السلاف في وحدته ويأوي إلى مضجعه باكرا.
رفع قدمه عن الزنبقة التي دمرت تدميرا كاملا، واستدار عائدا إلى مخدع الملك الذي غدا ملكا له.
ظل أريج الزنبق المسحوق يلاحقه في اضطراب مُحير.
”آآآه!”
كان ذلك حينما صعد ‘روشان’ الدرجة الأولى إلى الرواق. اخترقت صرخة خفيفة ممزوجة بالبكاء صخب قاعة الحفلات ووصلت إلى مسمعه.
صوت ذات الصرخات التي ألفها بالأمس. أدار رأسه نحو مكمن الصوت. ثم وجه قدمه نحو ذلك المكان لا إراديا وتوقف فجأة.
نظر إلى أسفل قدميه، ثم شد وجهه ببرود وحاول أن يدير جسده في الاتجاه المعاكس.
لكن صرخة أخرى، وصوت بكاء، جذبا انتباهه. في النهاية، تردد ‘روشان’ لبرهة، ثم اتجه نحو الموضع الذي انبعث منه الصراخ.
كان إيقاع خطاه أسرع قليلا من المعهود لسبب خفي. لكنه لم يدرك هذه الحقيقة، ولا أن حمرة عينيه ظلت مثبتة على وجهة واحدة دون انقطاع.
”آآآه!”
في سكون الليل المتأخر، علت الجلبة في المخدع الصغير الواقع بجوار القصر.
كان الحكيم يريق العقار في فم الأميرة التي كانت تتشنج بكامل بدنها، وكانت الوصيفات، الخادمات للغزاة، يدلكن أطراف سيدتهن البائسة بوجوه موحلة بالاصفرار.
حاولت المرأة التي رفعت صدرها في غمرة تلك الضجة، وقد أسدلت جدائلها الشقراء الطويلة، أن تهبّ متحركة بأي سبيل.
لكن على النقيض من ذراعيها وساقيها المرتعشتين والمضطربتين بقوة، كانت شفتاها الحمراوان تكتسيان زرقة الوجل، كأن شبح الموت خيّم عليهما، حتى خرير دقيق من الدماء كان ينزف منهما.
”تسك.”
أصدر الحكيم صوت استنكار وشد يده، دافعا العقار كاملا إلى فم ‘ييرينا’. ثم سد فكها بقوة ليمنعها من بصقه.
تك. ابتعلت ‘ييرينا’ العقار في النهاية وأرخت قواها من أطرافها وأرخت جسدها. كانت تجلس بوجه شارد، ساندة جذعها على مسند السرير، كأنها دمية انقطع خيطها.
اقترب الرجل ذو الشعر الأسود الذي كان يقف عند طرف السرير يراقب الفوضى، من ‘ييرينا’ ببطء.
أسرعت الخادمات اللواتي كن يمسكن بها إلى الإزاحة جانبا، وهن يخفضن رؤوسهن بسرعة عندما رأين ‘روشان’.
كان الحكيم لا يزال يغلق فم ‘ييرينا’، لكنه نزع يده بسرعة عندما رأى نظرته الحادة توجه نحو يده.
دقات قلبه القوية بينت إلى أي مدى كان متوترا.
”لم… لم تكن حالة الأميرة جيدة، لذلك استقدمت مهدئا قويا. لن تكون في وعيها.”
أومأ ‘روشان’ للطبيب، الذي كان يسرد حال ‘ييرينا’، بالتنحي. فامتثل الحكيم لأمره في الحين.
أَهوَى ‘روشان’، الذي صقل محياه بالشدة، بيده فجأة ليمسك بذقن ‘ييرينا’ بعنف وقسوة. لم تبدِ الأميرة، التي كانت تتنفس واهنة تحت وطأة العقار القوي، أي صد لقوته، بل أذعنت ورفعت رأسها.
”أف…”
تسلل أنين يشكو الوجع من جيدها الأبيض الممشوق.
لكن ‘روشان’ لم يعبأ، وظلت نظرته موجهة نحو مقلتيها الزرقاوين المتحجرتين اللتين لم تعكسا أي صورة، ثم حرك كفه بقسوة، يقلب رأس الأميرة يمنة ويسرة.
لم تلج العينان الكاسفتان للنور رغم دوران الرأس. لِما رأى من ثبات، سحب الرجل، الذي كان يبعث الحركة في الجسد كدمية، يده وكأنه يدفعها بعيدا.
ارتطم مؤخر رأس المرأة بمسند السرير قليلا، فأطلقت تأوّهًا مقتضبا، ثم أمالت رأسها يسيرا.
وكأنها استشعرت وجود ‘روشان’ الأقرب إليها، فوجهت هامة رأسها نحوه مباشرة.
كانتا عيني جثة، بلا بصر ولا حراك. لكن ‘روشان’ خالجه وهم التقاء العيون. فجعل عينيه ضيقتين ونظر إلى ‘ييرينا’.
وعقب هنيهة، شرعت ‘ييرينا’ بذرف الدموع فجأة لسبب لا يعلم. وقبل أن تشق دمعة واحدة خدها وتلامس شفاهها، رفعت زاوية فمها وابتسمت برقة متناهية. كانت ابتسامة حالمة، مبللة بأثر المخدر.
في تلك اللحظة، استبد الإحساس بـ’روشان’ كأن صاعقة انفجرت في هامة رأسه وسرت تياراتها نحو أخمص قدميه. شعر بوخز في بشرته، وتألّم خفيف في شقه الأيسر من صدره.
وبينما كان يلهث خلف هذا الإحساس الذي يختبره أول مرة في حياته، تهاوت الأميرة التي كانت تبتسم في سكينة. كانت عيناها المُسدلتان ورأسها المُطرق بوهن يماثلان هيئة جثة، فاستند ‘روشان’ جذعها المتداعي بكف واحدة والتفت صوب الحكيم.
”أجل، أجل… يظهر أنها استغرقت في نوم عميق بفعل العقار المهدئ.”
لم يعقب ‘روشان’ بعد أن استوعب كامل حديث الطبيب، بل رمق الأميرة الغارقة في سبات كالإغماء، ثم استدار بعنف قاطع. وتوجه نحو المدخل فورا.
كانت ملامحه مجردة من أي انفعال وهو يخطو، غير أن الحكيم شهق لا شعوريا وهو يحدق في شق وجه ‘روشان’. شعر بأن الأجواء تخنقه.
كُووم. أوصد الباب واحتجب ‘روشان’. تنهد الحكيم بعمق راحة إثر اختفائه، ومسح الندى البارد عن جبينه. ثم استذكر المريضة في الحين واستدار.
كانت الأميرة تسترسل في البكاء مجددا، وهي تستدعي عائلتها التي لم يعد لها وجود في هذا العالم، حتى وهي غارقة في سبات يشبه الإغماء.
كان حالها يبعث على الرثاء الشديد، لدرجة أن عيني الحكيم امتلأتا بالدموع وهمس بوجوم.
’… لعل العمى أرحم.
فمشاهدة وجه العدو كل يوم بعد أن تساق إلى هنا ستكون عذابا مقيما.’
Chapters
Comments
- 5 منذ 20 ساعة
- 4 منذ 20 ساعة
- 3 - كانت الفَجيعةُ مُروِّعةً. منذ يومين
- 2 - الأميرة العمياء. منذ يومين
- 1 - المُقدمة. منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 3"