“هاه؟
ذلك من حينها…”
اتّسعت عينا جين حين رأت ما بين صفحات الكتاب إلى جوار يِيرينا.
ورقةُ شجرٍ حمراء، ذاتُ شكلٍ يشبه القشور.
كانت إحدى أوراق شجرةِ اللوبيو المقدّسة، تلك التي احتفظنَ بها في طريقهنّ من مملكةِ سِيداس إلى الإمبراطوريّة.
أخرجت يِيرينا إحدى الأوراق المضغوطة بين الصفحات.
أمسكت بسويقتها بين أصابعها، وأدارتها ببطء.
دار سطحُ الورقة اللامع، وبعث ضوءًا جميلًا متلألئًا.
غير أنّ جين ارتعشت فجأة.
فاللون الأحمر المنتشر بدا لها كأنّه دمٌ يسيل ببطء.
“يِيرينا سيّدتي.”
كانت جين تحدّق في الورقة بقلق،
حين اقترب فريدريك، الذي كان يقف عند الباب.
لم تنتبه جين إلى الوقت إلّا بعد أن رأت ساعةَ الموقد، فأدركت أنّ موعد تبدّله مع الحارس الآخر قد حان.
ما إن سمعت يِيرينا صوت فريدريك، حتّى أعادت الورقة إلى الكتاب، وأومأت برأسها إيماءةً خفيفة.
تردّد فريدريك لحظة، محدّقًا في عنقها الذي صار فضفاضًا بفعل النحول، وكأنّه يريد قول شيء.
لكنّه ما لبث أن توتّر عند سماع حركةٍ في الخارج، فانحنى قائلًا:
“…أستأذن بالانصراف.”
تراجع مسرعًا، وما إن فتح الباب حتّى دخل شخصٌ كان يقف خارجه.
وفي اللحظة التي بلغ فيها صوتُ خطواته أذنَها، أغلقت يِيرينا الكتاب، وأخفت ورقةَ الشجرة، ثم وضعته إلى جانبها.
“هل تشعرين اليوم بتحسّن؟”
سألها “كيان” بلا تحيّة، وقد اقترب منها.
لم تُجِبه يِيرينا، بل نهضت متّجهةً نحو غرفة النوم.
لم تعرف السبب، غير أنّ نفورها منه ازداد منذ أن أُغمي عليها قبل أيّام.
لكنّها، وهي تحاول الفرار مسرعة، اصطدمت بحافّة الأريكة، ثم وجدت طريقها مسدودًا بجدارٍ صلب.
“سمعتُ أنّكِ لَمْ تتناولي وجبةً كاملة منذ الأمس.”
قالها الرجل وهو يسبقها إلى قوس مدخل غرفة النوم، ويقف حاجزًا في طريقها.
عبست يِيرينا، واضطرّت إلى التراجع نصف خطوة أمام هيبته.
فتقدّم هو بالمسافة ذاتها، وتابع:
“القدّيسة أليسيا طلبت منّي التأكّد من أنّكِ تأكلين.”
“…لا داعيَ لأن تهتمّ.
قم بعملك فقط.”
قالتها وهي تكبت رغبةً في الصراخ.
ساد صمتٌ قصير.
لم تكن تراه، لكنّها شعرت بنظره يفحصها من رأسها إلى قدمها.
سرت قشعريرةٌ في جسدها، فتراجعت نصف خطوةٍ أُخرى.
هذه المرّة لم يتقدّم.
لكن صوته جاء أكثر حزمًا:
“تَركُ الطعام ليس في صالح صحّتكِ.”
“اتركني وشأني!”
صرخت، وقد بلغت أعصابها حدّها.
بدت كحيوانٍ جريح، حادّ النظرات، مستميت.
“داسوا بلادي!
ذبحوا عائلتي!
وجرّوني إلى هنا!
ألا يكفي هذا؟
لماذا تُصِرّون على التحكّم بي كما يحلو لكم!”
كانت صرختها محمّلةً بمشاعر متراكمة منذ أيّام.
منذ وصولها إلى الإمبراطوريّة، بدت في نظر الآخرين كأنّها تقبّلت مصيرها إلى حدٍّ ما.
لكن الجراح التي لَمْ تُشفَ، والقلق الدفين، كانا ينهشانها من الداخل.
وحين داهمتها الهلاوس قبل أيّام، انفجرت المشاعر المكبوتة دفعةً واحدة.
“الأكل، والنوم، والتفكير…
دعوني أقرّرها بنفسي، أرجوكم!”
انهمرت الدموع على خدّيها.
ملامحها المنهارة كانت مرآةً لبؤسها واضطرابها.
رأت جين الرجلَ أمامها يقطّب جبينه ويرفع يده، فشبكت يديها وأغمضت عينيها بقوّة.
خافت…
خافت أن يضرب يِيرينا لمجرّد أنّها أغضبته.
لكن، على عكس مخاوفها، لم يلمسها الرجل.
توقّفت يده أمام وجه يِيرينا الباكي، ثم أنزلها، وتنهد بخفّة.
في تلك اللحظة، تفاجأت جين بالتعبير الذي ارتسم على وجهه، تعبيرٌ لم تصدّقه عيناها.
أمّا هو، فلم يلتفت إلى جين أصلًا،
بل ثبّت نظره في يِيرينا، وقال:
“من وجهة نظر الإمبراطوريّة، لا فرق إن متِّ أو أُصِبتِ.
قد يغضب جلالة الإمبراطور، لكن هذا كلّ شيء.”
“…”
“صحيح أنّ من في هذا القصر سيخشون أن يطالهم غضبه بسببكِ،
لكن لا أحد سيقلق إن توجّه غضبُه نحو مملكةِ سِيداس.”
“…”
“أنتِ تقلقين على وطنكِ، أليس كذلك؟
وعليكِ أيضًا أن تفكّري في الآنسة جين التي تخدمكِ هنا.”
كان صوته البارد كما هو،
وكلماته أقرب إلى مواجهةٍ قاسية مع الواقع.
لكن نبرته حملت، على نحوٍ غريب، شيئًا من اللين.
“…كيف حالُ مملكةِ سِيداس هذه الأيّام؟”
سألت يِيرينا أخيرًا، وقد هدأت حدّتها قليلًا.
ألقى نظرةً سريعة على دموعها المتساقطة، ثم أجاب:
“يقال إنّ الضرائب ارتفعت كثيرًا.
بسبب الجزية المفروضة للإمبراطوريّة.”
“ماذا؟”
اقتربت منه وقد عاد وعيُها كاملًا،
فلم يكن في إجابته أيُّ مواربة.
تلألأت عيناه وهو يراها ترتجف أمامه.
ومن بعيد، تذكّرت جين لون ورقةِ الشجرة المقدّسة التي كانت في يد يِيرينا قبل قليل.
“لدى جلالة الإمبراطور محظيّة من دوقيّة ليترا.
هي الابنة الصغرى للدوق، فقدت ثلاثةً من إخوتها، وجيء بها إلى الإمبراطوريّة قبل نحو عام.”
بدا حديثه مفاجئًا.
ومع ذلك، أصغت يِيرينا، وقد استثارها الشبه بين مصيرها ومصير تلك المرأة.
“مكانتها بين محظيّات الإمبراطور فريدة.
ويُقال إنّ تخفيف الضرائب والجزية عن دوقيّة ليترا يعود إليها.”
“…”
“برأيكِ، أيُّ الدول تعوّض هذا النقص؟
هناك عدّة، لكن المؤكّد أنّ مملكةَ سِيداس واحدةٌ منها.
فلا أحد يقف إلى جانب الإمبراطور ليذكر معاناتها.”
كلّما تابع كلامه، ازداد وجهُ يِيرينا شحوبًا.
كان يرشدها بوضوح… إلى الطريق الذي ينبغي لها أن تسلكه من أجل وطنها.
“ستشعرين بالظلم، وسترينه طغيانًا.
لكن الغضب لَن يغيّر شيئًا.”
كانت قد اتّخذت قرارها منذ أن جُرّت إلى هنا كأسيرة.
لكن سماع ذلك صراحةً، وبأن تكون محظيّة الإمبراطور من أجل مملكتها، فجّر دموعها.
اشمأزّت، وخافت، ولم تحتمل.
“أ… أنا…”
لم تستطع إتمام كلامها، وازداد ارتجافها.
نفورٌ كاملٌ عبّر عنه جسدها.
ابتسم الرجل ابتسامةً خفيّة، ومدّ يده.
ارتعشت حين لامس كتفَها ببطء.
وقبل أن تتفوّه بشيء، سبقها قائلًا:
“قبل ذلك، عليكِ أن تهتمّي بصحّتكِ.
هكذا فقط يمكن فكُّ اللعنة، والتفكير في المستقبل.”
شعرت بالقلق، لكن تسلّل إلى قلبها شيءٌ من الارتياح.
تأجيلٌ مؤقّت لما تكرهه.
واشمأزّت من نفسها لهذا الشعور.
“الآنسة جين.
أحضري الطعام.”
أطاعت جين على عجل،
وأحضرت وجبة اليوم من الخزانة، ورتّبتها على صينيّة.
تفقّد الرجل الطعام، وعبس.
حساءٌ خفيف مع قليلٍ من الخضار،
خبزٌ قاسٍ،
وحبّتا بطاطا صغيرتان.
كانت يِيرينا، بذريعة فكّ اللعنة، تتلقّى طعامًا لا يختلف عن طعام باقي الراهبات.
“الطعام بارد.
هل أُعيد تسخينه؟”
هزّت رأسها.
“لا.
قدّميه كما هو.”
تحسّست الطاولة، وأمسكت الملعقة.
ولمّا رفعتها إلى فمها،
راقبها الرجل بنظرةٍ غامضة، مثبّتًا عينيه على الملعقة عند شفتيها.
ابتلعت الحساء بلا أن تشعر بشيء.
كان بلا طعم.
‘ها…؟’
بعد عدّة ملاعق، تغيّر الطعم فجأةً إلى مرارةٍ معدنيّة.
بدأت يدها ترتجف، وتسارع نَفَسُها.
“…ما بكِ؟”
سألها.
لكنّها لم تُجب، وابتلعت ما في فمها بصعوبة.
وفي اللحظة التالية، اندفع شيءٌ إلى حلقها.
“هغ…!”
“يِيرينا!”
سقطت الملعقة، وغطّت فمها،
لكن الدم كان قد لوّث شفتيها ويديها.
صرخت جين،
وفيما كانت يِيرينا تتشبّث بالطاولة، جذبها أحدهم، وسكب سائلًا في فمها.
“ابتلعيه.
هيا.”
كان صوته ثابتًا،
لكن قبضته على ذراعيها كانت مشدودة.
حاولت أن تبتلع السائل المرّ،
غير أنّ معظمَه خرج مع الدم.
تلاشت الأصوات.
وأغمضت عينيها.
شعرت بذراعين تلتقطانها.
صدرٌ صلب،
وقلبٌ نابض.
ورائحةٌ دافئة لم تعرفها من قبل.
وسط وعيٍ يتلاشى، تمتمت بلا صوت:
‘…دافئ.’
التعليقات لهذا الفصل " 29"