“مولاي.”
صرخ فريدريك باسمه وهو يطأطئ رأسه حتّى كاد يدفنه في الأرض.
نظر روشـان إليه بلا اكتراث.
“أنا لستُ مثلَ تلك الخائنة.”
كان فريدريك يفهم سببَ كلمات سيّده.
فلو سارت أفكاره على المنطق المعتاد، لكان أوّل ما يشعر به هو الظلم والغضب حين يُقارَن بأخته الحمقاء.
غير أنّ الشعور الأوّل الذي باغته لم يكن سوى القلق من انكشاف أمرٍ ما، يتبعه إحساسٌ بالذنب.
لذلك تابع كلامه، كأنّه يقسم لنفسه قبل غيره:
“لَن أخونَ مولاي بسبب مشاعرَ تافهةٍ كهذه.
أرجو أن تثق بي.”
لم يُبدِ روشـان أيَّ ردّ فعلٍ لبرهة.
ثم حوّل بصره إلى خارج النافذة، وتمتم:
“نعم.
أنتَ لستَ من ذلك النوع.
ولهذا أسندتُ إليك هذا الأمر.”
كانت كلماتٍ تحمل معنى الثقة.
ومع ذلك، كان الشعور الذي انتابه غريبًا.
لم يكن ارتياحًا، ولا طمأنينة، بل شيءٌ أقرب إلى أسفٍ غير مفهوم.
أدرك فريدريك أنّ شعورًا ما في أعماقه كان على وشك أن يولد، لكنّه حُكم عليه ألّا يرى النور أبدًا.
ومع هذا، لم يكن بوسعه سوى شكر سيّده على ثقته.
“أشكرك على ثقتك.”
لوّح روشـان بيده، في إشارةٍ إلى الانصراف.
نهض فريدريك، وانحنى بعمقٍ مرّةً أُخرى، ثم تراجع مبتعدًا.
حتّى اللحظة التي خرج فيها، لم يلتفت روشـان إليه ولو مرّة،
بل ظلّ غارقًا في أفكاره.
ومع مرور الوقت، بدأ الضوء يتسلّل،
وحين أضاء شعاعُ شمسٍ طرفَ الستار، سُمع طرقٌ على الباب.
كان الوقت مبكّرًا جدًّا،
لكن روشـان أذن بالدخول.
دخل رجلٌ يعكس زجاجُ نظّارته نورَ الصباح، وملامحه متيبّسة.
انحنى تحيّةً، ثم قال بجدّية:
“لا تحتفظ بها.
خذه إن شئت، ثم تجاهل الأمر.”
—
لم يستطع جيمس فهمَ سيّده.
أيعقل أن يكون كلّ هذا بسبب امرأةٍ واحدة؟
لم يكن هذا الرجل هو السيّد الذي خدمه طوال حياته.
‘ليس أيَّ شخصٍ، بل السير فريدريك.
عشرةُ أعوامٍ من القرب، ثم يُعامَل هكذا…
من أجل امرأةٍ فحسب!’
لم يكن جيمس على وفاقٍ مع فريدريك،
لكنّه لم يحتقره يومًا.
فولاؤه خلال السنوات العشر الماضية كان لا غبار عليه.
ومع ذلك، أذلّه سيّده وأجلسه على ركبتيه للمساءلة.
لم يسمع جيمس ما دار بينهما،
لكن الركبتين المنحنيتين، والوجه الشاحب، كانا كافيين لفهم الوضع.
“قيل إنّك كسرت ذراعَ السير فريدريك في طريق العودة إلى الإمبراطوريّة.”
قالها جيمس وهو يقترب بخطواتٍ سريعة، رافعًا رأسه.
نظر إليه روشـان ببرود، ثم عدّل جلسته.
في ضوء الفجر الأزرق، بدا وجهُ روشـان باردًا حدَّ القسوة.
ابتلع جيمس ريقه، وتابع:
“…وهذه المرّة أجبرته على الركوع ساعاتٍ طويلة.”
“…”
“السير فريدريك رجلُك الوفيّ.
تذكّر ما قدّمه خلال عشرة أعوام.”
كان صوته حازمًا،
لكن روشـان ظلّ جليديًّا.
رفع ذقنه قليلًا، ومسح جبينه، ثم قال بلهجةٍ ضجرة:
“ما الذي تريد قوله؟”
“أقول، بكلّ جرأة، إنّك تتّخذ قرارًا خاطئًا.”
“…”
“الأميرة جميلة جدًّا.
كثيرون همسوا بأنّ جمالها كافٍ لإشعال حرب.
أفهم أنك قد أنجذبت لها للحظة.”
“…”
“لكنّها أسيرة، ومجرّد امرأة.
لا قيمةَ لها أكثر من ذلك.”
“…”
“لذلك أقول: خذها ولا تُبالي.
إن فعلت، ستدرك أنّها ليست سوى امرأة.”
أنهى جيمس كلامه دفعةً واحدة.
رفع روشـان حاجبه قليلًا، بالكاد يُرى،
وتمتم بكلمة ‘امرأة’،
ثم أنزل ذراعه عن جبينه.
“جيمس.
أنا متساهلٌ معك.
أنتَ تعرف ذلك، أليس كذلك؟”
لم يكن صوته مرتفعًا،
لكنّ جيمس تجمّد كفأرٍ أمام أفعى.
انزلقت نظرةُ روشـان من وجهه إلى عنقه.
“هل تعرف لماذا أتساهل معك؟”
شعر كأنّ نصلًا يلامس عنقه.
عجز جيمس عن الإجابة،
وأخذ يفكّر في كلّ ما قدّمه.
نظر إليه روشـان طويلًا، ثم قال وكأنّه يقرأ أفكاره:
“يبدو أنّك واهم.
ليس لطول خدمتك، ولا لكثرة نفعك.”
“…”
“أنتَ ابنُ ليز.”
“…”
“لهذا فقط أتساهل معك.
لا سببَ آخر.”
ارتجف قلبُ جيمس.
ليز…
اسمُ أمّه، الذي لم يُذكر قطّ.
‘أنا…’
لم يكن يرى في أمّه سوى امرأةٍ باكيةٍ عديمة الجدوى،
ولا قيمةَ لها سوى كونها مرضعة روشـان،
وماتت وهي تتلقّى نصلَ قاتلٍ بدلًا عنه.
‘فقط لأنّي ابنُ تلك المرأة…؟’
شعر بالإهانة.
كأنّ كلّ ما كانه تلاشى.
“انصرف الآن.
ألديكَ متّسعٌ من الفراغ؟”
أصدر روشـان أمره.
انحنى جيمس، وغادر،
لكنّ نظرته الأخيرة كانت مظلمةً ومقلقة.
أمّا روشـان، فقد غاص في أفكاره.
طرق بأصابعه على مسند الكرسي،
وعيناه تلمعان بوميضٍ غريب.
“امرأة.”
تمتم بالكلمة،
فتذكّر عنقها الأبيض الهشّ،
وجسدها المرتجف في حضنه.
“ليست سوى امرأة…
ليس قولًا خاطئًا.”
راوده خاطرُ أن يُدخل الأميرة، الأسيرة الآن، إلى مخدعه.
لكنّ صوتَ الخرز المتصادم عاد إلى أذنه،
واستعاد دفءَ يدها.
أغمض عينيه.
“…لنراقبها قليلًا بعد.”
التعليقات لهذا الفصل " 27"