كان كيان قليلَ الكلام على خلاف فريدريك.
ومع ذلك، فإنّ الرجل الذي اتّخذ مجلسه مباشرةً أمام يِيرينا، على عكس فريدريك الذي جلس قطريًّا، كان يثير أعصابها على نحوٍ واضح.
‘غيرُ مُرتاحة.’
لقد مضى على عيشهم معًا أكثرُ من شهر، فلم تَعُد تشعر بنفورٍ يدفعها إلى النهوض والمغادرة فورًا.
لكن وجوده معها في حيّزٍ واحد ظلّ يبعث في نفسها ضيقًا لا يزول.
وفوق ذلك، كانت جين، على غير عادتها، تصمت صمتًا ملحوظًا كلّما دخل هذا الحارس المسمّى كيان.
بالطبع، كان في وسعها أن تُخمِّن السبب.
فالرجل، على الرغم من قلّة كلامه، كان ذا هيبةٍ ثقيلة.
يكفي وجوده في المكان ليجعل المرء يتجمّد.
لم تكن يِيرينا تعرف لون شعره أو عينيه، ولا ملامح وجهه،
لكنّها كانت واثقةً أنّه ليس رجلًا عاديًّا.
‘…لا تُعيري الأمرَ اهتمامًا.
على أيّ حال، سيغيب قريبًا مع غروب الشمس.’
كبتت توتّرها وأعادت تركيزها إلى الخرز بين يديها،
لكنّ النتيجة لم تكن موفّقة، كأنّ ثقوب الخرز قد صغرت فجأة.
عبست وهي تُحاول إدخال الخيط بقوّة،
فانزلقت يدها من شدّة الضغط، وسقطت الخرزة.
“آه!”
طَقّ.
ارتطمت الخرزة بسطح الطاولة الرخاميّة،
ففزعت يِيرينا وأسقطت ما كان في يدها الأُخرى من خرزٍ وخيط.
وانهمر عددٌ منها على الأرض بصوتٍ يشبه تساقط البَرَد.
“سأتولّى الأمر!”
تسمّرت يِيرينا مكانها من شدّة الصوت،
ثم استعادت وعيَها عند سماع صوت جين.
وحين سمعت خطواتها المتعجّلة، انحنت بتردّد.
“سأساعد أنا أيضًا…”
مدّت يدها إلى الأرض، فالتقطت خرزتين،
ثم مدّت يدها أوسع تتحسّس سطح الطاولة.
لامست أصابعُها عدّة خرزاتٍ كانت تتدحرج فوق الرخام.
راحت تلتقطها واحدةً تلو الأُخرى وتضعها في السلّة،
حتّى مالت بجذعها إلى الأمام.
كادت يدُها تبلغ خرزةً أخيرة عند أقصى مداها.
انحنت أكثر…
وفي تلك اللحظة، اقترب منها أحدهم اقترابًا شديدًا.
‘ها؟’
عبقٌ بارد خفيف.
زفيرٌ طويل.
هواءٌ دافئ يلامس وجهها.
توقّفت يدُها.
شعرت بخصلات شعرٍ ليست لها تمرّ قرب خدّها.
كانت ناعمة، لكن الإحساس كان لاذعًا على نحوٍ غريب.
سرت قشعريرةٌ من عنقها إلى جسدها كلّه.
تراجعت فجأةً،
لكن يدًا صلبة أمسكت بمعصمها بخفّة.
لم يكن القبض قويًّا، ومع ذلك تجمّدت كالحجر.
“يِيرينا.”
داعب صوتٌ منخفض أذنَها المتيبّسة.
وكان النفسُ أقرب وأكثر حرارة.
شعرت بشعيرات جسدها تنتصب.
“إنّها هنا.”
أسقط شيئًا ببطء في يدها المتوقّفة.
تدحرجت ثلاثُ خرزات في كفّها بصوتٍ خافت.
رفعت رأسها بذهول نحو حيث يُفترَض أن يكون وجهه،
ثم انتبهت فجأة،
فقبضت يدها على الخرز ودفعت الرجل بعيدًا.
ابتعد دون مقاومة.
كانت أنفاسُها خشنة،
وقبضت على معصمها الذي أمسكه.
احمرّ وجهها،
وسال العرق البارد على ظهرها.
اختلاطُ الحرارة والبرودة أربك رأسها.
وبعد لحظات، رفعت رأسها بعينين لا تُبصران، وقالت بصوتٍ متقطّع:
“لا تلمسني دون إذن.”
وقبل أن تزيد، جاءه الردّ فورًا:
“نعم.”
كان هدوؤه مستفزًّا.
لكنّها لم تجد ما تقوله.
فنفضت الخرز في السلّة بعصبيّة ونهضت.
“جين، أظنّني سأستريح مبكّر…”
استدارت لتغادر،
فداسَت قدمُها خرزةً لم تُلتقط.
انزلقت، واختلّ توازنها، وسقطت إلى الخلف.
“يِيرينا!”
صرخت جين،
لكن الجسد كان قد مال.
أغلقت يِيرينا عينيها بإحكام،
منتظرة الاصطدام.
إلّا أنّه لم يكن ثمّة ألم،
بل شيءٌ عريض وصلب تلقّاها من الخلف.
عندها فقط أدركت أنّه صدرُ الرجل.
‘غطّي أنفكِ وفمكِ بكمّكِ.’
عاد إلى ذاكرتها صوته يوم أن أنقذها.
وفي تلك اللحظة، شعرت… بالطمأنينة.
‘يِيرينا.’
ثم صوتٌ غريب، تلاشى سريعًا.
‘يِيرينا، ابنتي.’
‘يِيرينا، أختي الوحيدة.’
أصواتُ عائلتها الميتة.
تكاثرت الأصوات،
وتحوّلت إلى صدى لا ينتهي.
صرخت:
“آااه!”
“يِيرينا!”
شدّ الرجل ذراعيه حولها، لكن عقلها لم يعد يدرك شيئًا.
“خُذوني معكم…
أمّي… أبي… إخوتي… أرجوكم…”
انفجرت المشاعر المكبوتة.
بكت، صرخت، وتخبّطت،
حتّى تلاشت الأصوات،
وبقي ضغطٌ خانق.
“كيف…؟”
“اذهبي وأحضري أليسيا…”
لكنّ صوتها خذلها.
وانهارت أخيرًا.
—
كان القصر الأزرق يتلألأ في العتمة.
قصرُ وليّ العهد.
كان روشـان هناك.
ينتظر.
وحين تكلّم، تغيّر كلّ شيء.
“فريدريك…
قلتَ يومًا: لِمَ أبقيتُك حيًّا؟”
ثم قال ببرودٍ قاتل:
“أراك هذه الأيّام، فأرى أختَك.”
وشحب وجهُ فريدريك.
فهم المعنى جيّدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 26"