مضى على إقامةِ يِيرينا في البرج شهرٌ ونصفٌ وزيادة.
وكان الخارج قد استقبل الشتاء الكامل، فاكتسى بلونٍ أبيضَ ناصع.
‘الحمدُ لله أنّهم جميعًا بخير.’
كانت جين تُحدِّق طويلًا عبر النافذة في تساقطِ الثلج، وهي تُفكِّر بأسرتها.
ولم تَفِق إلّا حين سمعت صوتَ غطاءِ الإبريق وهو يقرقع تحت البخار، فانتبهت مذعورة وراحت تتحرّك على عجل.
امتلأ الكوبُ الخزفيُّ الأبيض، الذي اعتادت عليه الآن، بشايٍ ذي لونٍ أحمرَ فاتح.
وضعت جين الكوب على صينيّةٍ خشبيّة، ثم أخرجت كوبًا آخر وسكبت فيه ماءً فاترًا على مهل.
وبعدها توجّهت نحو الجالسين قرب الموقد.
ما إن اقترب وقعُ خطواتِ جين حتّى رفعت يِيرينا رأسَها، وكانت غارقةً في تركيزٍ صامت.
وفي يدها خيطٌ رفيع، وفي الأخرى خرزاتٌ كبيرة نسبيًّا.
“أحضرتُ الشاي. خذي قسطًا من الراحة وأنتِ تعملين.”
“لحظةً فقط… دعيني أُنهي هذه.”
قالت جين ذلك، لكن يِيرينا كانت قد أعادت خفضَ رأسها، منشغلةً بلفّ الخرز بين أصابعها وإدخال الخيط في ثقبه.
‘ابتداءً من اليوم سنُجري إلى جانب التعليم الدينيّ نوعًا آخر من التدريب.’
‘تدريبٌ آخر؟’
‘أنتِ لستِ مثلِي، لم تفقدي بصركِ منذ الطفولة.
ولهذا فالحياةُ لا بدّ أن تكون شديدة الصعوبة عليكِ.’
‘…….’
‘صحيحٌ أنّكِ تكيّفتِ بشكلٍ مُدهش حتّى الآن، لكن مع التدريب ستصبح الأمور أسهل.’
كان ما تفعله يِيرينا من إدخال الخيط في الخرز جزءًا من تدريبِ أليسيا.
فإلى جانب التعليم الدينيّ، درّبتها أليسيا على استخدام الحواسّ الأخرى بصفتها كفيفة، وكان هذا التمرين واحدًا منها.
إدخالُ خيطٍ في خرزةٍ كبيرة بدا أمرًا سهلًا، حتّى طفلٌ في الرابعة يستطيع فعلَه.
لكنّه كان صعبًا جدًّا على يِيرينا التي لا ترى.
تكرّرت حركاتُ الفشل مرارًا، وكان من الطبيعيّ أن يتصاعد الضيق، إلّا أنّ يِيرينا لم تُظهِر انفعالًا واحدًا، بل واصلت التدريب بصبر.
“لِمَ لا تستريحين قليلًا؟”
رأت جين تركيزَ يِيرينا، فهزّت كتفيها وكأنّه لا حيلة لها، ثم وضعت الصينيّة.
وتركت كوبَ الشاي، وقدّمت كوبَ الماء للرجل الأشقر الجالس قطريًّا مقابل يِيرينا.
اكتفى الرجل بإيماءةٍ خفيفة وتسلّم الكوب.
مرّ بعضُ الوقت.
رفعت يِيرينا رأسها مبتسمة بعد أن أدخلت الخيط في نحو عشرين خرزة وصنعت عقدًا كاملًا.
“هل قلّ الوقتُ قليلًا؟”
كانت جين على وشك أن تُجيب بعد أن نظرت إلى الساعة الرمليّة على الطاولة،
لكن قبل أن تنطق، فتح الرجلُ الذي كان صامتًا حتّى الآن فريدريك فمَه وهو يُمرِّر يده في شعره الأشقر.
“لقد تحسّنتِ كثيرًا.
لنرَ… ما زال نصفُ الرمل باقٍ.
سابقًا كان الرملُ ينفد كلّه وتحتاجين وقتًا أطول، لقد صرتِ أسرع بمرّتين.”
“…أنا سألتُ جين، ولم أسألِ الفارس.”
قالت يِيرينا ببرود.
فردّ فريدريك فورًا:
“وما الفرق؟
يبدو أنّكِ ما زلتِ تبغضينني كثيرًا.”
كان يقصد المزاح، لكن وجهَ يِيرينا تصلّب.
وكيف لا؟
كانت تبغض فرسانَ الإمبراطوريّة، فهم من قادوا الغزو وذبحوا أسرتها.
“تسامحي قليلًا.
أنا فقط أشعر بالملل.”
قالها فريدريك متلعثمًا حين لاحظ تغيّر ملامحها.
فكتمت يِيرينا غضبها، وقالت ببرودٍ قاطع:
“إن كنتَ تشعر بالملل، يمكنك الخروج.”
“هذا صعب.
في النهاية أنا مكلّف بحمايتكِ.
ثم إنّ الخارج شديد البرودة، يكفي أن تخرجي إلى الرواق حتّى يتجمّد المرء.
تكرّمي علينا بقليل من الرحمة.”
رفعت يِيرينا حاجبها.
هي نفسها من سمحت له بالدخول، ومع ذلك…
كانت الرياحُ العاتية تضرب النوافذ، والرواق فعلًا شديد البرودة.
وفوق ذلك كان فريدريك يسعل بلا توقّف.
كرهُها له شيء، وتركُ إنسانٍ يرتجف في البرد شيءٌ آخر.
‘يبدو هذا المكان أبرد من غيره.’
‘إنّه موضعٌ معزول ولا تصله الشمس.
ثم إنّه برجٌ قديم، ضعيف أمام الرياح.
مع ذلك الداخل دافئ… هل تشعرين بالبرد؟’
‘قولي للحراس… أعني الفرسان… إنّهم يستطيعون الدخول.’
لم تعد أميرةً تأمر بوضع المواقد.
كانت الآن أسيرة، لا يحقّ لها المطالبة بشيء.
لذا وبعد تردّد، طلبت من أليسيا تعليقَ ستارٍ سميك بين غرفة النوم وصالة الاستقبال،
وقسّمت المساحة قرب الموقد بين كيان وفريدريك.
“أيعجز الفارس عن تحمّل هذا البرد؟”
“نعم، يعجز.
أنا من الجنوب.
في جنوب الإمبراطوريّة لا يوجد برد.
حتّى بيتُ طفولتي المتداعي لم أعرف فيه الصقيع.
لكن هنا في العاصمة…”
عندها فقط أحسّت يِيرينا بالندم.
أغلقت فمَها أمام نبرةِ فريدريك اللينة، وتذكّرت لقائهما الأوّل.
‘لم يكن هكذا…’
في سِيداس كان حادًّا وقاسيًا.
‘سمعتُ أنّ ملك سِيداس كان يعشق ابنته الوحيدة.
لم يستطع أن يطلب منها أن تكون محظيّة لتنقذ البلاد.
وماذا بعد؟
هل نرثي حاله لأنّه لم يكن يعلم؟’
كانت كلماته آنذاك خناجر.
لكنّه تغيّر بعد أن صار حارسًا.
صار كثيرَ الكلام، واسع الحيلة.
‘لقد انتصروا، وهم في بلدهم.
أمّا أنا…’
كبتت يِيرينا غضبَها، وتلمّست الطاولة حتّى وجدت كوبَ الشاي.
حين انساب الشاي الدافئ في حلقها، هدأت مشاعرُها.
وضعت الخرز في السلّة.
تشَرْخَرَت الخرزات بصوتٍ صافٍ.
كانت أطرافُ أصابعها محمرّة ومتورّمة.
“ألا يملّك هذا؟”
“…….”
“حتى لو كان تدريبًا، لا داعي للإجهاد.
ليس أمرًا عاجلًا.”
توقّفت يِيرينا لحظة، ثم قالت بلا تعبير:
“هل هناك من يضمن أن يعتني بي أحدٌ إلى الأبد؟”
قبض فريدريك على يده لا شعوريًّا.
“كما تعلم، لن أرى مجدّدًا.”
“…….”
“لو كنتُ في سِيداس لكان كلامك صحيحًا.
لكنّني هنا أسيرة.”
تحرّك كمُّ ثوبها بخفّة.
وكان الاستسلام في حركتها واضحًا.
“لا أعلم ما ينتظرني.
ولا أحد يساعدني سوى جين.”
“…….”
“أريد أن أعيش وحدي إن لزم.
أن آكل وأنام وأرتدي ثيابي دون مساعدة.”
“…….”
“…وإن متُّ قبل ذلك، فالأمر ينتهي.”
ارتعد فريدريك.
‘هذا خطر.’
اهتمامُه بها يتفاقم.
تذكّر أمرَ سيّده ألّا يمسّها.
فنهض فجأة.
طَق طَق.
كان الطرقُ على الباب.
فتحت جين، وظهر كيان.
“فريدريك.
حان وقتُ التبديل.”
انحنى فريدريك، وهمس:
“نعم.”
وبمجرّد خروجه، أطلق زفرةً عميقة.
وتلاشت أنفاسُه البيضاء في هواءِ الشتاء.
التعليقات لهذا الفصل " 25"