“……الآنسة جين.
من الأفضل أن تنتبهي قليلًا لكلامكِ وتصرفاتكِ.
أنتِ تتذكّرين بنودَ العقد، أليس كذلكِ؟”
قالت أليسيا ذلك بنبرةٍ صارمة بعض الشيء، موجّهةً حديثها إلى جين التي خرجت لتوديعها عند الباب.
كانت جين تدرك جيّدًا ما الذي تُحذّرها منه أليسيا، فانحنت برأسها وقالت بصوتٍ خافتٍ متردّد.
“نعم.”
“جيّد، ما دمتِ قد فهمتِ.
إذًا نلتقي غدًا.”
لم تُضِف أليسيا شيئًا آخر، واختفت مع الراهبات التابعات لها.
وحين تلاشى صوتُ خطواتها على الدرج، أطلقت جين زفرةً طويلة.
‘لِمَ يُخفي جلالتُه هويّتَه ويدور حول السيّدة ييرينا هكذا؟’
لم تكن جين تعرف سببَ تنكّر روشان بهيئةِ الفارس كيان وتولّيه حراسةَ ييرينا.
لكن مهما يكن السبب، كان شعورُها بالضيق لا مفرَّ منه.
فهي، وإن لم تكذب مباشرةً، كانت تشارك في خداعِ شخصٍ بإخفاء الحقيقة عنه.
‘نحن جميعًا، وأنا منهم، نخدع السيّدة ييرينا.
نخدعها وهي لا تعلم شيئًا…….’
بل وأكثر من ذلك،
كلّما رأت جينُ تعبيرَ وجهِ روشان وهو ينظر إلى ييرينا،
انتباها إحساسٌ غريب،
كأنّها قدّمت قربانًا لوحشٍ هائل.
ولهذا كانت تجد صعوبةً في السيطرة على قلبها الذي يخفق بعنف كلّما التقيا، ولو للحظة.
‘كفى.
لا تفكّري في الأمر بعمق.
الآن عليّ أن أفكّر في البيت فقط.
إن لم ندفع الفائدة، فسيُجبَر روزنا أو ويدنا على العمل بعيدًا.’
هزّت جين رأسها بقوّة لتطرد الأفكار، وهي تشعر بالذنب.
لم يكن هذا وقتَ التردّد أو التحفّظ.
‘لكنْ هذا يعني خداعَ صاحبةِ السموّ.’
‘وماذا في ذلك؟
هل وضعُكِ يسمح لكِ بأن تُجادلي؟
أحوالُ أسرتكِ ليست جيّدة.’
‘كيف عرفتَ ذلك……؟’
‘في زمن الحرب، هناك دائمًا جواسيس.
وبعضهم يتنكّر بهيئةِ من هم في مثل وضعكِ.
ولهذا، حتّى الرسائل التي يتبادلها العمّال البسطاء، نفحصها واحدةً واحدة.’
‘…….’
‘وإن عدتِ الآن إلى بيتكِ، فلن يُحلّ شيء.
وإن سُلب البيت، فستكون حياةُ عائلتكِ كلّها في خطر هذا الشتاء.
أليس الأجدر أن نمنع ذلك أوّلًا؟’
لم تُخبر جينُ ييرينا،
لكنّ حقيقةَ وضعِ عائلتها كانت مأساويّة.
فخلال وجودها في ساحةِ الحرب، أُصيب أخوها، عمادُ الأسرة،
وأصبح عاجزًا عن استخدام إحدى ساقيه.
اضطرّت العائلة إلى الاستدانة لتأمين لقمةِ العيش،
لكنّهم لم يملكوا القدرة على السداد.
ديونٌ لا تُسَدّ، وفوائدُ تتراكم كالجبل.
ومهما وخزها ضميرُها، لم يكن في وسع جين أن ترفض هذا العمل.
“جين؟
إن انتهيتِ من التوديع، فادخلي بسرعة.
الرواق بارد.”
بينما كانت جين تشدّ من عزمها وتحاول دفن شعورها بالذنب،
نادتها ييرينا من الداخل بصوتٍ دافئ.
استفاقت جين، والتفتت لتدخل،
لكنّها توقّفت فجأة.
“……آسفة لأنّني أخدعكِ، سيّدتي ييرينا.”
تمتمت بذلك ويدُها على مقبض الباب.
وكان اعتذارًا لن يصل، بطبيعة الحال، إلى صاحبته.
—
كان الليل قد أرخى سدولَه.
وأثناء عودة أليسيا مع الراهبات اللواتي خرجن لاستقبالها،
لمحت شخصًا يقف قرب مدخل البرج، فتوقّفت.
“ما زلتَ هنا.”
تحت ضوء القمر الخافت،
وقف روشان ساكنًا كتمثال،
ثمّ أدار عينيه ببطء نحو أليسيا.
ورغم أنّها لا ترى تعبيره،
إلّا أنّها، ما إن شعرت بنظرته، حبسَت كتفيها توتّرًا.
“……هل تنوي البقاء هنا؟”
سألت بتردّد.
فأدار روشان رأسه نحو الخارج، وأجاب باقتضاب.
“نعم.”
بعد أن قُدِّم له الشاي، غادر روشان الغرفة مباشرةً،
لكنّه لم يخرج من البرج.
وكان ذلك طبيعيًّا،
إذ إنّه الآن يقوم بدورِ الحارس تحت اسمِ كيان.
قسا وجهُ أليسيا للحظة،
ثمّ انحنت بعمق.
“إذًا سننصرف نحن أوّلًا، يا صاحبَ الجلالة.”
ابتعدت أليسيا ورفيقاتها،
وظلّ روشان يراقب ضوء الفانوس الذي تحمله إحدى الراهبات يبتعد شيئًا فشيئًا،
ثمّ تحرّك نحو المدخل.
وقف عند القوس الحجريّ،
وعيناه الحمراوان تحدّقان في الخارج المعتم.
كان محيطُ البرج كئيبًا،
لا مصباحَ فيه،
وأثرُ الإهمال بادٍ في كلّ مكان.
رفع حاجبه قليلًا وهو يتفحّص المكان.
أوّل ما لفت نظره الأشجارُ العالية.
كانت الأشجار التي تُحيط بالبرج من أنواعٍ ثمينة،
لكنّ أغصانها كانت بارزةً بشكلٍ فوضويّ،
والشجيراتُ كثيفةً قبيحة.
والأرضُ كذلك،
طريقٌ مغطّى بالأعشاب الضارّة.
“فوضى.”
تمتم بذلك.
ومنذ صغره كان يأتي إلى هذا البرج،
لكنّه لم يره يومًا على هذا النحو.
لا يدري لماذا،
لكنّ المكان اليوم كان يُزعجه بشدّة.
ركل حجرًا صغيرًا بقدمه،
فتدحرج قليلًا قبل أن يعلق بين الأعشاب.
تأمّل الأعشاب الذابلة،
وقرّر أن يُنظّف المكان.
‘المساحة ليست واسعة.
أسبوعٌ واحدٌ يكفي، أليس كذلك؟’
وتخيّل الأرض بعد ترتيبها،
فخطر له أن يزرع أزهارًا هنا وهناك.
لن يتمتّع بها الآن، فالشّتاء قريب،
لكنّ الربيع سيجعل المكان جميلًا.
وأخذ يفكّر مليًّا فيما سيزرعه.
‘على الأقلّ…….’
وتوقّف فجأة.
اشتدّ وجهه.
لماذا يفكّر في هذا أصلًا؟
لم يحتج إلى نُطق الجواب.
فهو يعرفه جيّدًا.
‘ييرينا سيداس.’
منذ اللحظة الأولى، لم تخرج تلك المرأة من ذهنه.
بل على العكس،
كلّما مرّ الوقت، ازدادت إزعاجًا له.
أكان وجهُها الشاحب خلف العرش،
وعيناها المليئتان بالدموع؟
أم كان جسدُها الهشّ،
وهي تركض بشَعرها الذهبيّ نحو أمّها؟
لم يَعُد يعلم.
لكنّه، كلّما راقبها،
شعر بإحساسٍ لم يختبره في حياته من قبل.
كان شعورًا غامضًا،
لا هو مريح ولا مُنفِر.
ومع تراكمه،
أراد أن يعرف.
كيف يبدو وجهُ أميرةِ المملكة الصغيرة التي دمّرها بيديه،
وكيف تتحرّك.
رغبةٌ جامحة في تمزيق كلّ شيءٍ عنها،
والتحديق فيه.
لكنْ لو اقترب منها بصفته الحقيقيّة،
فلن يرى سوى غضبٍ أو خوف.
‘يجب ألّا تعلم أنّني هنا.’
ولهذا،
أرضى روشان رغباته بطريقةٍ مظلمة.
كان يراقبها خفيةً وهي تصبّ حقدها على فرسانه،
ويراها تبكي فوق نعشِ والديها،
وهو يقف على بُعد خطوات.
كان يعلم أنّه يُهينها ويخدعها،
لكنّه لم يشعر بالذنب،
بل بالرضا.
وخاصةً حين يكون معها وحدهما،
وهو مختفٍ،
كان إحساسٌ غريب يملأ صدره.
لكنْ ما إن غادروا سيداس،
حتّى تلاشى ذلك الرضا.
وفي الطريق إلى الإمبراطوريّة،
كان يغتاظ كلّما رآها تبتسم لجين.
ابتسامةٌ خفيفة،
وحيويّةٌ وادعة.
حين تُوجَّه لغيره،
شعر كأنّ شيئًا كان يخفيه قد سُلب منه.
إحساسُ فقدٍ لم يشعر به حتّى حين تنازل عن العرش،
وتحوّل إلى نيةِ قتلٍ تجاه امرأةٍ بريئة.
ضاق صدره.
ورغبةٌ متهوّرة أخذت تتصاعد.
أن يكشف عن نفسه.
أن يراها تصرخ وتلعنه.
ثمّ ينصرف.
لكنّ العقل، في النهاية، غلب.
ولم يكشف عن نفسه.
ومرّ الوقت.
إلى أن هاجمهم قتلةٌ متنكرون بزيّ المقاومة.
وفي ذلك اليوم،
أنقذ روشان ييرينا،
وأدرك أمرًا حاسمًا.
‘مَن…… مَن أنت؟’
لم تسمع صوته من قبل.
حين قتل الملكَ والملكة،
لم ينطق بكلمة حتّى أغمي عليها.
ومنذ ذلك اليوم،
لم يتكلّم أمامها قطّ.
‘رأت وجهي،
لكنّها لا تعرف صوتي.
والآن…… عيناها.’
حين أدرك ذلك،
ارتعشت يداه نشوةً،
وارتسمت ابتسامةٌ لا شعوريّة.
‘وماذا عن الكاهنِ الأكبر؟’
‘كما أمرتَ، تمّ إعداد المكان.’
وعند وصوله إلى الإمبراطوريّة،
اتّخذ اسمَ كيان مودريه،
الميّت منذ زمن.
وأجبر الكاهنَ الأكبر على إلصاق تهمةِ اللعنة بييرينا،
وزجّها في البرج.
“……صحّتي ليست جيّدة.
آسفة، لكنْ هل يمكنك أن تذهب الآن؟”
لكنّ خطّته لم تسر كما أراد.
حتى وهو مختفٍ خلف اسمٍ زائف،
كانت تدفعه بعيدًا.
لم تكن قد عرفت هويّته.
لكنّها كانت تنفر منه بغريزتها.
وذلك لم يُرضِه.
وجهُها المتجمّد،
كتفاها المنقبضان،
وتراجعها للخلف.
كلّ ذلك أثار فيه رغبةً دنيئة
بأن يطرح جسدها الصغير على السرير.
‘إن كان مجرّد شهوةٍ لجسدِ امرأة…….’
فلمَ لا؟
إنّها مجرّد أسيرة.
امتلأ رأسه بخيالاتٍ قذرة،
ولا تزال تطارده حتّى الآن.
سخر من نفسه.
ثمّ توقّف فجأة.
واستدار بعنف،
ودخل البرج من جديد.
دَوِيّ.
أغلق الباب،
ووقف أمام جدارٍ مقابلٍ لبداية الدرج الداخليّ.
ضغط على عدّة أحجار بترتيبٍ معيّن،
فانفتح جزءٌ من الأرض،
وظهر درجٌ سريّ.
دخل روشان بخطًى مألوفة.
وغمر الظلامُ جسده تدريجيًّا.
وحين اختفى نصفه،
عاد الأرضُ إلى حاله،
كأنّ شيئًا لم يكن.
اشتدّ الظلام حول البرج.
وعلى أعلى شجرةٍ قربه،
حطّ طائرٌ أسود.
كانت عيناه حمراوين على نحوٍ غريب.
رتّب جناحيه بمنقاره،
ثمّ رفع رأسه،
وظلّ يراقب نافذةَ غرفةِ الأميرة المضاءة،
كحارسٍ صامت،
حتّى طلوعِ الفجر.
التعليقات لهذا الفصل " 24"