كان داخل الموقد المشتعل بصوتٍ مُريح مملوءًا بالحطب،
لكنّ يِيرينا، الجالسة قُربه، كانت ترتجف وجسدُها يرتعد، ووجهُها شاحب.
وحين رأت جين ذلك، جلبت غطاءً وسألتها بصوتٍ قَلِق:
“الأميرة…… لا. السيّدة يِيرينا. هل تشعرين بالبرد؟
أأُحضِر لكِ شايًا ساخنًا؟”
“لا، يا جين. لا داعي، سأتعبكِ.”
“أيُّ تعب؟ انتظري قليلًا فقط.”
نهضت جين من مكانها وتوجّهت إلى خزانةٍ صغيرة وُضِع فوقها عددٌ من الأغراض،
فأخرجت موقدًا صغيرًا وأوراق شاي مجفّفة جيّدًا،
ثم نقلت جمرةً من الموقد الكبير وأشعلت بها الصغير.
وسرعان ما علا صوت غليان الماء،
ثم انتشر عبيرُ الشاي الهادئ في أرجاء الغرفة.
‘غرفتي كذلك، لكنّ الداخل هنا مختلف عن الخارج،
إنّه مُرتَّب على نحوٍ أفضل ممّا توقّعت.’
وضعت جين أكواب الشاي على صينيّةٍ صغيرة،
وأخذت تتأمّل الغرفة بإعجابٍ متجدّد.
كانت قد شعرت بذلك منذ لحظة دخولها الأولى،
لكنّ هذه الغرفة بدت لها، وهي ابنةُ عامّة، أنيقةً على نحوٍ لافت.
‘في النهاية، مهما آلت إليه أحوال البلاد،
فهي أميرة…
من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك.’
كان مقرّ يِيرينا، على خلاف مظهره الخارجيّ البالي، دافئًا ومريحًا.
في أعمق جزءٍ منه غرفةُ نومٍ تضمّ سريرًا، ومكتبًا، وعددًا من الأثاث الضروريّ،
وإلى جانبها حمّامٌ خاصّ صغير.
أمّا المساحة الخارجيّة، المفصولة بقوسٍ مفتوح،
فكانت مُعدّة للاستراحة حول الموقد،
وتؤدّي في الوقت ذاته وظيفةَ غرفة استقبالٍ عمليّة.
لم يكن يُقارن بما اعتادته في المملكة،
لكنّه كان أكثر من كافٍ لأسيرة،
بل فاق التوقّعات بكثير.
“إنّه ساخن، فانتَبهي.”
“شكرًا لكِ.
واجلسي أنتِ أيضًا، لا داعي لأن تبقي واقفة.”
“نعم.”
حتى الأريكة التي جلست عليها يِيرينا،
بدت للوهلة الأولى بسيطة،
لكنّها كانت، كسائر الأثاث، من نوعٍ فاخر.
وما إن جلست جين عليها حتّى أطلقت تأوّهًا لا إراديًّا.
“واو……!”
رفعت يِيرينا رأسها عند الصوت.
وبرغم علم جين أنّ يِيرينا لا تراها،
إلّا أنّها احمرّت خجلًا دون سبب.
شعرت يِيرينا بحرجها،
فخفضت رأسها طبيعيًّا وارتشفت من الشاي.
مرّ وقتٌ قصير على هذا الحال.
وبعد أن شربت يِيرينا نصف الكوب،
بدت كأنّها تُفكّر في أمرٍ ما،
ثم فتحت فمها بجدّيّة:
“أنا…… يا جين،
أريد أن أسألكِ شيئًا.”
“تفضّلي، اسألي براحتكِ.”
أجابت جين فورًا.
تردّدت يِيرينا قليلًا عند سماع نبرتها المعتادة،
ثم سألت:
“……مُنذ متى وأنتِ هنا؟”
“منذ أمس.
وبالتحديد، في الغرفة المجاورة لغرفتِكِ.”
“الغرفة المجاورة؟”
“نعم.
لم أُخبركِ بعد،
لكنّني سمعتُ من السيّدة الكاهنة التي أحضرتكِ
أنّني سأقيم في الغرفة المجاورة،
وسأتولّى خدمتكِ.”
بعد وصولها إلى القصر الإمبراطوري،
لم تعد جين إلى منزلها خارج الأسوار.
بل التقت شخصًا ما،
ووصلت إلى البرج قبل يِيرينا.
“لِماذا……؟”
“نعم؟”
“كنتِ قد قلتِ سابقًا،
إنّكِ ستعودين إلى بيتكِ وتعيشين مع عائلتكِ
حالما نصل إلى العاصمة.”
“آه…….”
مرّ طيفُ ذنبٍ سريع على وجه جين،
لكنّها ما لبثت أن ابتسمت وأجابت بصوتٍ مُشرق:
“الكاهنة سألتني إن كنتُ أرغب في العمل هنا.
قالت إنّكِ بحاجة إلى حياةٍ دينيّة،
وإنّ وضعكِ الرسميّ لم يُحسَم بعد،
لذلك لا يمكن تعيين خادماتٍ من القصر لخدمتكِ مباشرة.
وقالت إنّ وجود خادمةٍ من القصر إلى جانبكِ أمرٌ مُحرِج،
فاقترحت الأمر عليّ.”
“…….”
“في البداية كنتُ سأرفض،
لكنّ الأجر كان جيّدًا جدًّا……
وفوق ذلك، وعدتني بكتاب توصية بعد انتهاء العمل.
وتوصية من كاهنةٍ رفيعة
تفتح باب العمل في المعبد لاحقًا،
فوافقتُ فورًا.”
تبدّد الشكّ الخفيف من وجه يِيرينا،
وحلّ محلّه شعورٌ بالأسف.
كانت جين امرأةً لحقت بساحة الحرب طلبًا للرزق،
وكانت يِيرينا قد استنتجت من أحاديثها
أنّ عائلتها ليست ميسورة الحال.
“ومع ذلك……
ألا تشتاقين إلى عائلتكِ؟”
“بالطبع أشتاق.
لكن حتّى لو عدتُ إلى البيت،
سأضطرّ للعمل لأعيش.”
“…….”
“لا تنظرِي إليّ هكذا.
قالوا إنّهم سيمنحونني إجازةً كلّ بضعة أشهر.
في زمن الحرب، لم أرَهم لستّة أشهر،
فهذا شرطٌ جيّد جدًّا.
وفوق كلّ ذلك…….”
“…….”
“……لم أُرِد أن أفترق عنكِ هكذا.”
كان في كلماتها صدقٌ دافئ.
شعرت يِيرينا بشيءٍ يختنق في صدرها،
فكتمت دموعها بصعوبة وقالت:
“شكرًا لكِ.”
في هذا القصر الإمبراطوري،
لم يكن لامرأةٍ عاميّة مثل جين أيّ نفوذ يُذكَر،
لكنّ يِيرينا، العمياء، الأسيرة،
والتي ذاقت العنف للمرّة الأولى في حياتها،
كانت تشعر بالطمأنينة لمجرّد وجود شخصٍ مألوفٍ إلى جانبها.
“لا شكر على واجب.
والآن، هل أُحضِر لكِ كوبًا آخر من الشاي……؟”
طَقّ. طَقّ.
قاطع طرقَ الباب الجوّ الدافئ.
فالتفت رأسا المرأتين في آنٍ واحد نحو الصوت.
“أنا أليسيا.
هل أستطيع الدخول؟”
أومأت يِيرينا برأسها.
فنهضت جين على الفور وتقدّمت نحو الباب.
“تفضّلي.”
انفتح الباب،
ودخلت أليسيا ذات الشعر الأبيض بصوتٍ مهذّب.
لكنّها لم تكن وحدها.
‘آه…….’
تصلّب وجه جين حين رأت رجلًا بزيّ حراسة يقف خلف أليسيا،
فشدّت كتفيها بتوتّر.
أمّا الرجل، فلم يُبدِ أيّ تعبير،
نظر إلى جين ببرود،
ثم وجّه بصره إلى داخل الغرفة،
إلى يِيرينا تحديدًا.
لاحظت جين ذلك،
فتجمّد وجهها لحظة،
ثم تنحّت جانبًا بصمت.
‘مَن هذا؟’
دخلت أليسيا والرجل.
صوتُ خطواتٍ ثقيلة، خافتة لكن واضحة.
أدركت يِيرينا وجود شخصٍ آخر غير أليسيا،
فشدّها القلق.
فسارعت أليسيا بالكلام، مطمئنة:
“هناك من أودّ أن أعرّفه إليكِ، يا يِيرينا.
اقترب…….”
شعرت يِيرينا باقترابهما،
وبرائحةٍ باردةٍ غريبة في الهواء،
فشدّت الغطاء حول جسدها بقوّة.
‘……لا أُحبّ هذا.’
انتفض جسدها،
وشعرت بإحساسٍ غامض، كأنّ ذكرى مجهولة تطاردها.
أرادت أن تطلب منهما التوقّف،
لكنّها عضّت شفتها السفلى وكتمت صوتها.
وحين وصلا أمام الأريكة مباشرة،
انحنت أليسيا وقدّمت الرجل:
“اعتبارًا من اليوم،
هذا هو الفارس كيان،
سيكون المكلّف بحمايتكِ.”
“……تشرفتُ بلقائكِ.
أنا كيان، من عائلة مودري.”
انحنى الرجل،
واقترب صوته الهادئ أكثر.
‘آه……؟’
اتّسعت عينا يِيرينا العمياء عند سماع صوته.
صوتٌ تعرفه.
لم تسمع منه سوى بضع كلمات،
لكنّه محفور في ذاكرتها بوضوح.
رفعت رأسها وقالت:
“أنتَ…… في ذلك اليوم.”
“هل تعرفان بعضكما؟”
سألت أليسيا بدهشة.
لكنّ الصمت خيّم لحظة.
“……سبق أن أنقذني.”
قالت يِيرينا أخيرًا.
يومَ الهجوم في الغابة.
كانت متأكّدة.
“حين تعرّضنا للهجوم في الغابة……
كنتَ أنتَ، أليس كذلك؟”
“نعم.”
كان صوته كما هو.
هادئًا، منخفضًا، باردًا قليلًا،
لكنّه يحمل جاذبيّةً خاصّة.
ومع ذلك،
شعرت بقشعريرةٍ كلّما تكلّم،
وبرغبةٍ عارمة في الهرب.
مال جسدها إلى الخلف دون وعي،
ثم تجمّدت حين أدركت كيف يبدو تصرّفها.
“تأخّرتُ في شكرك.
شكرًا لأنّك أنقذتني يومها.”
قالتها وهي تُخفي نفورها.
تأخّر ردّه لحظة.
“……كان واجبي.”
سرت قشعريرةٌ باردة في عنقها.
فلم تعد تحتمل،
ونادت:
“أليسيا.”
“نعم، يا يِيرينا.”
قالت بصوتٍ خافت:
“……لا أشعر بأنّني بخير.
أعتذر،
لكن هل يمكن أن نُنهي الزيارة اليوم؟”
فهمت أليسيا،
ونهضت دون امتعاض.
“يبدو أنّكِ مُرهَقة.
الفارس كيان، سننصرف.
يِيرينا، خذي قسطًا من الراحة.”
“أستأذن.”
قالها الرجل وانصرف.
أومأت يِيرينا برأسها شاحبة.
لم تمضِ لحظات
حتّى أُغلق الباب بقوّة.
ومع ابتعاده، زال ذلك البرد.
عندها فقط،
شعرت يِيرينا بدفء الموقد،
وأرخت جسدها أخيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 21"