لم تجد يوليا جوابًا مناسبًا تردّ به، فأصرّت على العناد ومحاولة الصمود،
فقاطعتها أليسيا بصوتٍ أشدّ صلابة، ثم هزّت رأسها كأنّها لا تنوي الاستماع أكثر، وأمرت:
“الأخت يوليا. بوصفي الأعلى رتبةً، آمركِ أن تعودي الآن ومعكِ التابعات لكِ.
وإلّا فسأرفع أمرَ هذا الحادث إلى رئيس الكهنة.”
حين ضغطت أليسيا عليها بالمنصب، احمرّت عينا يوليا بالدم،
لكن بدا أنّه لا حيلة لديها، فارتخت قبضتاها أخيرًا واستدارت متّجهةً إلى الخارج.
ولحقتها النسوة اللواتي جئن معها مسرعات، وهنّ يراقبنها بوجل.
“يا لها من قذِرةٍ عمياء…….”
تمتمت يوليا بصوتٍ عالٍ قليلًا، لا يُعدّ همسًا خالصًا، قبل أن تخرج تمامًا.
فاشتعل الغضب على وجهي كاهنتين كانتا مع أليسيا، وحدّقتا بها بحدّة،
أمّا أليسيا نفسها فلم تلتفت حتّى.
ازدادت وطأة يوليا غضبًا من هذا التجاهل، فاختفت وهي تُحدِث ضجيجًا ثقيلًا بخطواتها.
وحين ابتعد الصوت، أطلقت أليسيا زفرةً خافتة، ثم اقتربت من يِيرينا.
قطّبت جبينها من رائحة السائل الأخضر النفّاذ، وأمرت:
“يا لِهذا…… زيل. أحضِري ماءً وقماشًا.”
امتثلت الكاهنة ذات الشعر الأحمر، زيل، فورًا وأحضرت الماء وقماشًا نظيفًا.
أشارت أليسيا برأسها نحو يِيرينا،
فبادرت زيل وكاهنةٌ أُخرى إلى ترطيب القماش ومسح وجه يِيرينا بلطف.
“اصبري قليلًا، من فضلكِ. سيزول الألم حالًا.”
تردّدت يِيرينا عند اللمسة، لكن نبرة الصوت الخالية من الأذى جعلتها تسترخي.
وبالفعل، ما إن لامس القماش بشرتها حتّى خفّ الوخز تدريجيًّا.
شعرت يِيرينا بزوال الألم، ورفعت رأسها بحذر.
“آه…… تأخّرتُ في التعريف بنفسي.”
كانت يِيرينا توشك أن تسأل عن هويّتها،
لكن أليسيا سبقتها بالكلام، ثم انحنت قليلًا وقدّمت نفسها بصوتٍ مهذّب:
“تشرفتُ بلقائكِ. أنا كاهنةُ النور، أليسيا.
ومن اليوم فصاعدًا، سأكون المسؤولة عن تطهيركِ وتعليمكِ، يا صاحبة السموّ.”
—
بعد تعريفٍ مقتضب، أمرت أليسيا الكاهنات التابعات لها بإسناد يِيرينا،
ثم قالت إنّ مقرّ الإقامة قد تحدّد، وبدأت تقودها.
ربّما راعت أليسيا عدم قدرة يِيرينا على الرؤية،
فكان سيرها وسير الكاهنات بطيئًا غير متعجّل.
ومع ذلك، وبسبب بُعد الوجهة، راحت أنفاس يِيرينا تضطرب، وبهت لونها.
“المسافة بعيدة قليلًا، أليس كذلك؟ أعتذر.
لكن داخل القصر، لا يُسمَح بركوب العربات دون إذنٍ من جلالة الإمبراطور……
هل نرتاح هنا قليلًا؟”
توقّفت أليسيا في زاويةٍ من حديقةٍ خالية من الناس،
ثم التفتت إلى يِيرينا التي كانت تلتقط أنفاسها.
“يا صاحبة السموّ. الأصل أن أناديكِ بالأميرة،
لكن من الآن فصاعدًا سأخاطبكِ باسمكِ: يِيرينا.”
لم تكن يِيرينا لتكترث بما تناديها به كاهنةٌ إمبراطوريّة،
غير أنّ الفضول دفعها لإمالة رأسها نحو أليسيا.
فبادرت الأخيرة بالشرح:
“نُقل من الحاكم إنّ لعنةً شديدةً حلّت بكِ،
وإنّ التحرّر منها يستلزم زمنًا من الصلاة وترسيخ الإيمان.”
“…….”
“وبعد أن تلقّى رئيسُ الكهنة الوحي، أمرني أن أُرافقكِ
وأقودكِ إلى طريق الإيمان القويم.”
“…….”
“ستقيمين معي في مكانٍ هادئ،
وخلال ذلك عليكِ التخلّي عن جميع الألقاب الدنيويّة والمكانة والترف،
والعيش بتقشّف.”
“…….”
“قد تطول المدّة، فهذه لعنةٌ غليظة،
لكن لا تقلقي. الحاكم رحيم.”
كانت يِيرينا قد فهمت الخطوط العريضة لما يجري من كلمات يوليا،
ومع ذلك لم تستطع كتم ضحكةٍ ساخرة.
قالت بوجهٍ متحدٍّ:
“أنا لا أؤمن بحاكم النور.
أنا أؤمن بحاكم مملكة سِيداس الذي يحميها……!”
لكن قبل أن تُكمِل، لامس إصبعٌ بارد شفتيها.
وحين سكتت، همست أليسيا بصوتٍ هادئ، حازم:
“……لا يجوز التفوّه بكلامٍ مُجدِّف هكذا.
جلالة الإمبراطور شديدُ الإيمان،
ولو وصل هذا الكلام إلى أذنيه، فقد تقع كارثة.”
فهمت يِيرينا ما تعنيه بـ”الكارثة”،
فأطبقت فمها، وإن ظلّ الغضب باديًا على وجهها.
نظرت إليها أليسيا بنظرةٍ غامضة، ثم قالت:
“سنُتابع الطريق الآن.”
بعد مسيرٍ طويل، تجاوزوا أكثر من عشرة مبانٍ وثلاث حدائق،
حتّى بلغوا برجًا رماديًّا منخفض الارتفاع.
كان البرج قديمًا، جدرانه متآكلة، يتسلّقها الطحلب،
وبدا كأنّه لا يليق بأن يكون داخل القصر الإمبراطوري.
كما أنّ ضوء الشمس بالكاد يصل إلى أسفله،
حتى إنّ يِيرينا، على عماها، شعرت بكآبته.
“من هنا تبدأ درجاتٌ طويلة، فانتبهوا.
اعتنوا أكثر بإسناد يِيرينا.”
صرير.
فُتح الباب، ودخلت أليسيا،
وبدأوا يصعدون درجًا حلزونيًّا طويلًا يلتفّ من أسفل البرج إلى أعلاه.
“اقتربنا.”
تعثّرت يِيرينا مرارًا، لكنّها لم تسقط.
غير أنّ صعود الدرج غير المتساوي أنهكها،
فازداد شحوب وجهها.
‘مع الإسناد أشعر بهذا العناء……
هذا مكانٌ لا يمكن الفرار منه وحدي.’
التقطت أنفاسها بصعوبة،
وشعرت أنّ هذا البرج ليس سوى سجنٍ بلا قضبان.
فدرجٌ مستقيم وحده عقبة،
فما بالك بمئات الدرجات الحلزونيّة.
ولو اشتعل حريق، لما كان لها سبيل للنجاة.
‘لكن…… أيّ فرق؟ أينما كنتُ، مصيري واحد.’
فهي في النهاية غنيمة حرب،
طائرٌ في قفص، مهما تغيّر شكل القفص.
ومع ذلك، كان ثِقل المكان يخنق صدرها،
فوضعت يدها عليه دون وعي.
“من هنا…….”
فتحت أليسيا بابًا،
وفجأةً استقبلها صوتٌ مألوف.
“الأميرة…… لا. يِيرينا!”
“جين؟”
ارتسمت راحةٌ خفيفة على وجه يِيرينا.
وجود شخصٍ تعرفه، يمكنها الاتّكاء عليه قليلًا.
التقطت جين ذلك، فاندفعت تعانقها بقوّة.
تفاجأت يِيرينا، ثم استسلمت للعناق.
كانت بحاجةٍ ماسّة إلى هذا الاطمئنان.
“……تحدّثا قليلًا. سأعود بعد حين.”
جاء صوت أليسيا من الجانب.
لم ترَها يِيرينا،
لكنّ جين التفتت نحو الصوت، ثم ارتجفت دون قصد.
بدت الكاهنة المعصوبة العينين كأنّها ترى كلّ شيء.
—
في منتصف البرج، وقفت أليسيا مع كاهنتين من تابعاتها: زيل وجول.
كانت وجوههنّ جادّة.
“احتاجت إلى إسناد، لكنّها لم تبدُ عاجزة عن صعود الدرج.”
“صحيح. كانت متوتّرة،
لكن لا يبدو أنّها فقدت بصرها منذ زمنٍ قريب،
خصوصًا بالنظر إلى حالة الدرج…….”
أومأت أليسيا بخفّة، ثم قالت بصوتٍ منخفض:
“يمكنكما الانصراف الآن.”
“وأنتِ، سيدتي أليسيا؟”
“لا يزال لديّ ما أُتمّه،
وسأبقى هنا قليلًا.”
“حسنًا. سنكون في قاعة الصلاة.”
انحنتا وغادرتا.
وبقيت أليسيا واقفةً وحدها، ثم همست:
“كما ظننتُ…….”
تحت عصابة العين المطرّزة بنقوش المعبد،
كانت عينا أليسيا خاويتين تمامًا.
ومع ذلك، رفعت رأسها بلا تردّد،
وصعدت الدرج غير المنتظم بثبات.
كلّما مرّت بجانب مصباحٍ معلّق،
اشتدّ ضوؤه لحظة،
وتلألأ وميضٌ ذهبيّ على ظلّها، ثم اختفى.
‘الصعود في كلّ مرّة…… مُتعب.’
حين بلغت قمّة البرج، أخرجت نفسًا مثقلًا،
وتقدّمت حتّى واجهت بابين، أحدهما أكبر من الآخر.
توقّفت أمام الكبير.
لم تُصدِر صوتًا،
بل أنصتت لما يجري في الداخل.
كانت هناك أصواتٌ تتحدّث،
لم تميّز الكلمات بوضوح،
لكن كلّما سمعت صوت يِيرينا،
قبضت يدها ثم أرخته قليلًا.
وبعد حين، انطفأ أحد المصابيح فجأة.
تعمّق الظلام.
ثم سُمِع وقعُ خطواتٍ منتظمة على الدرج.
استدارت أليسيا.
وصعد رجلٌ، بدا كشمعةٍ تتمايل في العتمة.
شعره أسود، وثيابه داكنة،
كأنّه جزءٌ من الظلّ نفسه.
غير أنّ عينين حمراوين قانيتين ظلّتا تتلألآن بوضوح.
خطت أليسيا نحوه، وانحنت باحترام، وقالت:
“أوصلتَ، إذًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 20"