2
هوت مملكة سيداس. في غضون نصف عام فحسب.
ما كانت تتوقع أمة أن تبتلع مملكة سيداس بهذه السرعة. فبالرغم من أنها كانت كياناً صغيراً يتربع على الطرف الشمالي الشرقي من القارة، إلا أنها كانت دولة ذات بأس، تمتد جذور تاريخها لأكثر من ألف عام.
علاوة على ذلك، كانت المملكة تستقر في موقع بالغ الوعورة، يصعب اختراق حصونه. فمن شرقيها وجنوبيها، تواصلت غابة ‘آلانتا’ الكثيفة بأشجار الصنوبر، متسلسلة بلا مدى فوق قم السلاسل الجبلية الشاهقة.
وغربها كان شاطئاً محاطاً بالمنحدرات الصخرية، أما شمالها فكان ثلجاً مجمداً لنصف العام، يغص بالقبائل الهمجية.
وعلى الرغم من أن نهر ‘هارمونا’، المسمى “الشريان الأعظم”، كان يقطع المملكة وصولاً إلى كبد القارة، إلا أن مجراه كان يضيق في مواضع كثيرة، ما كان يجعل نقل الجند عبر السفن أمراً شاقاً.
لهذا السبب، لم توجه القوى العظمى أنظارها إلى مملكة سيداس منذ فجر تاريخ القارة. كانت أرضاً عصية على الغزو، وما كان الغاصب ليجني من احتلالها مغانم تُذكر. ولربما كان هذا هو سر عمرها المديد.
وهكذا صمدت المملكة القائمة على تلك الهضبة الطبيعية. وبالرغم من افتقارها للثراء الفاحش، فقد أحبها شعبها لجلالة ملوكها المرموقين، وأقسم الوزراء بالولاء المطلق لملكها بكل اعتزاز.
بيد أن مسيرة المملكة السلمية بلغت منتهاها اليوم. فقد اجتاح الجيش الأسود لإمبراطورية ‘بيستيوس’، حاكم القارة الأوحد، القصر بقلب المملكة، وأعمل سيفه في عنق الملك والملكة.
وقد قُدّر لمملكة سيداس أن تسجل في بطون التاريخ على أنها خرّت راكعة تحت وطأة إمبراطورية ‘بيستيوس’.
”مجد الإمبراطورية الظافر!”
”تحيا الإمبراطورية العظيمة!”
في غد استيلاء الجيش الأسود للإمبراطورية، بقيادة ‘روشان بيستيوس’، على القصر، أقاموا احتفال النصر فوراً.
أما خدام القصر الذين نجوا من هول المذبحة بإعجاز، فلم يجدوا مفراً من تطهير القصر الملطخ بالدماء، وإعداد صنوف الطعام والخمور للغزاة تحت رقابتهم الصارمة، وقد عصرو عيونهم بدموع الندم.
”عجلوا الخُطا! أيها المتباطئون!”
وبينما كان الناجون يرتعدون فرقاً، أظهر جند الإمبراطورية طبعهم الوحشي المألوف. فبعد حياة مضنية تحت السيطرة واجهوا فيها الموت، شرعوا في تفريغ كبتهم بعنف في حفل النصر، ووقعت أضرار ذلك بأكملها على عاتق الناجين.
”أرجو، أرجو العفو.”
”تحرك قبل أن تتضرع!”
تلقى خدام القصر الناجون سيلاً من السباب، وتحطمت رؤوسهم بكؤوس الشرب على يد الجند، بينما كانت الخادمات هدفاً للمضايقات.
لم يمنع الفرسان جنودهم الثائرين، بل تغاضوا عن بعض التجاوزات بتخفيف القيود عليهم. وقد أدرك الجند، من خلال تجاربهم، مدى التساهل الذي يمكن أن يبديه رؤساءهم، فاستمتعوا ببربرية الغزو بذكاء وفطنة.
وهكذا دانت المملكة للاغتصاب التام من قبل الغزاة الطغاة.
بينما كان الجند يمرحون ويحتفلون بالنصر في أوسع قاعة ذهبية بالقصر، أقام القائد العام ‘روشان بيستيوس’ حفلاً منفصلاً برفقة الفرسان ذوي الرتب العالية.
كانت القاعة الصغيرة الفاخرة هي ذاتها التي اعتادت أن تضم مآدب العشاء الملكية ومناسبات العائلة، وقد أبرزت التماثيل والرسومات الجدارية الفنية التي زينتها أناقة مملكة سيداس الفريدة.
”انتصاراً للإمبراطورية! ولأجل سموكم!”
هب فارس كهل، مشهور بنبله، وكان جالساً حول الطاولة الطويلة المتمركزة حول ‘روشان بيستيوس’، ورفع كأسه صارخاً بصوت جهوري حين رأى ‘روشان’ المتربع على المقعد الرئيسي. تبعه بقية الفرسان فقرعوا كؤوسهم ونادوا باسم ‘روشان’.
كانت أعينهم تفيض فخراً وهم يطالعون سيدهم.
”ما كان كذباً قولهم إن حسناوات سيداس فائقات الجمال.”
”آه!”
كانت الأجواء تبلغ ذروة الحماس. حينها، جذب أحد الفرسان الثملين خادمة القصر التي كانت تخدمه فجأة من خصرها.
أطلقت الخادمة صرخة خوف لا إرادية، مفزوعة بلمسة الرجل الغريبة.
لم يكن صوتها مرتفعاً، لكنه كان كافياً لجذب الانتباه.
صوت ارتطام.
توجه ‘نوكس’، الجالس قرب ‘روشان’، بنظره الثاقب نحو الفارس وحذره على الفور. تخلى الفارس عن الخادمة على عجل لما رأى نظرة ‘نوكس’ القاتمة.
حين هربت الخادمة مغطية وجهها بعد أن تحررت من قبضته، انفجرت الضحكات من كل صوب.
فتوجه ‘نوكس’ بحدة نحو الضاحكين. ولما كان الجميع في القاعة يدركون طبيعة ‘نوكس’ الصارمة، سارعوا إلى كبت ضحكاتهم.
”يا نوكس. كف عن غضبك هذا. إن ظللت بهذا الوجه، ظن الجميع أنك تغضب لغير سبب. هلا تناولت كأساً من النبيذ بدلاً من ذلك.”
”لم نعد بعد إلى وطننا. لن نتراخى في يقظتنا حتى النهاية. وإضافة إلى ذلك، فإن فارساً يعبث بامرأة أمام سموه…”
لام ‘فريدريك’، الجالس قبالة ‘نوكس’، صديقه بلهجة مزاح. رمق ‘نوكس’ صديقه بنظرة غضب، ثم استقام وقال.
هز ‘فريدريك’ كتفيه وامتنع عن عرض النبيذ عليه مجدداً، بل ملأ كأسه بالماء بدلاً من ذلك.
”افعل ما تشاء إن لم تكن ترغب بالشرب. إلى جانب ذلك يا ‘نوكس’، ألا تجد في سموه غرابة ما؟”
توقف ‘نوكس’ الذي كان يرفع كأس الماء، عند كلمات ‘فريدريك’، وأدار رأسه جانباً.
رأى ‘روشان’ جالساً بالقرب منه، مائلاً رأسه قليلاً. نظر ‘نوكس’ إلى سيده بوجه جاد، ثم نطق متأخراً.
”… يا ‘فريدريك’، نحن أتباع لسموه ونتلقى أوامره. ليس من الصواب أن نرصده ونتوقع شيئاً.”
”ألا تظن أن السبب هو الأميرة؟”
لم يكترث ‘فريدريك’ لتوبيخ ‘نوكس’. فقد أعلن ما يجول في فكره منذ الأمس دون وجل.
عبّس ‘نوكس’ نحو ‘فريدريك’، ولكنه لم يزد. فقد كان هو أيضاً يتساءل في قرارة نفسه عما إذا كان سيده قد عُني بأميرة البلد المغلوب.
”كانت فاتنة بحق. لم تر عيناي مثل جمالها قط. لكن ما الجدوى من ذلك وهي ليست على ما يرام.”
”ماذا تعني بكونها ليست على ما يرام؟”
”ألم تسمع؟ الأميرة مصابة بعاهة ما. سنتبين ذلك يقيناً بعد استعادة وعيها، لكن الطبيب يرى أنها ربما فقدت بصرها. والأدهى أنها تهذي وهي مريضة… لقد علمنا جيداً، بعد مشاهدات عديدة، ما هو مصير أولئك الواهنين. إنهم إما يفقدون عقولهم أو يهلكون بعد هذا العناء.”
كان ‘فريدريك’ دائم الابتسامة، ولكنه كان أشد فرسان ‘روشان’ قسوة. لم يكن يحمل أي ذرة تعاطف مع المغلوبين. لكن ‘نوكس’ شعر ببعض الشفقة نحو الأميرة، بخلاف صديقه.
فقد سُحقت مملكة الأميرة، وقُتلت عائلتها بأكملها. والآن، جسدها غير سليم… كان أمراً محزناً.
”على أي حال، لا ضير. ما دام مظهرها سليماً، فلا بأس من ضمها. ولربما كان هذا أفضل. فالمرأة الهادئة هي الأفضل. أليس كذلك؟”
رأى ‘فريدريك’ التعابير القاتمة على وجه ‘نوكس’، لكنه ظل يبتسم ويلقي مزحه البذيء. شعر ‘نوكس’ بالضيق من كلام ‘فريدريك’، ولامه بصوت خشن.
”كفى.”
”يا ‘نوكس’؟ هل أنت أيضاً مولع بالأميرة؟”
”ليس الأمر كذلك. أنا أقول هذا لأن إلقاء مزح سيئ على امرأة ضعيفة ليس مما ينبغي لفارس أن يفعله.”
”ما الخطب؟ لم تعد سيدة، بل هي أسيرة ستُساق لتعيش حياة العبودية. أنت تعلم جيداً طبع إمبراطورنا العظيم، أليس كذلك؟ إن هو فقد اهتمامه بالأميرة، فمن البين أنه سيمنحها لآخرين تسلية…”
كان ‘فريدريك’ يضحك ويواصل حديثه، مستمتعاً برد فعل ‘نوكس’.
عندها، اخترق هواء بارد موحش ما بينهما من مكان مجهول. ارتجف كل من ‘فريدريك’ المبتسم و ‘نوكس’ العابس دون قصد منهما، وأدارا رأسيهما.
فرأيا سيدهما ‘روشان’، جالساً في المقعد الرئيسي، يراقبهما بتفحص صامت.
كان ‘روشان’ مرتدياً ملابس مريحة للغاية، بخلاف ملابس المعارك. كان يرتدي قميصاً أبيض فضفاضاً، ويلقي عباءة حريرية طويلة بلا ترتيب، وهو متكئ على ظهر الكرسي، وكانت عينا ‘روشان’ تتلألآن من بين شعره الأسود المبعثر، وعلى وجهه تعابير ملل.
كان يبدو كأول إنسان صاغه الفنان على صورته.
فالذين يقع بصرهم عليه لأول مرة، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، يتجمدون لبرهة.
لكن ‘فريدريك’ نكس رأسه دون أن يجد وقتاً للإعجاب بمظهر سيده الفاتن.
لم يبدُ ‘روشان’، الذي اتخذ وضعية متراخية لكنه ظهر بهيبة سيف مصقول بعناية، في مزاج حسن
عرق جسد ‘فريدريك’ البارد من الخلف، إذ ظلت نظرة ‘روشان’ غير المبالية موجهة نحوه. لم يعرف السبب، لكنه أيقن أنه قد كدر صفو سيده.
’لعل…’.
قضم ‘فريدريك’ شفتيه، مستذكراً المظهر الغريب لسيده وهو يحدق في الأميرة صامتاً، قبل أن يرمي رمحه على الملكة مباشرة. لكنه سرعان ما قال في نفسه: ‘لن يكون كذلك’. فسيده الذي رافقه لأكثر من عشر سنوات، كان غير مبال بالنساء إلى حد الإفراط.
كان يتجهم ضجراً من اهتمام عدد لا يحصى من الجميلات، سواء في الأراضي المفتوحة أو في الإمبراطورية.
”… هذا مصدر إزعاج.”
كان ذلك في خضم ارتباك ‘فريدريك’.
نظر ‘روشان’ إلى شعره الأشقر اللامع لوهلة، ثم نطق فجأة. ولما تكلم، وهو نادراً ما يفعل ذلك في مثل هذه المجالس، صمت الجميع وتطلعوا إليه.
مسح ‘روشان’ الحاضرين بنظرة سريعة واحدة، ثم نهض ببطء.
”سأغادر أولاً، فاستمتعوا أيها السادة بأنفسكم.”
”سأتبعك سموك. “
نهض ‘نوكس’ ليتبعه. وكذلك ‘هايدن’، الذي كان على مقربة منه، ترك كأسه ووقف على الفور.
لكن ‘روشان’ أشار بتلويحة يد رافضة للشخصين اللذين أرادا مرافقته، ثم استأنف سيره.
”لكننا في أرض العدو. وبالرغم من أننا قد احتليناها، إلا أن الذهاب بمفردك دون حراسة هو…”
تبع ‘هايدن’ ‘روشان’ بخطوات قليلة، وأبدى رأيه، لكن ‘روشان’ كان عازماً. توقف لحظة وقال لـ ‘هايدن’ ببرود.
”كفى. لا أرغب في ذلك.”
”سمعاً وطاعة.”
تراجع ‘هايدن’ عن طلب سيده. نظر الفرسان إلى ظهر ‘روشان’ وهو يغادر قاعة الحفل حتى انغلق الباب.
لكن على الرغم من كثرة العيون، لم يلتفت ‘روشان’ إلى الوراء ولو مرة واحدة، وغادر القاعة.
”آه… هيييه!”
أطلقت الأميرة، التي سُلبت غرفتها الأصلية وحُبست في غرفة ضيوف صغيرة، أنيناً موجعاً. كانت يداها مكبلتين بسلسلة حديدية متينة مربوطة بزوايا عمودي السرير.
بيد أن القيود المادية لم يكن بوسعها أن تحكم اللاوعي. أبحرت الأميرة ‘ييرينا’ في ماضي حياتها، ورأسها يغلي بالحمى.
’يا ييرينا ابنتي، إلى أي شخص وكيف أرسلكِ؟’
’يا أبي ويا أمي. ييرينا لا تزال غضة. يمكن لكما التفكير في ذلك على مهل بعد بضع سنوات.’
’ييرينا سيداس’. كانت الأميرة الوحيدة لمملكة سيداس، جوهرة العائلة المالكة والابنة التي نالت كل الحب. أحبها والداها المتفاهمان أكثر فأكثر وهي في كنفهما، وكان شقيقاها دائمي التدليل لها.
كانت تلك جل ذكريات حياتها، وهي الآن في ربيعها العشرين.
’جلالتك! لقد أعلنت الإمبراطورية الحرب! يقال إن جيش الإمبراطورية بقيادة ‘روشان بيستيوس’، شقيق الإمبراطور، يتجه نحو المملكة!’
لكن حياتها التي بدت سعيدة أبد الدهر تدمرت منذ نصف عام. كان إعلان الحرب المفاجئ من قبل الإمبراطورية. حاولت المملكة تلافي غضب الإمبراطورية بكل وسيلة، لكن لم يكن ثمة مفر.
’يا أخي ‘آلان’… عُد إلينا سالماً. عُد إلينا. حقاً، أرجوك؟’
’يا ييرينا. لا يساورك القلق. من أكون أنا؟ سأعود حتماً.’
’صدقتِ يا ييرينا. كفي عن البكاء. إن ظللت تبكين، سيظل ‘آلان’ قلقاً حتى في مضمار الوغى.’
الحرب. ارتجفت ‘ييرينا’ خوفاً من هذا الشيء الذي لم تكن تتخيله قط.
بعد اندلاع الحرب، ذهب شقيقها الأكبر ‘آلان’، وتبعه شقيقها الثاني ‘أنطونيو’، إلى ساحة القتال.
ظلت العائلة مشغولة برعاية ‘ييرينا’ خلال تلك الفترة العصيبة. واساها أخواها حتى النهاية وهي تسكب الدمع، وعانقها الملك والملكة لتهدئتها وهما يودعان ابنيهما الذاهبين إلى الهلاك.
’جلالتك، لقد وردت أنباء من الجبهة…’
لكن الوعود التي قطعها الأخوان القويان حُنثت بأكملها. بعد ما يزيد قليلاً عن ثلاثة أشهر من بدء الحرب، وصل نبأ مصرع شقيق ‘ييرينا’ الثاني ‘أنطونيو’، وتبع ذلك بعد شهر نبأ مصرع ولي العهد ‘آلان’.
ناح الملك والملكة على فقد ابنيهما. لكنهما حاولا دائماً أن يظهرا متماسكين أمام ابنتهما ‘ييرينا’. كان هذا يضاعف ألم قلب ‘ييرينا’.
’يا ييرينا! لزاماً عليك الهرب من القصر! أسرعي الآن!’
في اللحظة التي سبقت احتلال القصر مباشرة، ظهر الملك والملكة بحالة مضطربة أمامها.
لقد رأيا جند العدو يتجمعون أمام القصر كجيش النمل الأسود، وحاولا بكل جهدهما تهريب ‘ييرينا’، الابنة الوحيدة المتبقية، خارج القصر.
بيد أنه لم يكن ثمة مخرج، ووقع عليهما أن يسمعا نبأ تحطيم جيش الإمبراطورية لأبواب القصر وهما و ‘ييرينا’ في مكان واحد.
أما المصير الذي واجهته ‘ييرينا’ بعد ذلك…
Chapters
Comments
- 5 منذ 20 ساعة
- 4 منذ 20 ساعة
- 3 - كانت الفَجيعةُ مُروِّعةً. منذ يومين
- 2 - الأميرة العمياء. منذ يومين
- 1 - المُقدمة. منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 2"