وتناثر الدم، المنبعث بزاويةٍ مائلة، على العرش الذهبيّ.
تحت العنق الذي رسم السيف مساره المستقيم عليه، انكمشت عباءةٌ زرقاء فخمة انكماشًا مروّعًا.
وفي اللحظة نفسها، هوى الجسد الملفوف بالعباءة مع صوتٍ مكتومٍ ثقيل.
كانت تلك النهاية العبثيّة لملكٍ كان يتربّع، في علوٍّ مهيب، فوق الجميع.
بعد الجسد بقليل، سقط الرأس، وتساقط معه تاجٌ ذهبيٌّ صُنع على هيئة قرون الأيائل.
طَقّ.
اصطدم التاج بأرضيّة الرخام، فأصدر صوتًا خفيفًا على غير ما يوحي به وزنه، ثمّ أخذ يتدحرج مرسِمًا دائرةً صغيرة.
وأخيرًا، توقّف وهو يلامس قدمي الغازيّ المتوحّش، ذاك الذي قطع الملك بضربةٍ واحدة، وترك مملكة سيداس بحرًا من نار، وليّ عهد إمبراطوريّة ڤيستيوس وقائد هذه الحرب الأعلى، روشان ڤيستيوس.
“أيّها الوغد!”
الملكة، الجالسة إلى جوار العرش الذي كان الملك يحتلّه في حياته، أرسلت شعرها في فوضى، وأجهشت بدموعٍ من دم.
خرج من جسدها النحيل صراخٌ وحشيّ لا يُتخيَّل، موجّهًا مع بكائها نحو الغازي.
خطت الملكة، وقد جاوزت منتصف العمر، فوق الأرض الملطّخة بدم زوجها الذي عاش معها عمرًا، وأخرجت من حضنها خنجرًا مزخرفًا.
كان الخنجر الصغير، المرصّع بجواهر نفيسة، يبدو غير صالحٍ لإيذاء أحد.
لكنّ نصله المخبوء في غمده كان، على غير المتوقّع، مصقولًا حدّةً لا تقلّ عن حدّة تعبير الملكة.
ألقت الملكة نظرةً أخيرة على رأس زوجها المتدحرج، ثمّ أقدمت على تحدٍّ طائش.
أمسكت الخنجر بكلتا يديها، واندفعت عبر البركة المصنوعة من دم زوجها، نحو الغازيّ الحامل للسيف.
“ذبحتَ أبنائي، وها أنت تقتل زوجي أيضًا.
أقسم أنّني سأقودك بنفسي إلى السماء!”
كانت حركتها، المستنفِدة لكلّ قواها، حادّةً إلى حدٍّ ما.
لكن مهما يكن، فهي امرأةٌ نبيلة لم تمسك في حياتها سيفًا، بل اعتادت أن تمسك الزهور والجواهر.
فرسان روشان، الذين وقفوا على مسافةٍ غير بعيدة، كانوا يعرفون مهارة سيّدهم وطبعه، فلم يقلقوا كثيرًا من هجوم المرأة المرتبك.
فمن الواضح أنّها ستسقط، قبل أن تبلغ مداه، بالسيف ذاته الذي ارتوى من دم زوجها.
لكنّ الأمر كان غريبًا.
فرغم اقتراب خنجر الملكة بسرعة، بقي الغازيّ واقفًا في مكانه كأنّه مسمّر، لا يتحرّك قيد أنملة.
ولم يدرك فرسان روشان غرابة حال سيّدهم إلّا حين مدت الملكة ذراعها قبيل الطعن، فسارعوا إلى التحرّك بقلق.
كان سيّدهم يمسك سيفًا طويلًا حادًّا تحت عباءةٍ سوداء قاتمة كسواد شعره.
غير أنّ نصل السيف كان موجَّهًا إلى الأرض، وقبضة يده مرتخية.
كان وجهه، في الظاهر، لا يختلف عن عادته في الجمود، لكنّ من خدموه عن قرب كانوا يعلمون.
أنّ سيّدهم ليس على حاله المعتادة.
فقد كانت عينا روشان ڤيستيوس الحمراوان تلمعان بضوءٍ مجهول.
“مت!”
حتّى اللحظة التي رفعت فيها الملكة يدها الممسكة بالخنجر عاليًا، كان نظر الغازيّ منحرفًا عنها.
كان ينظر خلفها، أو بالأحرى، يحدّق في جهة العرش الذي جلس عليه الملك الذي قتله بيده.
“مولاي!”
مدّ فريدريك من عائلة روديتا، أحد أقرب المقرّبين إلى روشان في ساحة القتال إلى جانب نوكس وهايدن، رمحه الطويل.
فانغرس طرف الرمح الحادّ، المنقوش عليه رمز قرش المانتا، شعار عائلة روديتا، في خاصرة الملكة في لمح البصر.
تدفّقت حياةٌ حمراء عقب صفير الرمح.
انهارت الملكة، التي كانت تندفع بقوّة، دون أن تطلق صرخةً مكتملة، كما انهار زوجها.
سقطت بجانب الملك عديم الرأس، منبطحةً، بالكاد ترفع عنقها.
وفي عينيها الزرقاوين، وهي تنظر إلى عدوّها الذي داس وطنها وقتل زوجها وأبناءها جميعًا، تموّجت مشاعر قاتمة.
“آه!”
كان نوكس، الذي وصل متأخّرًا خطوةً عن فريدريك، ويتبع روشان تبعيّة العابد، يحدّق بالملكة بعينين متّقدتين كأنّه سيقتلها في الحال.
وفي تلك اللحظة، دوّى صراخٌ قصير، واندفع جسدٌ صغير من خلف العرش.
“الأميرة!”
تبع الصوتَ نداءُ امرأةٍ عجوز
لكنّ الشابّة التي خرجت من مخبئها خلف العرش ركضت دون تردّد نحو الملكة الساقطة.
“كيف تجرؤ!”
شدّ نوكس قبضته على السيف.
فقد رأى كيف اقتربت الملكة، التي استهان بها، من سيّده إلى هذا الحدّ.
مرّةً قد تُغتفَر، أمّا الثانية فلا.
غير أنّه، ما إن رأى وجه الشابّة، حتّى توقّف لا إراديًّا.
وجهٌ شاحب بين خصلاتٍ ذهبيّة متموّجة، وعينان زرقاوان كبركةٍ مخفيّة في عمق الغابة.
كانت ترتدي كيتونًا حريريًّا يلتفّ حول ساقيها وهي تركض، ورغم أنّ مظهرها كان غارقًا في الدموع والأسى، لم يبهت جمالها قيد شعرة.
بل على العكس، زاد حزنها المأساويّ من تألّق جمالها الكئيب.
‘أهي هذه الأميرة التي تتحدّث عنها الشائعات؟
حقًّا… ليست تسمية هذه الحرب باسمها ظلمًا.’
تنفّس نوكس إعجابًا في داخله، لكنّه سرعان ما عضّ شفتيه واستجمع وعيه.
همّ بالتحرّك ليمنع الأميرة من بلوغ الملكة أمام سيّده.
إلّا أنّ أحدًا سبقه.
كان روشان نفسه، الأقرب إلى الملكة النازفة.
رفع ذراعه ببطء، وأشار إشارةً خفيفة أوقفت تحرّك أتباعه.
توجّهت أنظار الفرسان إلى سيّدهم.
لكنّ عيني روشان لم تحيدا عمّن ثبّتهما عليه منذ زمن.
منذ اللحظة التي لوّح فيها بسيفه على عنق الملك، لم يكفّ عن التحديق في الأميرة وحدها.
“أ… أمّي….”
بمنع روشان، استطاعت الأميرة أن تحتضن جسد أمّها الذي لم تفارقه الحياة بعد.
لكنّ الوقت المتبقّي للملكة لم يكن، في نظر أيٍّ كان، يتجاوز دقائق معدودة.
“تماسكي قليلًا، أرجوكِ.
أمّي!”
لم تستطع الملكة أن تجيب على بكاء ابنتها الممزّق.
كان الزبد الدمويّ قد سدّ حلقها تمامًا.
غُرغِر.
خرج الصوت المخيف مرارًا من فمها.
“يـ… ييرِ… أنا… يا صغيرتي المسكينة….”
رغم عجزها عن نطق اسم ابنتها كاملًا، ظلّت تهمس لها.
هزّت الأميرة رأسها بعنف، ترفض، ترفض بلا توقّف.
حتّى هايدن، المعروف ببروده في مثل هذه المواقف، أنزل رأسه قليلًا أسفًا.
“لا ترحلي هكذا!
لا أريد أن أبقى وحدي.
أرجوكِ….”
لكنّ الملكة لفظت أنفاسها الأخيرة.
تدلّى رأسها ويداها بلا قوّة، وبدأ لونهما يميل إلى الزرقة.
وعلى وجهها، الذي لم تُغمَض عيناه تمامًا، ارتسم حزنٌ عميق وقلقٌ على ابنتها الباقية.
هزّت الأميرة جسد أمّها مرارًا، لكنّ الفرق بين الحيّ والميت كان يزداد وضوحًا مع كلّ حركة.
“آآآه!”
أطلقت الأميرة صرخةً حادّة، ثمّ انفجرت في نحيبٍ هستيريّ، عاجزةً عن تقبّل المأساة.
كان جسدها الصغير، وهي تعانق أمّها، يرتجف كفرخٍ مبتلّ تحت المطر.
راقب الغازيّ، قاتل الملك والملكة، الأميرة بصمت.
وحين ارتمت فوق جسد أمّها، مدّ ذراعه.
تقدّمت القفّازة المعدنيّة الملطّخة بالدم، تصدر رنّةً باردة، في مشهدٍ باعثٍ على القشعريرة.
شعرت الأميرة، الممدّدة فوق أمّها، بالظلّ يقترب، فمالت برأسها قليلًا على غريزتها.
وفي تلك اللحظة، اصطدمت عيناها الزرقاوان بعيني الغازيّ الحمراوين في الهواء.
لكنّ التقاء النظرات لم يدم.
فما إن انطبعت صورة كلٍّ منهما في عيني الآخر، حتّى طرأ تغيّر على الأميرة.
ظلّ لون عينيها صافيًا كسماءٍ صافية، لكنّ حدقتيها تصلّبتا كعيون الموتى، وبدأت شرارة الحياة، الراسخة وسط اليأس، تخبو تدريجيًّا.
شاهد روشان هذا التحوّل عن قرب، فشعر للمرّة الأولى في حياته بقشعريرةٍ غامضة، وفتح عينيه على اتّساعهما.
قرّب يده، التي كان قد أوقفها، من عيني الأميرة.
لكن قبل أن تمسّ أصابعه جفنها، أُغلِقت العينان، وانطفأ الزرقة.
وبينما كانت الأميرة مذعورة من اليد المقتربة، سقطت فجأةً على جانبها بصوتٍ مكتوم.
سحب الغازيّ يده، واستقام بعد أن كان قد انحنى قليلًا.
“…اعرضوها على الطبيب، ثمّ احبسوها في مكانٍ مناسب.”
أصدر أوامره إلى نوكس، بعد صمتٍ قصير، وهو ينظر إلى الأميرة المغمى عليها.
ارتعد نوكس للحظة من نبرة سيّده الثقيلة، ثمّ انحنى مطيعًا.
وهكذا، أُمسِكت الأميرة، وسُلِبت غرفتها الأصليّة، وسُجِنت في إحدى غرف الضيافة الصغيرة في القصر، على يد جنود الإمبراطوريّة التي غزت مملكتها.
وفي تلك الليلة، انحنى الطبيب بعمق أمام روشان، الذي استولى على مخدع الملك القتيل، وقال:
“مولاي. لا يمكن الجزم إلّا بعد أن تستعيد الأميرة وعيها، ولكن…”
“….”
“كما توقّعت، طرأ خللٌ على عيني الأميرة.
وبحسب ما فحصناه حتّى الآن، يبدو أنّها فقدت بصرها.”
“….”
“…لعلّ الصدمة كانت عظيمة.”
هكذا، أصبحت عينا ييرينا سيداس، أميرة المملكة المهزومة، وغنيمة الإمبراطوريّة، وأسيرةً لا أكثر، عمياء.
—
رفع الساحر الأعمى رأسه.
كانت الدماء تنهمر من عينيه المحترقتين، وأطرافه المكسورة ملتويةً على نحوٍ مشوّه.
ومع ذلك، كان يعلم.
فوقه، حيث يُحَسّ دفء الشمس، كانت سيّدته وحبيبته السابقة، الأميرة المتألّقة.
‘هيلينا….’
من تجاويف عينيه الخاوية، سالت كراهية كثيفة وهو يناديها.
ثمّ بصق عند قدميها.
كان لعابه أسود متعفّنًا من دمٍ مات في جسده.
‘أنتِ، وكلّ بناتكِ في المستقبل، وكلّ أميرات سيداس، سيصبحن مثلي.
ستُلعَن الأميرة المتألّقة.
ستعمى، وتغرق في دموعٍ تفيض من تجاويف عينيها، حتّى تخنق نفسها بيديها في النهاية.’
اندفعت اللعنة من حلقٍ ممتلئٍ بالدم بلا كابح.
لكنّ الأميرة المتألّقة استمعت بصمت، إلى لعنات من كان يومًا حبيبًا ومخلصًا.
أكان ذلك شعورًا خافتًا بالذنب لتخلّيها عن أكثر أتباعها إخلاصًا؟
أم شفقةً على حبيبٍ فقد كلّ شيء ويزحف كدودة؟
مهما يكن السبب، كانت واثقة.
فلا لعنة لا تُقهَر، ما دامت قد انتزعت قواه وصارت ساحرةً عظيمة.
غير أنّ البصقة السوداء العالقة بحذاءها الأبيض المرصّع بالألماس لم تختفِ أبدًا.
وقبل أن تبلغ ذروة مجدها على العرش الذي طالما اشتهته، صارت الأميرة المتألّقة عمياء.
التعليقات لهذا الفصل " 1"