“……لقد رأيتَ الأمر بالفعل، أليس كذلك. لم تتفوّه بشيء، لكنّك كنتَ شاردَ الذهن طوال الطريق.”
“يا لِهذا…… تسك.”
نقرَ جيمس بلسانه وقطّب حاجبيه ردًّا على جواب نوكس.
التصرّف الذي أقدم عليه سيّده فور عودته جعله في حيرةٍ بالغة، وهو الذي لازم روشان طويلًا.
‘ارفَع تقريرًا إلى جلالة الإمبراطور. قُل إنّ أميرةَ سِيداس ملعونة.’
روشان، الذي أمر جيمس، عقد لقاءً سريًّا مع رئيس الكهنة سيناكس، ثم هدّده بلا مقدّمات.
أمره أن يُلصِق إشاعةَ لعنةٍ بالأميرة التي جُرّت كغنيمة حرب، والمُقرَّر سلفًا إدخالها إلى مخدع الإمبراطور.
ثم أن تُحبَس في أحد أبراج القصر الإمبراطوري بحجّة فكّ اللعنة.
‘ماذا؟ سموّ الأمير. أنا رئيسُ كهنةٍ أنقل كلامَ الحاكم. لا أستطيع أن أقول كذبًا…… بل أن أكذب على جلالة الإمبراطور!’
‘رئيس الكهنة، هل تذكر ما فعلتَه أيّام كنتَ مرشّحًا في لوكن؟’
من الطبيعي أنّ رئيس الكهنة رفض في البداية.
لكن روشان كان يعرف من نقاط ضعفه أكثر ممّا ينبغي.
وحين لوّح له ببعضها، احمرّ وجهُه، ومع ذلك أسرع إلى الإمبراطور.
وهكذا، وِفق إرادة روشان، خوّف الإمبراطور مدّعيًا أنّ لعنةً حلّت بالأميرة.
“قلتُ في نفسي إنّك ما إن عدتَ حتّى بدأتَ تُصدِر أوامرَ غريبة.”
“…….”
“إن واصلتَ على هذا النحو فسيكون الأمرُ مُحرِجًا…….”
حكّ جيمس ذقنه وهو يتخيّل الأميرة التي لا بدّ أنّها سُحِبت إلى البرج في هذه الأثناء.
ومن خلف نظّارته، لاحظ نوكس قسوةً تلوح في عينيه السوداوين، ففتح فاه.
“جيمس. أنا أُقدّر هدفك وإخلاصك. لكن تجاوزَ الخطوط أمرٌ غير مقبول.”
“…….”
“تسامُحُ سموّه مع أفعالك سببه أنّه لا يهتمّ بالنتائج أيًّا كانت.
لكن أمرَ الأميرة مختلف. إن أخطأتَ، قد تفقد حياتك بيد سموّه.”
“إلى هذا الحدّ؟”
تعمّد جيمس أن يبدو مندهشًا، غير أنّ خفّة نبرته كشفت أنّه لا يأخذ التحذير على محمل الجدّ.
فضيّق نوكس ما بين حاجبيه.
“……في النهاية، ليست سوى امرأة.
أضمّها مرّةً وينتهي الأمر.”
ساد الصمتُ بينهما لحظة، قبل أن يلفظ جيمس عبارته بنبرةٍ متبرّمة، كأنّه يتحدّث إلى نفسه دون اكتراث.
فعاد نوكس يحذّره بصوتٍ جادّ.
“جيمس. اهتمامُ سموّه بالأميرة ليس بالأمر الهيّن…….”
“أشكر نصيحتك. سأحفر كلماتك عميقًا في ذهني.”
لكنّ جيمس قطع كلام نوكس ورفع كأس الماء أمامه وجرعه دفعةً واحدة.
ثم أخرج ساعةً جيبيّة كان يحتفظ بها وقال:
“يا للعجب، لقد تأخّر الوقت. عليك أن تعود الآن.
أنا مشغول بالتحضير لمأدبة الاحتفال بالنصر.”
فهم نوكس من طرده أنّ إحدى كلماته أصابت عصب جيمس.
كاد أن يضيف شيئًا عن الأميرة والسيّد، ثم عدل وسأل عمّا استجدّ.
“……ألم تُلغَ المأدبة بسبب مرض الإمبراطور؟”
“عاد سموّه بنبأ النصر، فكيف نُلغي الاحتفال بذريعةِ عِلّةٍ مُختلَقة؟ لقد دفعتُ بالأمر قُدُمًا.”
“نعم. هذا يشبهك.”
أومأ نوكس ببطء ونهض.
حافظ جيمس على ابتسامته حتّى خرج نوكس من الغرفة.
لكن ما إن أُغلِق الباب وتلاشى وقعُ خطواته، حتّى تجمّد وجهُ جيمس على برودٍ قاسٍ.
تمتم وهو يحدّق في الباب المغلق:
“يجب أن أنهي الأمر بسرعة.
وإلّا فسيغدو صداعًا حقيقيًّا لاحقًا.”
—
كم مرّةً صلّت يِيرينا؟
تضرّعت إلى حاكم وطنها التي لا تُجيب، ثم غلبها النعاس في لحظة.
نومةٌ قصيرة جدًّا، لكنّها كانت كافية لتُلقِي عن روحها وجسدها المنهكَين عبءَ الاحتمال، ولو قليلًا، في نعمة النسيان.
‘مَن……؟’
لكنّ ذلك لم يَدُم.
دوّى وقعُ أقدامٍ عدّة قريبًا، ففتحت يِيرينا عينيها على الفور وتحركت.
وما إن حاولت رفع جذعها، حتّى انفتح الباب بصوتٍ حادٍّ مُقشعرّ.
“أهذه هي الأميرةُ الملعونة؟”
كان صوتُ امرأةٍ غريبة، باردًا كصوت المرأة متوسّطة العمر التي أخبرتها سابقًا بكيفيّة موت ملكة هيرِن.
غير أنّ هذا الصوت كان مشبعًا بالازدراء.
“أقيموها.”
أمرت المرأة قبل أن تسأل يِيرينا عن هويّتها.
فاندفعت نساءٌ بثيابٍ بيضاء نحوها دفعةً واحدة.
“تسك. ليست حتّى بغيًّا قذرة، ومع ذلك هذا المنظر…….”
أُلقيت الإهانة على يِيرينا وهي تُرفَع قسرًا.
وبدل الغضب، شعرت بالذهول، فأطبقت فمها بوجهٍ مشدوه.
اقتربت المرأة الغريبة أكثر، وصرخت فيها بتعجرفٍ أشدّ.
“أيتها الشرّيرة! لم يكفِكِ وجهُكِ الحَسَن، فتتظاهرين بالعمى لتستدرّي الشفقة!”
لم تفهم يِيرينا شيئًا.
لكن من رائحة العطر الخفيفة وكلمات المرأة، خمّنت مكانتها.
‘كاهنة…….’
منذ القدم، كان الأباطرة في طليعة المتديّنين، فاشتدّ نفوذُ الكهنوت.
ولهذا، كان عددُ الكهنة والكاهنات فيها يفوق سِيداس بكثير.
‘لكن هذا القصر، لا معبد…… لماذا توجد كاهنة هنا؟
ورئيس الكهنة الذي ظهر أمام الإمبراطور أيضًا……؟’
ما لم تكن يِيرينا تعرفه هو تديّن الإمبراطور الحالي كيدريك حدَّ المرض.
كان مهووسًا بحاكم النور إلى حدٍّ غير عقلاني.
حتى إنّ المبنى الصغير الذي خُصِّص لصلوات الأسرة الإمبراطوريّة تحوّل إلى معبدٍ مهيب،
وازداد عدد الكهنة والكاهنات المقيمين إلى ما يقارب المئة.
“كما قال رئيسُ الكهنة، رائحةُ اللعنة نفّاذة. قذِرة. قذِرة!”
راحت المرأة ترفع صوتها أكثر فأكثر.
تفحّصت يِيرينا بعينين تقدحان، وكأنّ الزبد سيخرج من فيها.
تمنّت يِيرينا لو تسدّ أذنيها، لكن ذراعيها الممسوكتين حرمتاها ذلك.
بعد طول هيجان، هدأت المرأة أخيرًا.
ثم استدارت فجأةً وصرخت:
“مع ذلك، لقد مُنحت لها فرصةً……
ماذا تنتظرون! أحضِروها!”
جُلب جرنٌ كبير، يتّسع لطفلٍ كامل، يترقرق داخله ماءٌ أخضر فاتح.
شخّ.
غرفت المرأة بالمغرفة الخشبيّة وسكبت الماء على وجه يِيرينا.
لسعَها الألم، فشهقت.
“ما الذي تفعلينه فجأة……!”
لكنّها لم تُكمِل.
تتابع الرشّ جعل رأسها يدور، ورائحةٌ غريبة خنقتها.
“كما ظننت! شيطانٌ يسكن جسدها، بل تحت هاتين العينين!
واصِلوا السكب حتّى آمركم بالتوقّف!”
انحنت يِيرينا وهي تسعل، فناولَت المرأة المغرفة لغيرها،
ثم سخرت من سِيداس.
“على ذكر ذلك، قيل إنّ مملكةَ سِيداس بأسرها نبذت حاكم النور وأتخذت حكام.”
“…….”
“لذلك نزل العقاب! لا تغفر لهؤلاء الأشرار!”
واصلوا سكب السائل حتّى ابتلّ المكان وجسدُها كلّه.
صرخت يِيرينا:
“ما هذا العبث! توقّفوا!”
تلألأت عينا المرأة بجنون.
قبضت على وجه يِيرينا.
“بعد كلّ هذا الماء المبارك، ما زلتِ تتكلّمين؟
قال رئيسُ الكهنة ألّا نُحدِث جراحًا، لكن هذا…….”
“م، ماذا تنوين……؟”
“……التطهير.
يجب أن نُحرِق موضع الشيطان.”
ارتعدت يِيرينا، وشعرت بالجنون واضحًا.
تلوّت، فضحكت المرأة ضحكةً طويلة.
“أحضِروا النار والمكواة!
سأقلع العينين اللتين يسكنهما الشرّ وأُطهِّرهما.”
كادت يِيرينا تنسى التنفّس، حين شقّ صوتٌ هادئّ الأجواء.
“الأخت يوليا. كفى.”
تخلّت يوليا عن وجه يِيرينا وهي تصرّ أسنانها.
“أليسيا…….”
تقدّمت أليسيا، كاهنةٌ مثلها، بثوبٍ أبيض.
شقّوا لها الطريق.
وقفت أمام يوليا.
“لم يُكلِّف رئيسُ الكهنة الأختَ يوليا بهذه المهمّة.”
كانت لأليسيا هيئةٌ فريدة: شعرٌ أبيض، حاجبان أبيضان،
وعيناها مغطّاتان بوشاحٍ أبيض طويل تزيّنه نقوشٌ ذهبيّة.
“أنتِ من تلاعبتِ بالأمر!
التطهير من اختصاصي!”
“التطهير واجبُ كلّ كاهنة.
لا يمكن احتكاره.”
تردّدت يوليا أمام برودة أليسيا، فصرخت، لكنّ الردّ جاء حاسمًا.
“كفى.”
التعليقات لهذا الفصل " 19"