“سَمُوُّ الأَميرة! خَطِرٌ أَمرُكِ!”
سَمِعَت يِيرينا اسمَ سِيداس بوضوحٍ تامّ.
وقد شَحُبَ وجهُها، فراحَت تُقاوِمُ جين بكلِّ ما أوتيت من قوّةٍ وهي تُمسِكُ بها.
“اتركيني! اتركيني! يجبُ أن أُوقِفَهم!”
لم تكن الكتيبةُ الإمبراطوريّةُ التي تعرّضت للهجوم من الطليعةِ الكبيرة،
لكن عشراتِ الوحداتِ كانت تتبعها على مسافةٍ قصيرة.
وكم يبلغ عددُ ما يُسمَّون بقوّاتِ المقاومة؟
كانت يِيرينا لا ترجو سوى ألّا تُزهَقَ أرواحُ أبناءِ وطنها عبثًا بعد الآن.
“أ، أَميرتي!”
نجحت يِيرينا في الإفلاتِ من جين، بل وأمسكت بمقبضِ بابِ العربةِ وفتحته،
لكن الفوضى في الخارج والعيونِ غير المرئيّة جعلتاها تسقط قبل أن تخطوَ بضعَ خطوات.
كُوْنْغ.
“أُوخ…!”
تمدّدت يِيرينا على الأرض، ومدّت يدها تتحسّس المكان،
وفي محيطها دوّى صوتُ اصطدامِ السلاحِ صاخبًا.
“أَميرتي، عُودي، رَجاءً…”
كانت جين، التي ترى بعكس يِيرينا، ترتجفُ وهي تتبعها وسط القتالِ الملطّخِ بالدّم.
رأت جين جرحى كثيرين إبّان الحرب في سِيداس،
لكن مشاهدةَ المعركة عن قربٍ كانت الأولى من نوعها.
“يجبُ أن تعودي إلى الداخل… آه!”
في اللحظة التي حاولت فيها يِيرينا النهوض لتتفادى جين،
انقطع صوتُ جين خلفها، وتلاه صوتُ ارتطامٍ وسقوط.
فزعت يِيرينا واستدارت.
“آه…”
“ج، جين؟ جين! هل أنتِ بخير؟”
وبينما انحنت تبحث عنها، قبض أحدهم على كتفها.
اجتاح أنفَها دفعةً واحدةً عبيرُ الدّم، فتجمّد جسدُها.
“ه، هل أنتِ الأميرة؟”
لم تكن ترى، لكنّ لهجته أكّدت لها أنّه من مقاومةِ سِيداس.
تماسكت يِيرينا عند سماع نبرةِ الوطن وقالت:
“لا تُضيّعوا أرواحكم! اهربوا! أرجوكم!”
“ذلك…”
ارتبك الرجل من حدّة ردِّها.
شعرت يِيرينا بشيءٍ غريب، لكنّها استعجلته مجدّدًا.
“أسرعوا! ستصلُ تعزيزاتُ الإمبراطوريّة قريبًا…!”
“تبًّا! ماذا تفعل الآن؟!”
“أ، أَه؟”
“كُفَّ عن التصرّفِ بلا طائل، ونفّذ ما أُمرتَ به! الوحداتُ الخلفيّة ستنضمّ بعد قليل!”
تدخّل صوتٌ آخر قبل أن تُكمِل يِيرينا كلامها.
رائحةُ الدّم اشتدّت، واللهجةُ كانت إمبراطوريّةً صريحة.
عندها صمتت يِيرينا.
“لكن، الأميرة…”
“ولِمَ؟ هل ولّدَت رؤيةُ أميرةِ وطنك فجأةً وطنيّةً لم تكن لديك؟”
لم يُعرِ القادمُ الجديدُ يِيرينا أيَّ اهتمام،
ومن حوارهما القصير أدركت الحقيقة.
‘…ليسوا مقاومة. لديهم غايةٌ أُخرى.’
كان الأمرُ مريبًا منذ البداية.
هذا ليسَت سِيداس بل أرضُ الإمبراطوريّة،
ومع ذلك، ورغم صراخهم بأنهم جاؤوا لاستعادةِ الأميرة،
لم يقترب أحدٌ من العربة التي يُفترَض أنّها مقصدهم.
رنّ اصطدامُ السلاح في أذنها بعيدًا.
عضّت يِيرينا شفتيها وقد تشوّه وجهُها.
‘لِماذا… بعد أن دُوِسَت سِيداس كلّ هذا الدوس، ألا يكفي؟’
شدّت قبضتَها حتّى حفرت أظافرُها في كفّها.
وفي تلك اللحظة، نظر الرجلُ المتأخّرُ إلى ساحةِ القتال وهمس بصوتٍ مرعب:
“…صحيح. إن بدا الفشلُ وشيكًا، اقتلوا هذه المرأة على الأقل.
قيل إنّنا سنُحاسَب إن لم نُنجِز الأمر…”
“ماذا؟ لا، لا يمكن… غخ!”
سقط الرجلُ الذي اعترض،
وشعرت يِيرينا بدمٍ يتناثر على وجهها، فعرفت أنّ أحدهم مات أمامها.
“آه…”
ما إن لامسها الدمُ حتّى ارتسم مشهدُ ذلك اليوم من جديد.
رفع القاتلُ ذراعَه عاليًا وهو يبتسم ابتسامةً مقزّزة.
“يا أميرة، وجهُكِ جميلٌ حقًّا ليُهدَر،
لكن لا تلوميني، أنا فقط أُطيع الأوامر…”
شَكْ.
“كُخ!”
سمعت بوضوح صوتَ السيفِ وهو يهبط،
لكنّ الدّم لم يكن دمَها.
سقط الرجلُ إلى جانبها، وتدحرج سيفُه على الأرض.
“أَميرة.”
صوتٌ باردٌ كأنّه صادرٌ من قاعِ بئرٍ عميقٍ دغدغ أذنَي يِيرينا.
في لحظةٍ، شعرت كأنّها تُسحَب من هاويةٍ مظلمة.
قشعريرةٌ اجتاحت جسدَها.
كان مخيفًا، ومع ذلك… لا مفرّ من اتّباعه.
مدّ صاحبُ الصوت يده وأمسك بذراعها.
لمسته كان حذرًا، لكنّه باردٌ كصوته.
ارتعشت يِيرينا لا إراديًّا.
ترك يدها،
لكن صراخًا علا، وانتشر في الجوّ شيءٌ خانق.
“أُخ! يا لهم من جبناء! احذروا الدخان!”
انفجر الصداعُ في رأسها، وضاق نفسُها.
وبين الصدمةِ والدخان، تمايلت.
“…غطّي أنفكِ وفمكِ بكمّك.”
عاد الذراعُ والتفّ حول خصرها بإحكام.
شعرت بأنفاسه قربها.
“هـه… أهو سُمّ؟”
“مجرّدُ دخانٍ رديءٍ لإعماءِ العدو.
سُمّيته ضعيفة، وفي الهواء الطلق يبهت أثرُها سريعًا.”
كان صوته جامدًا، لكن قبضتَه مطمئنة.
أومأت يِيرينا، وبلا وعيٍ سألت:
“لكن… مَن أنتَ؟”
“…”
لم يُجِب.
بل حملها وفتح بابَ العربة وأدخلها.
“من الأفضل أن تبقي داخل العربة.”
“ج، جين؟ هناك امرأةٌ أُخرى غيري… هل يمكنك الاطمئنان عليها؟ لا أرى…”
وُضِعَت جين قبالتها.
“إنّها مُغمًى عليها فقط. لا تقلقي.”
أُغلق بابُ العربة.
أغمضت يِيرينا عينيها.
“روشان ڤيستيُوس!”
صرخ أحدهم باسمه خارج العربة.
اسمُ قاتلِ والديها.
عندها تذكّرت ما قاله أخوها.
‘قال أنطونيو إنّ الإمبراطور يرى أخاه شوكةً في عينه بسبب الشرعيّة…’
وسط الدوار، تمتمت:
“…مُتْ.”
ثم همست:
“مُتْ بأشدّ العذاب.”
—
سألت هيلينا العمياءُ إلفَ شجرةِ لوبِيو.
‘أيّها الإلف، هل تملكون علاجًا لعينَيّ؟’
‘يا أميرةَ الظلام، لعنَتُكِ لا تُفكُّ هنا.’
سقطت يِيرينا يأسًا.
‘ألا سبيل؟’
‘هناك طريقٌ واحد… خداعُ اللعنة.’
وهكذا بدأت الأسطورة.
التعليقات لهذا الفصل " 16"