لا أدري كيف انقضت الأيّام المتبقّية.
كانت ييرينا تبكي، ثمّ تثور غضبًا، ثمّ تظلّ شاردة بلا حراك، قبل أن يبدأ جسدها بالارتجاف فجأة.
حين رفع فريدريك تقريره عن حال ييرينا، أرسل روشـان طبيبًا على الفور.
كما نُقِلَت إليه كلّ المحادثة التي دارت بينها وبين بريك، غير أنّه لم يُبدِ ردّة فعل تُذكَر.
ومع ذلك، شعر فريدريك بأنّ مزاج سيّده يبدو جيّدًا على نحوٍ غريب.
وباستثناء الضجّة التي أثارها بريك وييرينا، مرّ الوقت بلا أحداث تُذكَر.
كان جيش الإمبراطوريّة قد أنهى استعداداته للرحيل.
وبفكرة العودة بعد ليلة واحدة، وبالجيوب الممتلئة من غنائم الحرب، ارتفعت معنويّات الجنود.
“ألا يوجد شيءٌ آخر تحتاجين إليه؟ أمتعتك تبدو قليلة.”
“لا يوجد، فكفّ عن الانشغال بي.”
قالت ييرينا بحدّة، من دون أن تُدير رأسها نحو فريدريك.
ورغم أنّ نبرتها قد تُؤخذ على أنّها استفزاز، اكتفى فريدريك بهزّ كتفيه ونظر إليها.
كانت تجلس على أريكة قرب النافذة، موجّهة وجهها إلى الخارج، تستشعر ضوء الشمس ونفحات الهواء.
الجوّ الحارّ، والنسيم العليل الذي يهبّ أحيانًا، يلامس أذنها ويحرّك خصلات شعرها، في مشهدٍ بدا كلوحة مرسومة.
‘جميلة.’
خرجت الكلمات من فريدريك دون وعي.
تحت خصلات الشعر البلاتينيّ المتطايرة برفق، بدا عنقها الأبيض وخطوط وجه الأميرة الجانبيّة باعثةً على خفقةٍ غير مبرّرة في صدره.
“أخرِجوها! أخرِجوا الأميرة! فورًا! لا بدّ أن أصفع تلك الوقحة ولو مرّة!”
لم تدم تأمّلاته طويلًا.
صوتٌ حادّ اندفع من النافذة المفتوحة، صراخٌ ممزّق يشقّ الهواء ويبعثره.
‘إنّها أمّ ذلك الأحمق.’
تعرّف فريدريك فورًا إلى صوت بيانكا، أمّ بريك.
المرأة التي استغلّت ابنها الأحمق لنقل معلومات المملكة إلى الإمبراطوريّة بنشاط.
كان فريدريك يسمّيها في الخفاء: الجرذَة الحمراء.
‘لا يهمّ إن صارت الدولة تابعة أو انحدرت إلى مجرّد إقطاعيّة.
المهمّ أن أُمسك هذا المكان بيد ابني، وأن أرى الملك والملكة قتلى!’
هدفها القذر، الأنانيّ، جعل حتّى نوكس الصارم يصفها أحيانًا بالجرذَة.
“ييرينا! ألا تخرجين؟ يناديكِ كبير العائلة ولا تردّين؟”
قطّب فريدريك جبينه من استمرار صراخها.
كان الأمر لافتًا على نحوٍ ما.
ففي مكانٍ كان ابنها الملك يرتجف فيه خجلًا عند وصوله، كانت تصرخ بلا تردّد.
لكنّها لم تستطع المضيّ أبعد من ذلك.
جنود فريدريك لم يكونوا هيّنين، ووصيفاتها واهنات، وكانت بيانكا على وشك الطرد.
وحين همّ فريدريك بالإشارة إلى رجاله لطردها، فتحت ييرينا فمها أخيرًا.
“……دَعوها تدخل. تقول إنّها تريد رؤيتي.”
“من الواضح أنّها لم تأتِ لخير. تجاهلُها أفضل، فمواجهة شخصٍ في تلك الحال لا تجلب سوى الصداع.”
“لديّ ما أقوله. ويجب أن أودّع خالتي أيضًا.”
رغم استخدامها لقبًا يوحي بالقُرب، خلا صوتها من أيّ ودّ.
وكان ذلك طبيعيًّا.
بيانكا كانت تبغض أختها غير الشقيقة، الملكة أدورا، وأبناءها، ولا سيّما ييرينا.
وكان إخوة ييرينا يكرهون بيانكا كذلك.
أخت الأمّ التي تسلّلت إلى مخدع الأب، وأنجبت له ابنًا غير شرعيّ.
كانت بيانكا وبريك وصمةً في تاريخ العائلة المالكة لسيداس.
تردّد فريدريك لحظة، ثمّ أذعن وأحضر بيانكا.
وحين تعرّفت إلى فريدريك، اعتدلت ملامحها قليلًا.
لكن ما إن واجهت ييرينا، حتّى تحوّل وجهها مجدّدًا إلى قناع شيطانيّ.
“أيتها الوقحة…!”
كادت تنقضّ عليها، لكنّها حين وقعت عيناها على نظرة ابنة أختها، شدّت شفتيها بابتسامة ساخرة، وقالت باستهزاء:
“ما أروع المنظر. سمعتُ أنّكِ فقدتِ بصركِ؟”
“هل جئتِ لتري هذا المشهد؟ لتصرخي في الخارج بلا حياء؟”
ردّت ييرينا بلا تردّد.
وعند كلمة “بلا حياء”، قبضت بيانكا على قبضتها.
فقد كانت تكره، حدّ المرض، كلّ ما يُذكّرها بأنّها غير لائقة بنبلها المزعوم.
“ماذا؟ أيتها الجريئة!”
اندفعت بيانكا للأمام صارخة، لكنّ الفارس الواقف إلى جانب ييرينا أطلق نظرةً باردة من عينيه الزمرّديّتين.
ارتعشت بيانكا، عضّت شفتها، ثمّ قالت بنبرةٍ أكثر تماسكًا:
“……حسنًا. جئتُ لأرى حالكِ، ولأوبّخكِ في الوقت ذاته.”
“وبماذا ستوبّخينني؟”
“أميرة تُساق أسيرة إلى الإمبراطوريّة، وتتجرّأ على الوقاحة مع ابني الملك؟
هل تعلمين كم بكى بريك بعد لقائكِ؟
سمعتُ أنّكِ اعتديتِ عليه أيضًا!”
“هذا لأنّني…”
تدخّل فريدريك، لكنّ ييرينا أوقفتْه بإشارةٍ خفيفة.
“دعْه، سيّدي. تفضّلي وأكملي.”
كانت بيانكا مثيرة للشفقة في نظر ييرينا.
قويّة فقط أمام الضعفاء، ضعيفة أمام الأقوياء.
تذكّرت كيف كانت ترتعد أمام أبيها وإخوتها حين كانوا على قيد الحياة.
‘هذا ظلم! كلّه بسبب أختي وييرينا!’
لم تكن تجرؤ آنذاك إلّا على البكاء والصراخ في وجه الملكة أدورا.
لكنّ الآن، تغيّر كلّ شيء.
ييرينا فقدت عائلتها وتُساق أسيرة، وبيانكا صارت أمّ الملك.
عندها فقط فهمت ييرينا سبب قدومها اليوم.
كانت بيانكا لا تحتمل رحيلها غدًا.
أرادت أن تتباهى، أن تشمت، أن تُثبت أنّها المنتصرة.
لكن الوقت كان يداهمها.
‘طفوليّة… ومقزّزة.’
ضحكت ييرينا بخفّة، فتجعد حاجبا بيانكا، وأشارت إليها بإصبعٍ مرتجف.
“ها! يبدو أنّكِ مخدوعة. ترافقكِ فرسان الإمبراطوريّة…
أم أقول يراقبونكِ؟
وهذا يجعلكِ تظنّين نفسكِ ما زلتِ نبيلة؟”
“…….”
“لا. أنتِ الآن مجرّد خليلة، بل عبدة فراش.
بهذا التجبّر؟
أمّكِ الميتة ستقلق في قبرها خشية أن يُقطَع عنقكِ.”
استمعت ييرينا بابتسامةٍ باردة، ثمّ انفجرت ضاحكة.
اتّسعت عينا فريدريك، كما ذُهلت بيانكا.
“لماذا تضحكين؟ هل جُننتِ؟”
“لأنّكِ مثيرة للضحك.”
“ماذا؟”
“سيدة بيانكا.”
توقّفت ييرينا عن الضحك فجأة، وتجمد وجهها.
“ألا يعجبكِ هذا اللقب؟
لكن لا خيار أمامي.
فلا يمكنني مناداة امرأة أنجبتْ لقيطًا بلا زوج بـ(سيّدة)، أليس كذلك؟”
كانت ضربةً في الصميم.
ارتجفت بيانكا، وبهت لونها، وبدا وجهها مرعبًا وهشًّا في آنٍ واحد.
“وما نفع التاج؟
لن تجلسي يومًا على عرش الملكة، ولن تُدعي الأمّ البيضاء، ولا الملكة الراحلة.”
ثمّ أردفت ييرينا بهدوءٍ خطير:
“ولِمَ أخاف؟
في عالمٍ تصبح فيه امرأةٌ مثلكِ أمًّا للملك، قد أصير أنا—كما تقولين—عبدة فراش، أمّ الإمبراطور القادم.
أليس كذلك؟”
كانت كلماتها خطيرة.
فالتفت فريدريك مذعورًا، ليجد روشـان واقفًا عند الباب.
همّ بالكلام، لكنّ روشـان أشار إليه بالصمت.
“أيتها السوقيّة! الملك الراحل أخطأ في تربيتكِ!
لو كنتُ مكانكِ لانتحرتُ!”
“ولِمَ أفعل؟”
“لأنّكِ يجب أن تموتي!
كان عليكِ أن تموتي مع أبيكِ وأمّكِ!”
“ولِمَ أموت؟
أنتِ وابنكِ بعتم البلاد وقتلتم عائلتي، ومع ذلك تعيشون.”
ثمّ قالت ييرينا بنبرةٍ هادئة مرعبة:
“خالتي.
وقد فقدتُ بصري، دعيني أتنبّأ.
يقال إنّ نبوءة الأعمى الأولى تتحقّق.”
“…….”
“سأطلب من الإمبراطور أوّلًا أن يمزّق ملك سيداس إربًا، ويُلقي به أمام أمّه.
ثمّ يُجبرها على التهامه، قبل أن يُمزّقها هي أيضًا ويلقي بها للوحوش.
وسيهزّ الإمبراطور رأسه موافقًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 12"