“أُخْ، أُختي، لماذا…… لماذا تفعلين بي هذا؟”
حين رأى بريك أنّ عينيها الزرقاوين، اللتين كانتا دائمًا حنونتَين، قد امتلأتا بالكراهية وحدها، أخذت يداه ترتجفان، وبدأ يتلعثم.
كانت تلك عادته كلّما ارتبك أو خاف.
“لماذا؟ أتسألني أنا عن السبب؟”
حين ارتطم الصوت المظلوم بأذنَيها، لم تستطع يِيرينا كبح غضبها، فرفعت صوتها.
فالخبر الذي نقلته إليها مرضعتها قبل مجيء بريك كان فظيعًا ومقزِّزًا.
‘تلك المرأة وولدها غير الشرعي سرّبا معلوماتٍ من داخل البلاد وقدّموها لجيش الإمبراطوريّة.
وكذلك في المعركة التي قُتل فيها صاحبُ السموّ الأمير الثاني، وفي كيفيّة دخول جيش الإمبراطوريّة القصر الملكي بتلك السرعة…….’
في البداية، أرادت أن تصدّق أنّ الأمر غير صحيح.
فمهما كانا محظيّةَ أبيها وابنَها غير الشرعي، فهما ـ في نطاقٍ أوسع ـ من أفراد العائلة، وقبل كلّ شيء من رعايا المملكة، ولا يُعقَل أن يُقدِما على ذلك.
لكنّ فارسَ الإمبراطوريّة الذي كان إلى جوارها، فريدريك، أثبت أنّ الأمر حقيقة.
حاولت يِيرينا ألّا تصدّق كلامَ الغازي، لكن مع استمرار كلام المرضعة لم تستطع إخفاء فظاعتها.
تطابقُ الملابسات بإحكام جعل إنكار الحقيقة مستحيلًا.
“سمعتُ كلّ شيء! ما اقترفته أمّك وأنت!
كيف تجرؤان على خيانة البلاد ومساعدة العدوّ؟
أيّها الحقير الذي لا يرقى حتّى إلى الحشرات!”
“لا، ليس صحيحًا! أُختي، أنا…… أنا لستُ كذلك!”
شحب وجهُ بريك عند كلمات يِيرينا، وراح يهزّ رأسه صارخًا أنّه ليس هو.
سكتت يِيرينا لحظة أمام إنكاره العنيف.
نعم، لعلّه ليس كذلك.
فحتى إن كانت بيانكا، التي كرهت جميع أفراد عائلة أبيها، قادرةً على ذلك، فبريك…….
“حقًّا؟
لم تفعل شيئًا أبدًا؟”
سألت بعد أن هدّأت انفعالها بصعوبة.
هزّ بريك رأسه بعنف، محاولًا القول إنّه لا يعلم شيئًا.
لكن في تلك اللحظة، تلاقت عينا فريدريك وبريك.
كان فريدريك، بصفته فارسًا رفيعَ الرتبة، يعلم من في مملكةِ سِيداس سرّب المعلومات إلى جيش الإمبراطوريّة.
ومن أسباب ازدرائه لبريك أفعالُه التي ألحقت ضررًا بالبلاد لأجل منفعةٍ شخصيّة.
تحت نظرة فريدريك، لم يستطع بريك إنكار كلّ شيء.
فهو لم يكن بريئًا تمامًا.
ومع ذلك، شعر بالظلم.
لم يفعل سوى ما أمرته به أمّه.
وحين تخيّل أنّ يِيرينا قد تكرهه لأمرٍ تافه كهذا، كاد يبكي.
“إنّه…… إنّه سوءُ فَهْم.
أنا فقط…… لَبَّيتُ بعض طلبات أمّي.
لم أفعل سوى إيصال بضع رسائل خارج القصر.
ثمّ إنّني لم أكن أعلم شيئًا عن محتواها أصلًا.”
تذمّر بريك كطفلٍ مغتاظ.
وعند سماع كلماته، بدا وجهُ يِيرينا كمن تلقّى ضربةً على مؤخرة رأسه؛ مذهولًا وخَدِرًا.
مع أنّها لا ترى، شعرت كأنّ الدنيا تدور بها.
“……إذًا هو صحيح.
كنتَ تسرّب المعلومات كلّما دخلتَ القصر.”
“أُخ، أُختي، ليس الأمر كذلك…….”
“أمّي التي أحسنت إليك……
كيف تجرؤ على استغلالها؟”
كان سببُ تمكّن بريك، المكروه من الملك، من دخول القصر أحيانًا هو رأفةُ الملكة أدورا.
إذ رقّت لحاله، وهو ابنُ أختها وفي الوقت نفسه ابنُ زوجها غير الشرعي، فكانت تستدعيه أحيانًا.
وكان بريك، رغم تحفّظه من أنظار الملك والأمراء، يكتب إلى الملكة طالبًا الإذن بدخول القصر لأنّه كان يشتاق لرؤية يِيرينا.
حين فكّرت يِيرينا أنّه أسهم في موت عائلتها، ندمت على الأيّام التي منحته فيها مودّتها تبعًا لأمّها.
وصبّت عليه غضبها المفعم بالكراهية.
“أنتَ من قتل والديّ وإخوتي!
أنتَ، مثلك، تجرؤ على أن……!”
“أنا أيضًا من عائلتكِ!”
رفع بريك رأسه فجأة، وقد كان منكّسًا بوجهٍ مظلوم.
لم يستطع تحمّل أن تخرجه يِيرينا من دائرتها بتلك الكلمات.
“وإن كنتُ نصفَ ذلك فقط،
فالدم نفسه يجري في عروقي.
أنا أيضًا من عائلتكِ!”
“لا!”
“…….”
“أنتَ لستَ من عائلتي!
أنتَ مجرّد ابنٍ غير شرعيٍّ قذر، أسهم في قتل عائلتي!”
“…….”
“كان إخوتي على حقّ!
وكان أبي على حقّ!
دمُ تلك المرأة لا يذهب سُدًى……
لم يكن ينبغي لي أن أثق بك!”
في اللحظة التي تيقّنت فيها ممّا اقترفه بريك، لم تُبقِ يِيرينا في قلبها ذرّةَ مودةٍ له.
وحين راحت تصرخ وتفيض بالكراهية، ترنّح بريك كأنّ الوقوف ذاته صار عبئًا عليه.
“لَيسَ ذنبي.”
رفع صوته فجأة، ثم اقترب منها وهو يتلعثم لكنّه يتكلّم بسرعة.
“أُختي، لا يجوز أن تلوميني.
لم أطلب من جيش الإمبراطوريّة قتل أبي، ولا الملكة، ولا إخوتي.
كما قلتُ قبل قليل، أنا فقط نقلتُ بعض الرسائل.
هذا كلّ ما فعلته.”
“…….”
“بضع أوراق……
إن كانت دولةٌ ستنهار بسبب ذلك،
فكانت ستؤول إلى هذا المصير يومًا ما على أيّ حال.
لذا لا ينبغي لكِ…… أن تلوميني.”
“…….”
“وخاصةً أنتِ، لا يحقّ لكِ أن تلوميني!
لقد كنتُ…… كنتُ أفكّر منذ فترةٍ قصيرة أن أهبكِ العرش،
وأذهب أنا بدلًا منكِ إلى الإمبراطوريّة،
ومع ذلك…….”
كان المشهد يزداد بؤسًا.
لم تعد يِيرينا تحتمل، فنهضت فجأة.
كانت قبضتاها المرتجفتان مشدودتَين بقوّة حتّى ابيضّ لونهما.
“إذًا افعل ذلك.”
“أُخ، أُختي؟”
“اذهب أنتَ إلى الإمبراطوريّة بدلًا منّي!
وتنازل لي عن ذلك المقعد!
لا أقبل أن يرث أمثالك مكانَ أبي، فليكن هذا هو الحلّ!”
تجمّد وجهُ بريك، الذي كان يتباكى متفاخرًا، حين أدرك أنّ يِيرينا جادّة.
ثم بدأ يطلق الأعذار، مدّعيًا أنّه الأجدر بعرشِ سِيداس.
“اسمعيني جيّدًا دون سوء فهم.
أنتِ عمياء الآن.
لا تستطيعين حكم البلاد كما ينبغي.
أنا الأجدر بذلك.”
“…….”
“ليس طمعًا في المنصب أقول هذا.
كما أنّني لن أترككِ في الإمبراطوريّة طوال حياتكِ.
سأقدّم شيئًا آخر بدلًا منكِ، حتّى تعودي.
لذا عامِليني بلطفٍ كما في السابق،
ودعيني أُسَرِّع ذلك اليوم.”
“…….”
“هيا، أُختي……
لا تغضبي، ابتسمي.
أريد أن أراكِ تبتسمين لي.”
ظنّ بريك، من تلقاء نفسه، أنّ كلماته هدّأتها، فمدّ يده نحوها.
لكنّ يِيرينا ما إن شعرت بحرارة يده تلامس جلدها حتّى لوّحت بذراعها.
“ابتعد!”
كان ردّها طبيعيًّا في نظرها، لكنّ بريك لم يستطع فهمه.
أليست ذاهبةً إلى الإمبراطوريّة أسيرة؟
ألا ينبغي لها أن تُحسِن إليه؟
كما سعى هو سابقًا لاسترضاء الملكة ويِيرينا،
ألا يجب الآن أن تتودّد هي إليه؟
“أُخ، أُختي!
لا يجوز لكِ معاملتي هكذا.
بوصفي ملكَ سِيداس…… آمُرُكِ.
كوني مطيعةً…….”
تحوّل ظلمه إلى غضب.
وحاول للمرّة الأولى استخدام مكانته الجديدة لقهر غيره.
لكنّ يِيرينا لم تعبأ بشيءٍ من ذلك.
“اتركني!
لا تلمس جسدي!”
دَوِيّ.
“غَه!”
انقلب بريك فوق الطاولة وهو يمسك بذراع يِيرينا.
انضغط وجهه وجذعه، وانثنت ذراعه إلى الخلف.
أطلق أصواتًا مختنقة كأنّه يُحتَضَر.
“أقول لكَ إنّني أرفض.
ألم تتعلّم أدنى آداب معاملة السيّدات؟”
كان فريدريك، وهو يقيّد بريك، قد تخلّى تمامًا عن المجاملة.
وحين زاد من ضغطه، دبّ الرعب في بريك فشرع يتصلّب.
“و، وقح!”
“…….”
“أنا…… أنا ملكُ سِيداس!
كيف يجرؤ فارسٌ وضيع……!”
“تُحسِن استخدامَ المنصب الذي نلته حديثًا.
لكن للأسف، لا ينفع ذلك معي.”
“ا، اتركني!
أمّي!
أمّي!”
انفجر بريك بالبكاء، مناديًا بيانكا.
نظر إليه فريدريك بملامحَ مذهولة.
قد يُقال إنّه في التاسعة عشرة، لكن أن يبكي ملكٌ وينادي أمّه؟
كان ذلك مُخجِلًا.
تحوّل الغضب والازدراء إلى فراغ.
أفلت فريدريك يده ودفع بريك جانبًا كأنّه يرميه.
تدحرج بريك على الأرض بشكلٍ مثيرٍ للشفقة.
“مولاي.
إن كنتَ لا تريد أن تُهين نفسك أكثر، فارجع.
لا يبدو أنّ أولئك الموجودين هناك سيساعدونك،
فاذهب وابحث عن أمّك.”
قالها فريدريك وهو ينظر إلى بريك الذي رفع رأسه نحوه.
ارتجف بريك من الإذلال، ثم نظر إلى الباب.
ومن خلال الباب نصف المفتوح، أطلّ الخدمُ الذين يخدمون الملك الجديد.
لكنّ أحدًا لم يتدخّل لإيقاف فريدريك أو للدفاع عن بريك.
“أ، أنتم…….”
حدّق بريك فيهم.
تردّدوا قليلًا ثم اقتربوا ببطءٍ شديد لمساعدته.
ضمّ فريدريك ذراعيه وضحك ساخرًا وهو يراهم يزحفون.
ولمّا التقت عيونهم به، أسرعوا أخيرًا.
كان بريك يضربهم كطفلٍ مدلّل، لكنّه نهض في النهاية بمعونتهم.
“خذوه بسرعة.”
أمر فريدريك باقتضاب.
سحب الخدمُ بريك وهم يكادون يجرّونه.
وبوجهٍ شارد، استدار فجأة وصاح.
“أُخ، أُختي!
قولي شيئًا لذاك الرجل!
ما زال لديّ كلام……
لا أستطيع فراقكِ هكذا!”
كان صوته ملحًّا،
لكنّ يِيرينا ما إن سمعته حتّى سدّت أذنيها.
كان مقزِّزًا.
مقرفًا إلى حدٍّ لا يُطاق.
ومجرّد وجوده معها في المكان نفسه كان يبعث القشعريرة في جسدها.
“آه…….”
تجاوز الضغط حدّه، فطفا ذلك اليوم أمامها بوضوح.
رفعت قدميها على الكرسيّ، وسدّت أذنيها، ودفنت وجهها في ركبتيها.
وانهمرت دموعها من جديد.
بدا جسدها النحيل أكثر بروزًا في تلك الهيئة.
ثبتت عينا فريدريك على ظهرها العاري قليلًا، ومدّ يده دون وعي،
لكنّه تذكّر أنّه فارسُ الإمبراطوريّة، فأنزل ذراعه.
‘أن أواسيها خداع.’
ثم إنّه كان قد توقّع ما سيحدث اليوم إلى حدٍّ ما.
فهو أحدُ مَن تلقّوا أمرَ سيّده باستخدام مرضعة الأميرة لإبلاغها بما اقترفه ملكُ سِيداس الجديد وأمّه.
كان فريدريك يرى أنّ معرفة الحقيقة، وإن كانت مؤلمة، أفضل.
لكن في هذه اللحظة، تساءل إن كان ذلك صوابًا حقًّا.
فالأميرة، التي بدت هشّةً من قبل، تحطّم قلبُها أكثر بالحقيقة الجديدة.
ومع ذلك، لم يكن هو، بصفته من جيشِ الغزاة، في موضعٍ يسمح له بمواساتها.
“هق…… أُمّي.”
وهكذا، بكت يِيرينا وحدها حتّى غلبها الإرهاق، فغفت كمن ينهار.
وكأنّ السماء رأت دموعها، بدأ مطرٌ خفيف بالهطول.
واستمرّ المطر طويلًا، يلوّن أسقف القصر الزرقاء بلونٍ داكن.
كان مطرًا صامتًا بلا ريح،
يحمل حزنًا غامضًا.
التعليقات لهذا الفصل " 11"